Home إلّا الحرب المستعرة.. بين الطبيعة و البشر

الحرب المستعرة.. بين الطبيعة و البشر

by رئيس التحرير

 

شوقي بغدادي / شاعر وكاتب سوري معروف – دمشق

لم تكن الطبيعة بالتأكيد فيما مضى من آلاف السنين هي نفسها التي يواجهها البشر في زماننا الحالي، إذ يؤكّد علماء البيئة أن الطبيعة العذراء للعصور السحيقة في القدم هي غير الطبيعة التي نتعامل معها في أيامنا هذه، و ذلك لأنّ الجنس البشري المتفوّق بعقله على الأحياء الآخرين من حيوان، و نبات، لم يتعامل دوماً مع شركائه هؤلاء الذين يتقاسمون ظاهرة الحياة تعاملاً منصفاً منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا.

إذ كانت الحيوانات مثلاً بكل أصنافها عبارة عن فريقين، أحدهما يجد قوته فيما يفترسه من الحيوانات الأضعف، أو يقتات من النباتات، و الفريق الثاني أيّ النباتات يجد قوته فيما هو متوفّر من هواء و ماء، أمّا الإنسان فقد كان يمثل الظاهرة الأوفر عقلاً و قدرةً، فقد كان يجد قوته منذ العصور البدائية من خلال قدرته على صيد الحيوانات و حصد النباتات.

يمكن القول هنا أن الإنسان في العصور السحيقة القدم، لم يكن يصطاد الحيوانات أو النباتات إلا ما يكفيه شخصياً، غير أنه حين تطور إلى عصور أخرى انقسم فيها البشر إلى نوعين ذكر و أنثى، و بدأ حينئذٍ عصر الأمومة فصارت الحاجة للغذاء أكثر، و لكنه ظلّ محدوداً بحدود الأسرة و العشيرة أو القبيلة الواحدة، و لكن ما كادت هذه العصور تتغير مع سيطرة الذكور على نظام العيش المشترك، بتصعيد هواجس وخوف القبيلة من نقص الغذاء، حتى بدأت مرحلة التفكير بتوفير الغذاء و تخزينه حرصاً على عدم فقدانه عند الحاجة إليه بسبب تكاثر عدد أفراد القبيلة، و الصراعات العنيفة مع القبائل الأخرى على توفير الغذاء أكثر فأكثر، و هكذا بدأ التاريخ البشري ينوء بمسؤوليات تأمين الغذاء للقبيلة المتكاثرة، و شرعت تظهر العمليات التجارية بين القبائل حين تهدأ الحروب مؤقتاً فيما بينها بشكل تبادلي بين كمية أغذية أو ألبسة أو حيوان مقابل حيوان آخر وكل ذلك قبل اختراع “النقود “.

لا شك أن هذه المراحل من التواصل، و التبادل، و ابتكار أو اختراع الأدوات الصالحة لتطوير عملية التقدّم البشري مع تطوّر الأنظمة الاجتماعية للبشر شيئاً فشيئاً، حيث بات البشر قادرين أكثر و أفدح في الأنهار و البحار و الغابات و السهول و الجبال على نهب الطبيعة في ثرواتها المتنوعة، و دخل البشر عندئذ سباقاً عالمياً بين القبائل، ثمّ الدول الصغيرة أو الكبيرة، على اقتناص الفرص لزيادة السيطرة في تملّك الأراضي و البحار، و إنشاء المعامل الكبرى بمداخنها الضخمة و القيام بغزو البحار لاصطياد الأسماك لا لحاجة شخصيّة، و إنّما لجمع الثروات الضخمة من خلال هذه السيطرة الكبرى على ظاهرة الحياة المتمثّلة في اصطياد الحيوانات لأكلها مباشرة أو لبيعها، و جمع المال من خلال جثثها المباعة.

يمكن القول هنا أن العلاقة بين الإنسان و الطبيعة قد تغيّرت، و تطوّرت كثيراً من حالة الاكتفاء الفردي أو القبلي المحدود، الى حالة تجاريّة خالصة هدفها الأساسي الربح المادي، مما أدّى إلى فقدان عدد كبير من الحيوانات و النباتات، نجمَ عنها انقراض الغزلان البريّة تقريباً، و تقلّص حجم الغابات، و ساهم في هجرة الأسماك من بحر إلى بحر، بسبب عمليات الصيد الكبرى التي يقوم بها البشر بشكل متفاقم.

