بیجن عبد الکريمي.. قضيتنا الأهمّ: “تحوّل إيران إلی إيران”
تُرجِمَ الحوار من الفارسية إلى العربية للنشر الخاصّ في – إلّا –
ترجمة: فـاطمة نعـامي
الدكتور بيجن عبد الكريمي (مواليد 1963 م في طهران) هو فيلسوف إيراني وأستاذ مشارك في قسم الفلسفة بالجامعة الحرّة، فرع شمال طهران.
حصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في الفلسفة من جامعة طهران عامي 1988 م و 1994 م على التوالي، وتخرّج من مرحلة الدكتوراة من جامعة عليكره الإسلامية عام 2001م.
ناقد قويّ للرؤية السياسيّة والثقافة، والعلوم الإنسانيّة الإسلاميّة، وأسلمة الجامعات، ويعتقد بأن النهج الوجودي يجب أن يحلّ محلّ المناهج اللاهوتية والأيديولوجية.
ويؤكد على ضرورة إعادة قراءة التقليد الفكري لمفكرين مثل علي شريعتي وأحمد فرديد، وينتقد نظرة بعض العلماء مثل عبد الكريم سروش، ومصطفى ملكيان، ومحمد مجتهد شبستري للنصوص المقدسة.
أجرى الحوار / محمد النبهان – الأهواز / خاصّ – إلّا –
1 – اللغة الأم هي قضية تُثار باستمرار في الفضاء العلمي للبلاد، مع الأخذ في الاعتبار أن
اللغات المتجذّرة مثل الفارسية والتركية والعربية والبلوشية والكردية وغيرها في جغرافية إيران ككائن
حيّ يحمل التاريخ، والثقافة، والخطاب الخاص به، هل يعتبر الدكتور بيجن عبد الكريمى هذا الأمر تهديداً أم فرصة؟ ولماذا ؟
في بداية الأمر، أود أن أقدّم لكم النقاط التأويلية، أيّ أن المفاهيم والأفكار وحدها لا معنى لها ولا تعني شيئاً بذاتها. اعتماداً على أن أين ومتى وتحت أية ظروف نستخدم فيها هذه الكلمات والأفكار، سيكون معناها مختلفًا. لذلك، فإن الاعتماد على التعدّدية اللغوية، والتعدّدية العرقيّة، والتعدّدية الدينيّة بشكل عام وفي حد ذاته، برأيي، ليس تهديدًا بأيّ شكل من الأشكال ولكنه فرصة.
وتعد التعدّدية في الأساس من خصائص هذا العالم، ووفقًا للتعاليم القرآنية فإنّ وجود هذه التعدّدية يجعلنا
نتعرف على بعضنا البعض:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. (سورة الحجرات، آیه ۱۳)
“التعارف” يعني معرفة بعضنا البعض، وفي ضوء معرفة الآخر، نصبح أيضًا عارفين بأنفسنا. في الأساس، فـ “الآخر” ليس أمرا مضافاً إلينا، ولكنه جزء من جوهر وجودنا. لا معنى لـــ “الأنا” من دون “الآخر” ويصبح لــ “الأنا” معنى يتكامل مع “الآخر”، ولكن إذا لم يتمّ طرح هذه التعدّدية في ظروفها الخاصّة وسياقها الخاصّ المناسب لها، فقد تؤدّي إلى
عواقب أخرى.. بالطبع، لكل إنسان حقّ طبيعيّ أن يتكلّم ويتحدّث بلغته الأمّ، وهذا الكلام صحيح تمامًا. إن إحدى مشاكلنا في الأساس هي أنه بدلاً من طرح خطة “اللغة الأم” في بيئة أكاديمية وفي أماكن
اجتماعية سليمة، للأسف هي تطرح أكثر في بيئة بوليسية أمنية، لقد حولت كل من المعارضة (opposition)
السياسيّة هذه القضيّة الثقافيّة إلى قضيّة سياسيّة، وقوّتنا السياسيّة حوّلت القضيّة الاجتماعيّة الثقافيّة إلى
قضيّة سياسيّة، وتياريّ المعارضة (opposition)، والموالاة (position) يتبعان منطقاً واحداً على الرغم من الاختلافات السياسية والأيديولوجية.
