
محمد نبهان / شاعر أهوازي وكاتب ورئيس تحرير مجلة الشطّ – الأهواز
يعتبر مفهوم السبك أحد المفاهيم التي قلما يتطرّق إليها المحققون والباحثون في الأدب الفارسي، ربما يرجع مردّ أصل التغافل عن مثل هذا العلم إلى اعتباره شيئاً مستورداً أو تصنيفهم السبك والأسلوبية من جملة العلوم الجديدة التي وضع ركائزها و وطد دعائمها الآخرون.
ينبغي الاذعان بأن إطار علم الأسلوبية (علم الأسلوب) حداثي وعصري وباحثونا لم يقدّموا مساهماتٍ تُذكر في هذا المجال، لكن هذا لا يعني على الأطلاق أن متأخرينا كانوا غير مهتمين بهذا المجال ولم يمتلكوا اطلاعاً وفهماً حول هذه المفاهيم ومنها..
[1] يمكن تصنيف شعر السبيد (الشعر الأبيض أو قصيدة النثر الإيرانية) أيضاً كأحد الأساليب الشعرية المتباينة والمختلفة في الأدب الفارسي، فهذا الشعر نوع من الشعر الفارسي المعاصر الذي بدأت ملامحه ترتسم في العقد الثلاثين من التاريخ الشمسي (عقد الخمسينات في التاريخ الميلادي) عبر نظم أحمد شاملو لمجموعة “هواء نقي”، بيد أن البعض يعتبرون مصطلح شعر السبيد مصطلحاً خاطئاً ويقترحون تسمية “الشعر الحر” بديلاً لها.
فالشعر المرسل (blank) ليس متحرّراً من قيود الوزن وغالباً ما تقوم أوزانه على أساس عشرة مقاطع لكن لا يتم مراعاة القافية فيه، ومثاله يكمن في “الفردوس المفقود” للشاعر جون ملتون.
كما إن الشعر الشائع في أوربا وأمريكا المتحرّر من قيود الوزن والقافية freeverse أو vers يُوسم بالشعر الحرّ، وبسبب البنية المجهولة لهذين النوعين من الشعر يتمّ الخلط بينهما واستبدالهما واعتبارهما جنساً واحداً.
[2] نشهد في الأهواز خلال العصر الراهن شعراً فارسياً قرضه بعض الشعراء يحاكي من ناحية القالب الشعري شعر السبيد(الشعر الأبيض) ويحذو حذوه، بيد أنه يمتلك قالباً وشكلاً خاصاً من ناحية المضمون والمعنى.
في الحقيقة يمكن القول أننا نشهد تبلور شعر جديد في الأهواز يمتلك أسلوباً وسبكاً شعرياً خاصاً وجديداً.
كما يشن الشعر الأهوازي الجديد هجوماً على شكل صرخة المتمرّد على الكثير من التيارات الاجتماعية والثقافية غير التقليديّة، حيث أن الظروف الجغرافية الخاصّة في الأهواز أفضت إلى أن يتشابه الشعر الأهوازي الجديد مع الشعر المترجم إلى حد بعيد، لكنه لا يمتلك سلاسة الشعر الفارسي وعذوبته.
وتحمل معظم مفرداته بين ثناياها معان ملتبسة ونوع من ثنائية الدلالة التي تُغرِق القارئ فيها بسرعة.
يعد الشعر الأهوازي الجديد في إيران صوت الأهواز، فيضان نهر كارون، الذي يَضيعُ منه عبق قهوة سوق العريان المرّة ومذاقها، وينتهي برائحة الفلافل في لشكر آباد، ونخيل المحمرة (خرمشهر) و….
في الحقيقة تتمثّل أحد السمات الجديدة والبارزة للشعر الأهوازي في إقحامه المتلقي وسط رموزه و إيمَاءاته. فاستخدام الرمز أو الإيماء عبارة تدل على أيّة علامة، إشارة أو تركيب وعبارة تبرز في المعنى والمفهوم الماورائي الظاهري لنفسها.
في الواقع “المدرسة الرمزية ” لا تعني إحلال مفهوم مكان مفهوم أخر فحسب، بل تعني أيضاً استخدام الصور الماديّة والمحسوسة لبثّ المشاعر وتفسير الأفكار التجريديّة.
يتم اعتبار كلمة أو شكل ما رمزاً عندما يدل على شيء أبعد من معانيه الجليّة والمباشرة. بدأت الرمزية تظهر في الشعر الإيراني المعاصر مع “نيما يوشيج ” الذي تأثر بالرمزييْن الفرنسين وعكف على قراءة آثارهم، والذي أدخل بدوره بعض سمات المدرسة الرمزية إلى الشعر الفارسي.