ناهيك عن فناء كثير من الأشجار، و الأزهار، و الثمار، و الفراشات، و الطيور، لا لحاجةٍ شخصيّةٍ فرديّةٍ محدودةٍ بأسرة أو جماعة فقيرة محتاجة، و إنما إرضاءاً لنزاعات تملّك الثراء المادي من خلال عمليات البيع و الشراء و الاقتناء الواسع.

هذا التطوّر الهمجي الوحشي إذا صحّ التعبير لم يقتصر على القارات الخمس من أستراليا إلى آسيا
و إفريقيا و أوروبا و أمريكا، و على الأخصّ في دول كبرى معينة في آسيا، و أوروبا، و أمريكا تحديداً، حيث بدأ دخان المعامل الصناعيّة الكبرى بمداخنها الضخمة، و نفاياتها السامّة للتربة، و مياه البحر، و الأنهر، و الفضاء المحيط بالأرض، تسمّم الأجواء، و تقضي على ملايين الأشجار، و الأطيار، و الأثمار، و الحيوانات، و الطريف والغريب في الأمر أن طبقة الأوزون التي تشكّل غلافاً جويّاً يحمي الفضاء المحيط بكوكب الأرض، من الحرارة المحرقة للضوء الشمسي الساخن جداً قد بدأت تتمزّق و تظهر فيه ثقوب واسعة تزداد توسّعاً باستمرار مما يؤدي إلى رفع درجات الحرارة، في الصيف حيث بدأت تصل إلى درجة مرتفعة خانقة ومزعجة جداً، والتبدّل المناخي لم يفتصر على المناطق الحارة فقط، بل طال التغيير المناخي حتّى القارّة الأوروبيّة، و بلاد شمال الأرض، و جنوبها، مما جعل الجليد مهدداً بالذوبان في القطبين الأمر الذي يمكن أن يغرق مدن وبلاد بكل مافيها من أرض وبشر وعمران، و الطريف الغريب أكثر فأكثر أن الأجواء التي ارتاحت نسبيّاً في الحملات الأخيرة لإيقاف عجلة الحياة اليومية وتفاصيلها المؤذية للطبيعة والمتمثّلة بدخان السيارات، و المركبات المختلفة، قد بدأ يؤثر في الفضاء مباشرة إذ بدأت طبقة الأوزون تتعافى و تلتصق جوانب ثقوبها، و أنّ قطعان الغزلان التي اختفت أو انقرضت قد بدأت تظهر في شوارع مدينة ثارا اليابانية، و أنّ الدلافين، و البجع، و أنواع كثيرة من السمك عادت للظهور في أقنية مياه البحر في مدينة البندقيّة – إيطاليا مؤخراً

الجدير ذِكره في هذا السياق هنا، والملاحظ بكثافة أنّ في سطوة وباء فايروس “كورونا ” مؤخّراً على العالم أجمع، بهذا الهجوم المركّز وحسب الإحصاءات اليومية نجد أن معظم الإصابات بأرقامها الضخمة، تكاد تكون حصريّة في الدول الأوروبيّة، و الولايات المتّحدة الأمريكية أكثر من أيّ مكان آخر في العالم، و كأن هذا الوباء يهاجم الدول الصناعية الكبرى المسؤولة أكثر من غيرها، عن إفساد و تسميم الأجواء و المناخ الأرضي بشكل عام، و كأنّ الطبيعة تنتقم من الذين أفسدوها.. و كأنّ هجوم فايروس كورونا الأخير بجميع مخاطره، إنّما هو في الوقت نفسه إجراء ضروري تقوم به الطبيعة دفاعاً عن نفسها، ضد الذين يلحقون بها الأضرار الفادحة، وهي تتغاضى وتتغاضى حتى طفح كيلها، وأعلنت ثورتها ككل الذين لم يعد الصمت والصبر ملاذهم الوحيد.

 

خاصّ – إلّا  –

You may also like