هذا المنطق الوحيد هو تحويل أمر اجتماعي ثقافي إلى أمر سياسي أيديولوجي وبوليسي أمني. لذلك فأنا
أدعو المثقفين، والمهتمين باللغة الأم للقبائل أو الأقليات الدينيّة، بأنّه يجب عليكم التحرّك نحو نزع التسييس من تلك الأمور الاجتماعية، بحيث يمكن مناقشتها في بيئة علمية وأكاديمية هادئة. علينا أن نميّز بين عدة أمور، مثل الدكتور ميري، التي يميّزها جيدًا، الأولى هي اللغة الأم (Mother language)، والثانية هي اللغة الرسمية (Official Language)، والأخرى هي اللغة الوطنية (National Language). على سبيل المثال في الهند، هناك العديد من اللغات الأم، ولكن هناك لغة رسمية واحدة (اللغة الإنجليزية) ولغة وطنية واحدة. ويجب أن تنتبهوا إلى أن اللغة الفارسية لها منزلة خاصة في تاريخنا، وهذا ليس لأسباب عنصريّة، ولهذا السبب فإن اللغة الفارسيّة هي ذات أهمية لأنها لغة الشعب الفارسي. و الاعتماد على اللغة الفارسية كلغة وطنية ليس انتقاصاً للغات الأتراك والعرب والأكراد والبلوش وغيرهم، بل هي حقيقة تاريخيّة.
اليوم سواء شئنا أم أبينا، فإن لللغة الإنجليزية منزلة خاصّة في العالم، ليست للفرنسية أو الألمانية أو الإسبانية أو الروسية أو الصينية، هذا لا يعني أن البريطانيين يُفضَّلون على الآخرين، ولكن هذا يعني فقط أن العوامل التاريخية المختلفة شاءت أن تعطيها مكانة خاصة في المجتمع العالمي اليوم. وعلى هذا النحو في تاريخنا و بلادنا، وحتى خارج الحدود السياسية لإيران اليوم، أي في دول مثل أفغانستان وطاجيكستان وأوزبكستان، تُعَدّ الفارسيّة هي اللغة الرسمية، ويتحدّث بعض البحرينيين اللغة الفارسية أيضاً.
حتى اللغة الرسمية للهند كانت اللغة الفارسية قبل وصول الاستعمار البريطاني إلی هناك، وهذه اللغة لها
بصمة واضحة في ثقافة الهنود ولغتهم وتسميتهم كذلك، وتُعرف اللغة الفارسية عند أهل اللغة ولغويو العالم، إلى جانب اللغات اليونانية، اللاتينية والسنسكريتية الثلاث، بأنها واحدة من اللغات الكلاسيكية الأربع في العالم. الفارسية هي واحدة من أغنى اللغات في العالم من حيث التعدّدية وثراء الكلمات، والأهم من ذلك فإن في الوضع الحالي، أكثر من 80 في المائة من الشعب الإيراني الحبيب، يتحدثون الفارسية ويعرفون الفارسية فقط.
على مرّ تاريخنا، تمتّعت اللغة الفارسية بموقع تاريخي خاصّ من خلال ربطها بالشعر والحكمة والثقافة.
لذلك، لا أعتقد أن أية لغة غير الفارسية يمكن أن تلعب دور اللغة الوطنية واللغة الرسمية في بلادنا
وتضمن الوحدة الوطنية وكيان بلادنا.
إيران بلد مسلم والحكومة الإيرانية هي جمهورية إسلامية. بالنسبة للمسلمين، إن أقدس لغة في العالم هي اللغة العربية، واللغة العربية هي لغة القرآن ولغة الله. لكن في بلدنا، حتى لا يخطر في بال المسلم المتعصّب بأن اللغة العربية يمكن أن تحلّ محلّ الفارسية كلغة وطنية ولغة رسمية، ولو تحدّث الجهلة عن هذا فإنهم سيواجَهون بقوة من جانب الحكومة والحوزات العلمية وحتى القوة السياسية لإيران.