[3] تعتبر الرمزية في العصر الراهن إحدى السمات الهامة للشعر الأهوازي، فالمجتمع أثناء تقبل الحداثة ليس بإمكانه النأي عن محيطه والابتعاد عن بيئته التقليدية، وسوف تتملكه لوعة الشوق والحنين حتى تبلغ هذه الازدواجية والعودة المستمرة إلى ذاته الثقافية والاجتماعية مبلغاً تُخلِّفُ فيه على الدوام نهجاً ملحمياً وعاطفياً على نصوصها.
يمتلك الشعر الأهوازي اليوم أكثر من أي وقت مضى نضجاً وإدراكاً ثقافياً واجتماعياً مثيراً للاهتمام، ففضلاً عن إجادة الأهوازيين للغتين اثنتين -يتقنون اللغة الفارسية والعربية – فهم غالباً ما يجيدون لغة ثالثة أيضاً، حيث أن تجاربهم الفكرية والاجتماعية المختلفة على الصعيد العالمي المتراكة لديهم، مكّنتهم من تحويلها إلى مجتمع مرن قادر على تصدير خطاب متنوع.
يتميز الأهوازيون بامتلاك رؤى واسعة النطاق وفي الوقت ذاته ينعمون بنظرة حاذقة من قبل شعراء هذه المنطقة يرجع سببه إلى التواجد بين بوابتين [عالم اللغة الفارسية وعالم اللغة العربية]، أيضاً تعدّد الثقافات (مثل البندريون، الدزفوليون، الأتراك، الشوشتريون، الصابئون، اللور، البهبهائيون، ناهيك عن مرحلة وجود الاستعمار البريطاني والأمريكي، كذلك التعايش مع الأفغان، البنغاليون، الهنود، الروس، والصينيون و…).
إضافة إلى تعدّد الأديان (الإسلام، الصابئة المندائيون، المسيحيون، اليهود و…) ولا ريب في أنّ تنوع اللغات منحتهم أدوات ملهمة، تنمّ عن إحساسٍ لنَقْلِ المعاني وفق أعلى مستوى متاح إلى أشعارهم الجديدة، ومن جهة أخرى تخضع الأشعار الجديدة التي نظمها شعراء الأهواز بشكل عام لتأثير شعراء مثل محمود درويش، أدونيس، نزار قباني، سميح القاسم و… وكأن محمود درويش شاعر فارسي ولد من جديد كذلك هو سميح القاسم كأنما صار شاعراً جديداً.
هذه الأشعار من ناحية الحمل الدلالي والشكلي (الصوري) ليست على الإطلاق من جنس شعر السبيد (الشعر الأبيض) والجديد لأحمد شاملو، بهار وشمس لنكرودي وسايه (أمیر هوشنك ابتهاج) وكأن الرؤية الكونيّة لأشعار هاتين المجموعتين من الشعراء قياساً لشعراء الأهواز مستمدّة من عالمين مختلفين، لكنها تملك بيئة مشتركة تدعى اللغة الفارسية.
هذا الأمر يحدث أيضاً في الأشعار العربية التي نظمها الأهوازيون، فعندما يقرض شعراء العرب الأهوازيون شعراً باللغة العربية، يستشعر المتلقي العربي بأنه أمام نوع جديد وسياق خاصّ متباين بشكل كامل من حيث اختيار نوع المفردات ومضمونها.. وفيما يلي بعض من التجارب الشعرية الأهوازية لشعراء معروفين على صعيد الأهواز الداخلي، لم يخرجوا بعد عن نطاق الدائرة المحلية المغلقة، على أمل أن تجد أصداء هذه القصائد سبيلها إلى أسمعاع وأصقاع أمدائها المفتوحة على مصراعي الأبجدية العربية، ولابدّ من التنويه أن النماذج المساقة لهذا النصّ ما هي إلا رشة عطر من الحبر الأهوازي الكثيف المعتّق، لم تخضع لأيّة مفاضلة بين هذا الشاعر أو ذاك كل ما في الأمر وفي يقيني شخصياً أن جميع الشعر الأهوازي على قدر عالٍ من الأهمية، لكنّ المقام هنا لا يتّسع لإدراج جميع النماذج الشعرية فاكتفيت بما وقعت عليه عيني ومنها أقتطف..