لذلك، فإن المهتمون باللغات الأصلية والمطالبون بنوعٍ من التعدّدية عليهم أن یعلموا بألا يجب أن تتداخل هذه التعدّدية مع الوحدة الوطنية لبلدنا، وينبغي ألا تهدّد كياننا ووحدتنا الوطنية الإيرانية، وهذا هو نفس القلق الذي تعاني السلطة السياسية منه، لكن السلطة تتعامل معه بجانب واحد.
إن قوّتنا السياسيّة أقلّ اهتماماً بحقيقة تعدّدية اللغات الأصليّة واللغات الأم، إلى جانب الحفاظ على اللغة الوطنية واللغة الرسمية للبلاد، يمكن اعتبارهما فرصة لتعزيز الوحدة الوطنية واستقلال البلاد. ربما يرجع ذلك إلى أن القضايا كانت تثار دائما في الأوساط غير العلمية وغير الأكاديمية، وأكثر من ذلك عن طريق التيارات السياسيّة المغرضة، بدعم من القوى الأجنبية العالمية والإقليمية.
في رأيي، تعدّدية اللغات المحلية في بلدنا، تماما مثل تعدّد الثقافات المحلية، وتعدّد الموسيقى والأغاني
المحليّة، وتعدّد الأطعمة المحليّة، والملابس والثقافات الفرعيّة المحليةّ، وما إلى ذلك، إنه لأمر رائع جدًا، وإنني
أعتبر هذه التعدّدية فرصة رائعة وإنسانيّة، طالما أننا لا نُعرّض لخطر الاعتماد من جانب واحد على تلك الوحدة الوطنية وكيان البلد الذي ينبغي أن يكون على أعلى مستوى في عملنا السياسي والاجتماعي والثقافي.
بالطبع، يجب أن تعرف قوتنا السياسية وصانعو القرار السياسي فيها أيضًا بأن الحفاظ على الوحدة الوطنية ليس ممكنًا فقط من خلال قمع التعدّدية، بل من خلال الاعتراف بالتعدّدية الطبيعيّة التي منحها الله في هذا البلد والحفاظ على الوحدة الوطنية لإيران الحبيبة. دعونا نتذكر أن لدينا عنصرين ثقافيين أساسيين، أحدهما هو “الحكمة والروحانية الإيرانية” والآخر هو “الإسلام”، وفي كلا العنصرين نرى ظهور ثقافة إنسانية عظيمة لا علاقة لها بالتطرّف والعنصريّة. طبقًا لتعاليم الإسلام والقرآن، “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” (الحجرات، 13) ويقول أبو الحسن الخرقاني الصوفي
الإيراني العظيم: “أعطوا من دخل هذا الدار الخبز ولا تسألوا عن إيمانه، ومن يستحقّ الحياة في نظر الله
تعالى، بالطبع، يستحقّ الخبز، في خوان أبي الحسن”؛ ويصنف جلال الدين الرومي الصوفي والمفكّر الإيراني العظيم بناء على تعاليم النبيّ الكريم والحكمة الإيرانية بأنّ البشر من نور الله الواحد، ويعتبر الحروب وتجزئة البشر نتيجة امتزاج النور البشري الواحد بألوان عرقية وقبليّة وطائفيّة وطبقيّة وما إلى ذلك:
مُذ ابتلى اللالون باللون / بدأ النزاع بين أتباع موسى
و إن وصلتَ إلى ما تتمتّع به من اللالون / يتصالح موسى و فرعون..
واعجباه كيف يخرج اللون من اللالون / و كيف يتصارع اللون و اللالون
لذلك، فالمسألة ليست فقط الوحدة أو التعدّدية، بل هي الحفاظ على الوحدة والتعدّدية في نفس الوقت. ولذا
يجب أن نلاحظ جدليّة هذين الأمرين.
2 – بالنظر إلى المدى الجغرافي والمناخي والتنوع القبلي والعرقي في إيران، كيف يمكن
استبدال مساحة الحوار والخطاب المتساوي بدلاً من مواجهة الآخر، ما هو دور المثقفين الإيرانيين في هذا الصدد؟ على وجه التحديد، يمكن أن نشير إلى بعض برامج الإذاعة والتلفزيون وحتى تقارير كرة القدم التي كانت مستوحاة عادة من مواجهة مع ثقافة الآخر ولغته وتاريخه ومواجهة أي شيء لا يعتقدون أنه يخصهم أو الحالة المادية لملاعبنا أو شعاراتنا العنصرية…؟
رداً على السؤال الثاني، يجب أن أقول أنه إذا قارنّا حياتنا الاجتماعية بدائرة 360 درجة، فسوف نواجه العديد من المشاكل في نفس الدائرة بزاوية 360 درجة. هذا يعني أنه إذا نظرت حول هذه الدائرة، فسوف ترى الكثير من المشاكل في جميع زوايا الدائرة. لم يكن التنوع العرقي ووجود خطاب غير متكافئ بين المركز والهامش مشكلتنا الوحيدة. لدينا مشكلة في علاقات العامل بصاحب العمل، والأستاذ بالطالب، والرجل بالمرأة، والمالك بالمستأجر، والحكومة بالمواطنين، وعلاقة الأغنياء بالطبقات الضعيفة، وما إلى ذلك. أي أننا نرى نوعًا من الظلم والعلاقات غير العادلة في كل مكان. حتى أجرة التاكسي التي تبلغ 000 2 تومان سيستلم منك سائق التاكسي 000 5 تومان، مما يعني أننا نشهد وجود العديد من المشاكل في كل مكان. لكن النقطة هي أنه إذا أردنا حلّ كل من هذه المشاكل، فليس من الممكن ولن يكون العمر کافیا لنقوم بهذا الأمر.
في الواقع القضايا الاجتماعية هي عبارة عن علاقة شبكية، وليس على نحو أن أترك حياتي وأقوم بإصلاح التعليم مثلاً، ثم أكون قادرًا على إحداث تأثير صغير على تعليم البلاد.
فهل هل يمكن حلّ قضايا التعليم، أو الخلافات بين صاحب العمل والعامل فقط، دون القيام بإصلاحات في المجال
السياسي، ودون القيام بإصلاحات في المجال الاقتصادي، و دون القيام بإصلاحات في المجال الثقافي؟!!
لذلك نحن نتعامل مع هيكل يعيد إنتاج علاقات غير لائقة وغير عادلة في كل مكان.. ما أعنيه بهذا الهيكل ليس
مجرّد هيكل سياسي، بل هيكل اجتماعي – اقتصادي – سياسي هو محصّلة تاريخ منذ قرون.
على أيّ حال فإن وجهة نظري هي أنه إذا أردنا حقًا استبدال العلاقات غير العادلة في البلد بشكل من
العلاقات المتساوية والعادلة، فيجب علينا الانتباه إلى نقطتين أساسيتين:
أولا، قضيتنا اليوم هي قضية “التخلّف التاريخي”، إذ أننا مجتمع متخلف، لذا فإن علاقة المستأجر بالمالك،
والمعلم بالطالب، وعلاقة المرأة بالرجل، وعلاقة الوالدين بالطفل، وعلاقة المركز بالهامش، وما إلى ذلك
كلها غير عادلة.
يرجع الكثير من هذه العلاقات غير العادلة إلى هذا “التخلف التاريخي”. فما أن تغادر طهران، ستكون الرعاية الصحية أقل بكثير، وسينخفض مستوى التعليم أكثر بكثير، وسيكون المجتمع أكثر انغلاقًا، وسيتمّ استبدال العلاقات العرقيّة والقبليّة (لنفترض في الانتخابات) جزئيًا بالعلاقات الحديثة، وما إلى ذلك.
هذا ليس لأنّ المرکز يريد ذلك، بل لأنه نتيجة لمجتمع “متخلّف “. لذلك ليس الأمر كذلك على الإطلاق أن المركز يريد قمع البلوش أو العرب أو الأكراد أو الأتراك خارج المركز، لكن القوى الثورية والمثالية للقوّة السياسية الإيرانية تريد أيضًا القضاء على الحرمان، لكنها لا تستطيع ذلك. لماذا؟ لا لأنهم لا يريدون ذلك، بل لأنهم لا يستطيعون ذلك بسبب مشكلة التخلّف في البلاد. لذا، فإن المشاكل غير العادلة والصراعات الجائرة وعدم المساواة بين المركز والهامش هي نتيجة تخلّفنا نحن.
وإذا ما تقدمنا 15 كيلومترا من محافظة طهران، فسوف نواجه مناطق الضواحي وستری النقص في الإمكانيات، وهناك مشكلة المياه والكهرباء والعديد من المشاكل الأخرى. هذه المشاكل تتعلّق بتخلّف البلاد وليست قضية مشكلة عرقية وعنصرية، أو نتيجة صراع بين الشيعة والسنة …إلخ، كما لو أنّ الفرس في المركز يريدون أن يأكلوا
حقوق البلوش والعرب والأكراد والأتراك..!
أعتقد أننا طالما لن نتمكن من التغلّب على مشكلةِ تخلّفنا التاريخي، ستبقى هذه المشاكل كما هي، وفي
رأيي، فإنّ قضية العرق والتعدّدية اللغوية والدينية والثقافية يجب أن تكون في اتّجاه حلّ تنمية البلاد.
إنّ حقيقة أنّك تريد أن يتمّ توزيع إمكانيات الدولة بشكل عادل في جميع أنحاء البلاد يشبه تمامًا خطّة الاشتراكية في مجتمعنا، بحيث يتمّ تقاسم الثروة بالتساوي في كل مكان، لكن مشكلتنا الأساسيّة اليوم ليست التوزيع العادل للثروة ولكن القضيّة عدم وجود الثروة أصلاً لإنتاجها، وهذه المشكلة لا تُدرِكها السلطة السياسيةّ ولا المثقفون إلا قليلا.
لا تقل أن عبد الكريمي يدافع عن مواقف النيوليبرالية!
أبداً على الإطلاق.. أبداً على الإطلاق.. أبداً على الإطلاق. فأنا لدي ميول اشتراكية قويّة وأريد أن أستأصل الفقر، وأقلّص وأزيل الفجوات الطبقيّة والفجوة بين الهوامش والمركز، وأعارض طريقة الحياة وقِيَم النظام الرأسمالي والقيم البرجوازية. لكن حجتي هي أنه وعلى سبيل المثال؛ إذا كنت في ملعب يتّسع لمائة ألف مقعد مع عشر زجاجات مياه فقط، فسيكون الطقس حاراً والجميع عطشان ولا أحد، ولا حتى ولي العصر، الذي علی زعم الشيعة مؤيد بالله ومسدّد من جانبه، يمكنه توزيع عشر زجاجات مياه بين مائة ألف شخص وسيظل الجميع عِطاش!
فلنقل أنه علينا تقسيم هذه الزجاجات العشر إلى حد ما. أنا لا أعارض العدالة، لكن مشكلتنا الأساسية هي
أنه يجب أن نكون متّصلين بمنبع، يجب أن نكون متّصلين بصنبور أو نهر أو بحر.
إن مشكلتنا الرئيسية اليوم هي أننا 80 مليون نسمة، ودخلنا هو النفط فقط، وجزء منه هو الإنفاق الدفاعي
للبلاد، وهو أمر لا مفر منه.
في الواقع، الأمّة بأكملها عبارة عن أفواه مستهلِكة، وفي الغالب ليس لها دور في مسار الإنتاج، وهي مجرد مستهلك ونظام الحكومة هو عبارة عن “ليفياثان ” عملاق يأكل نفسه.
في مثل هذه الحالة، من الواضح أنه سيكون لدينا العديد من الأزمات، وكل ذلك بين طبقات المجتمع المختلفة، مثل علاقات المالك بالمستأجر، والعمال بأصحاب العمل، وعلاقة المرأة بالرجل، أضف إلى ذلك علاقة المركز بالهامش
فهى علاقة غير عادلة ومبنية على نقص الموارد الإقتصادية. ولكن في المجتمعات المتخلّفة، ستكون جميع
العلاقات مبنية على اقتصاد الوفرة.
حقيقة أن في البلدان المتقدّمة الحكومة تهتم بالجميع، ولكن لا يوجد شيء من هذا القبيل في المجتمعات المتخلّفة، ليس لأن الحكومات في البلدان المتقدّمة، تريد رعاية شؤون الناس، ولا لأن الحکومات في البلدان المتخلّفة لا تهتم بشؤون الناس، بل لأن في البلدان المتقدّمة، تمتلك الحكومات الكثير من الثروة لدرجة أنها قادرة علی رعاية شؤون الناس. أما فى مجتمعات مثل مجتمعاتنا تواجه الحكومات أيضًا صعوبة في دفع رواتب موظفيها. إذاً هناك فرق بين عدم الامتلاک وعدم الرغبة.
لذلك، يجب ألا تكون عرقيّتنا والدفاع عن حقوق العرب والبلوش والأكراد وجميع الأجزاء المهمّشة في البلاد على هذا النحو الذي يضيف في حدّ ذاته إلى مشاكل بلادنا ويمنعنا من العثور على الطريقة الرئيسية، التي للأسف لم نجدها بعد. والتي هي خطوة في طريق التنمية.
3 – إلى أي مدى تمكّنت الفلسفة في إيران من وضع القضايا الأساسية مثل اللغة والهويّة والتاريخ وما إلى ذلك في الاتّجاه الصحيح؟
أنت تفهم شيئًا عن الفلسفة وتتوقّع شيئًا لا تدّعيه الفلسفة نفسها. الفلسفة ليست ملزمة أن تحلّ المشكلة. إن الفلسفة تعطي معنىً للأفق والإطار الدلالي. جميع الأطباء ولاعبي كرة القدم والرياضيين والسياسيين ورجال الأعمال ورجال القانون والفقهاء والقادة السياسيين والاجتماعيين والضباط العسكريين جميعهم كالممثلين يحاولون حلّ مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والطبية وغيرها من القضايا.
لكن الفيلسوف لا يخوض فى هذه القضايا.،الفيلسوف على عكس الممثلين، يساير الواقع على أرض الملعب. إذا كانت الفلسفة والفيلسوف أصيلان، فإنهما يحاولان في الواقع تغيير أرضيّة الملعب، بدل أن يسيروا على نهج الممثلين الآخرين، ولا يفترض أن يحلّوا مشكلة المرور مثلاً أو كيفيّة التعامل مع فيروس “كورونا ” الحالي.
الفلسفة تعلّمنا أنّ في مواجهة القضايا الأساسية مثل اللغة والهويّة، لا ينبغي لنا أن ننظر إلى القضايا على
أنها سياسية بحتة، وأنه يجب علينا النظر في القضايا تاريخيًا وفي هذا السياق قال هيجل: “الحقيقة هي
الكمال”.
هذا يعني أنه لا ينبغي لنا دراسة القضايا بالتفصيل، ويجب أن ننظر في أجزاء كل مشكلة معًا.
تعلمنا الفلسفة أننا يجب أن نحاول ألّا نَفرِض قِيَمنا الإيديولوجية والسياسية والعقائدية على الظواهر. ويجب
أن نكون مخلصين لطبيعة الظاهرة ونسمح للظاهرة بإعادة رواية كلماتها وعدم محاولة فرض توجهاتنا
اللاهوتية والأيديولوجية والسياسية على الظواهر.
من غير المعقول أن تتوقع أن تزوّدك الفلسفة بإجاباتٍ إيجابيّةٍ وجزئيّة ٍوعلميّةٍ للمسائل. بالطبع، يمكن أن يكون التفكير في الأساسيّات والأُطُر لحلّ الأمور مفيدًا للغاية. التفكير الفلسفي والعقلانية شيء مثل الهواء والأوكسجين، ولا ينبغي للمرء أن يتوقّع من الهواء والأوكسجين أن يظهرا فقط في مجال الصحّة، أو في حلّ أزمة المرور، أو الأزمة البيئية. الأكسجين والهواء هما مصدر الحياة والحيويّة في كل مكان، والفلسفة والعقلانية ليستا شيئان يمكن الشعور بهما بطريقةٍ ملموسة. لكن وجودهما أو غيابهما أمر حاسم للغاية.
4 – برأيك، هل يمكن تفسير الخطاب حول مدار التفكير في القضايا الأساسيّة في إيران على أنهما
خطابان أحدهما مركزيّ والآخر هامشيّ؟ الخطاب الأول يجلس على مقعد في “وسط البلاد” ولا يرى الآخر بسبب تعدّد نفسه، وخطاب “الآخر” الذي يشعر أن صوته غير مسموع بسبب بعده عن المركز؟ ما هو رأيك في هذا المشهد المُتخيّل؟!
أوافق تمامًا على أنّ هناك فجوة عميقة بين المركز والهامش، وهناك فجوة كبيرة بين وضعنا الاجتماعي نحن سکان المرکز، ووضعكم الاجتماعي أنتم المهمشين. لكن هذا لا يعني أن هناك خطابان مختلفان. اليوم في طهران، هناك أناس يحتاجون إلى قوت يومهم، وفي الواقع، هؤلاء الناس لديهم خطاب مختلف تمامًا عن خطاب العمال ذوي الياقات البيضاء (الدبلوماسيين) وأولئك الذين يمكنهم الوصول إلى حقول النفط ومصادر القوة والثروة.
كما ذكرت في الإجابة على السؤال الأول، نحن مجتمع متخلّف، وهذا واضح في كل مكان، وبالطبع صحيح تماما أن أولئك في المركز غير قادرين على رؤية العديد من قضايا المهمّشين. لكن هذا التهميش لا يقتصر فقط على حدود البلاد. يكفي مغادرة طهران لمسافة 20 كيلومترًا لرؤية هذه المشاكل بالقرب من طهران. في أحداث نوفمبر 2019م نرى انتفاضة الأشخاص المقرّبين جدًا من العاصمة. لذلك، فالقضية ليست عنصرية أو عرقية أو دينية (المواجهة بين الشيعة والسنة) وهلم جرا. كنت أتوقع انتفاضة المهمّشين، وقد أعلنتُ ذلك في برنامج تلفزيوني. وبالطبع رأينا أيضا القضايا السياسية، ووجود المعارضة في أحداث نوفمبر 2019م بحجّة ارتفاع أسعار البنزين. لكن النقطة هي أن السياق الاجتماعي كان جاهزًا.
أكرّر أن مشكلتنا الرئيسية هي التخلّف، وحتی يتمّ حلّ هذه المشكلة، فإنّ أيّة قوّة سياسيّة، سواء علمانية
بهلوية، أو من نوع الحكم الديني للجمهورية الإسلامية، لن تحلّ الصراع بين الهامش والمركز ما لم نتمكن
من تحقيق التنمية.
5 – إذا كنت بحاجة إلى إضافة نقطة أخرى إلى هذه المحادثة، فيرجى قولها..
انظر، لا تقل أن عبد الكريمي ينفي وجود أيّة قضيّة في البلاد. على سبيل المثال، إذا قلت أن
مشكلتنا اليوم ليست “النسويّة”؛ هذا لا يعني أنني أريد أن أقول إن المرأة ليست مضّطهدة في بلادنا، أو أنّ
ثقافتنا ليست ذكوريّة، ولكن أريد فقط أن أقول إن مشكلتنا الرئيسيّة اليوم ليست الصراع بين الرجل والمرأة.
أو لا أريد أن أقول إنه ليس لدينا مشكلة الفقر أو الظلم الاجتماعي، وألا يجب أن نهتم بالفقراء، لكني أريد فقط أن أقول إن قضية الظلم الاجتماعي هي نتيجة تخلّفنا التاريخي، وحتی نتغلب على هذه الإشكالية، ستظلّ قضيّة الظلم الاجتماعي بدون حلّ.
وبالمثل، لا أريد أن أقول ألّا يعامل شعبنا بالأساليب غير الديمقراطية وغير الشموليّة وألا يوجد صراع بين المركز والهامش، ولكن أريد فقط أن أؤكد أنّ القضايا الأخرى لن تُحلّ حتى مع ظهور الثورة الإيرانيّة، حتی يتمّ حلّ السبب الجذري لمشاكلنا.
كلمتي الأساسية الأخرى هي أنه على الرغم من أنني أقبل أن لدينا العديد من المشاكل في مجال
الديمقراطية والمشاركة السياسية والتنمية السياسية، في مجال الفقر والفجوة الطبقية، وفي مجال الصراع
بين الهامش والمركز، فإن القضية الرئيسية في إيران اليوم ليست الديمقراطية ولا العدالة ولا قضية
الأعراق، ولا حتى الحرب ضد الولايات المتحدة ولا ضغوط النظام العالمي، ولا كثير من الأشياء
الأخرى.
في رأيي، فإن أهم قضية لي شخصيّاً اليوم هي أن “الدولة تصبح دولة” و “إيران تصبح إيران”. للأسف نحن اليوم أمّتان داخل دولة واحدة وقطبان داخل دولة واحدة. لقد سمعتموني أقول مرارا و تكرارا أنه منذ مواجهتنا للحداثة، انقسم ضميرنا الاجتماعي التاريخي وأصبحنا أمّتين: أمّة تعيش في العالم التقليدي وتخشى العالم الحديث (التقليديين)، وأمّة أخرى آمنت بمثاليّة الحداثة وتريد أن تدخل العالم الحديث، وتعرّف نفسها كمواطن عالمي نتيجة للحداثة (الحداثيّون).
هذان القطبان، التقليديّون والحداثيّون، يقفان دائمًا ضدّ بعضهما البعض ويحييد قوى بعضهم البعض.
نعلم في الحركة الدستورية، كيف واجه الشرعيون “الدستوريين” وشنق الشيخ فضل الله نوري بيد الدستوريين بصفته ممثلاً للطبقة التقليدية للمجتمع.
ولكن بسبب هذا الصراع بين الدستوريين والشرعيين، أي الحداثيين والتقليديين، فشلت الثورة الدستورية. لديك الصراع بين مصدّق وكاشاني، الذي تتذكره على أنه صراع بين القطبين الحداثيين والتقليديين في المجتمع، مما أدى إلى هزيمة الحركة الوطنية وانقلاب 19 أغسطس 1953م.
في ظل النظام البهلوي، کان على “رضا شاه” و “محمد رضا شاه” زعامة الحداثيين فقط. لهذا السبب، رأوا التقليديين على أنهم حثالة ومواطنين من الدرجة الثانية في المجتمع، وقاومهم التقليديون ولم
يوافقوا على خططهم التنموية، وأدوا في النهاية إلى الإطاحة بحكومة البهلوي.
اليوم، لدينا هذه المواجهة بين التقليديين والحداثيين، وحتى نتغلّب على هذه المشكلة، لن نتمكّن من تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية أو النضال ضد الغرب ونظام الهيمنة العالمي، وفي النهاية سنكون مستهلكين ما لم نتمكّن من وضع البلد بأكمله تحت مظلّة واحدة، وهذا غير ممكن مع الأساليب الأمنية والشرطيّة والعسكريّة، لكننا
بحاجة إلى حوار يشعر فيه جميع الإيرانيين بكل تنوّعهم العرقي واللغوي والديني أنهم ينتمون إلى بلد واحد
وأمّة واحدة.
لذلك، أناشد كمعلم جميع الأعزاء الذين لديهم حساسيّات عرقيّة ولغويّة ودينيّة وغيرها أن ينتبهوا إلى حقيقة
أن قضيتنا الرئيسية اليوم هي أن تصبح إيران إيران.
في الواقع، فإنّ أيّ ضرر يلحق بإيران، لن يعني بعد الآن خطابًا ليبراليا، ولا منصّة لتحقيق الحريّة، ولا منصّة لتحقيق العدالة، ولا منصّة لأي شيء آخر.
لذلك، لا ينبغي أن يُضرّ وجود البلاد. يجب أن يكون هذا المبدأ هو الأساس، والمبدأ الأساسي لحركاتنا وأعمالنا السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والفلسفية.
مصدر الحوار باللغة الفارسية: مجلة “شط ” الإلكترونية
تُرجِم عن الفارسية للنشر الخاصّ في مجلّة – إلّا –
Share this content: