Home لـوثـة إلّاأدب لبنان كما عرفته ( ٥ )

لبنان كما عرفته ( ٥ )

by رئيس التحرير

شوقي بغدادي / شاعر وكاتب سوري – دمشق

بلى سجنت ليلة واحدة في سجن الدرك السيار قرب أوتيل ديو ..كما أذكر.. مع موقوفين سوريين .. لم يطعمونا في تلك الليلة، وإنما أنا الذي كنت كما يبدو أغناهم مالا، ولهذا ناديت الحارس وطلبت منه أن يحضر لنا ستة سندويشات وواحدة زيادة أكثر فخامة للحارس نفسه، بعد أن أعطيته مبلغا من المال، يزيد على الثمن فرحّب بكلامي وانطلق فوراً لأداء مهمته، وعدّت كالمنتصر إلى رفاقي السوريين الخمسة، الذين بدا عليهم السرور وكان من بينهم كما أذكر شاب حسن المظهر بوجه جميل جداً أبيض الملامح، عرفنا من الحارس أنه مختلّ العقل، وأنه هارب من مستشفى المجانين، وشخص عريض المنكبين كأنه مصارع محترف، كان يعمل زعيماً على مواقف السيارات في منطقة الزيتونة منذ عدة سنوات، ثمّ غلبه على أمره وزعامته شبّان لبنانيون ثلاثة، فقرّرت السلطات اللبنانية طرده من البلاد، وشخص آخر كان أكثر الحاضرين خبثاً وزعرنة، ولكنه هدأ بعد أن طلبت الطعام على حسابي الشخصي، وصار يناور لكسب مودتي غير أنني ابتعدت عنه، وطلبت من القبضاي الذي خسر سلطانه على موقف السيارات في الزيتونة أن يفرش لي فراشاً مسنوداً إلى الحائط مع فرشات أخرى للنوم، وهناك جلستُ كزعيمٍ للمهجع، وقد وصلتْ السندويشات، وسمعوا الحارس يسايرني قائلاً بصوتٍ مسموع : أنا في خدمتك متى شئت.

بعد أن لاحظ كما يبدو أنني الموقوف الوحيد لأسباب سياسيّة ثقافيّة وأنني الوحيد الذي كان الأغنى مالاً لما كنت احمله من نقود، حين أخرجت جزداني أمام عينيْه وعيونِ الآخرين.. وهكذا لاحظ الجميع أثناء أكلنا السندويشات أن صاحب الجسد القوي، والكتفين العريضتين / واسمه أحمد / كما أذكر، أنه صار زميلي المقرب مني، وخاصة حين تمدّدت على فراشي وطلبت من أحمد أن ينام متى شاء إلى جواري لحراستي، فرحّب والتفتَ نحو الباقين مومئاً أن يسحبوا فرشاتهم ويخلدوا للنوم أو السكون لأن الاستاذ قاصدا إياي… يريد أن يرتاح …

هكذا رضخ الباقون للنصيحة دون جدال، ونمنا.. وفي منتصف الليل أو بعده بقليل استيقظنا جميعا على صراخ الفتى المختلّ عقله، وبلمح البصر لمحت الرجل الأزعر يخفي عضوه “الجنسي “، بينما كان الفتى المختلّ يعيد ثيابه إلى وضعها الصحيح وهو يتمتِم بعض الكلمات مثل : كان بدو…يدحشو… بدو يموتني.

وهكذا تدخلتُ بلهجةٍ آمرة أن يفصل أحمد فراش الأزعر عن فراشِ الفتى الصبوح الوجه، والمختل العقل، فنهض أحمد فوراً لتنفيذ طلبي، وهو يشتم الأزعر على فعلته. فأضفت بدوري أوامري بصوتٍ لا يسمعه الحراس، تحسّباً من أنهم لو أفاقوا على الضجّة بقولي : “يخرب بيتكم على هالفضيحة لا ترفعوا أصواتكم حتى لا يبهدلونا كسوريين زعران وما عندهم أخلاق”.. ثمّ عُدنا إلى فراشنا وم إن تَنَدّ الصباح، حتى أضافوا إلينا الفتاة السورية المومس، التي عادت معنا إلى دمشق حيث تفرّقنا بعد أن طلب مني أحمد أن يستدين مني مبلغا من المال أعطيته إياه بسرور، وأنا أشكره على حمايتي وإننا لن نلتقي فيما بعد اطلاقا.

ببساطة صرتُ ممنوعاً من السفر إلى لبنان مدة اثني عشر عاماً، إلى أن سمحوا لي بعدها بزيارة لبنان من جديد… ولا ريب أنه كانت العلاقات أسهل ما تكون عليه في تلك العهود، ولكنّ بعضَ السوريين أساؤوا إلى سمعتنا ( العطرة ) بين قوسين… وأدرج هنا بعض الأبيات من قصيدتي في رثاء الشاعر اللبناني العريق في الأدب العربي كشاعر ومترجم رائع عن الفرنسية : ما شاخ في التسعين أو قعدا

إنّ الشباب هو الذي فُقدا

فياض إني أجهل الحسدا

واليوم صرت أمارس الحسدا

أرنو إلى القدماء أغبطهم

سبحوا مع الفكر الذي شردا

يصغون للنغم العتيق فإن سمعوا

سواه فليس غير صدى

……………………………..

يا قاطف الرمان منتقياً

وملاطف العنقود متّئدا

ترضى الفراشة نارها

وترى في راحتيك حياتها أبدا

روحٌ كأعذبِ ما يكون جنى

فأرِحْ بأضلاع الثرى جسدا

…………………………….

ما أطيب اللقيا وملء فمي

ما كان في جنبيك متّقدا

كلِمٌ كأجراس الصلاة

إذا شعّ الرنين محبّةً وهدى

هي كالحرائق إذ تشبّ

ومن طلب الندى سالت عليه ندى

إني أحترقتُ بها،

ويعرفني لبنان إذ آوى وإذ رفدا

ضلّيلَ مملكةٍ مضيّعةٍ ووريث تاجٍ

لم يعشْ أمداً، كسروا سيوفي

إنما عجزوا أن يكسروا عند الصدام يدا

وجبينٍ مصلوبٍ بلا خشبٍ أبدا لغير الحق ما سجدا

الشام ما نَسِيَتْ معذّبها والجرح في الأحشاء ما بردا

والشام وآلهة فإن خُدِعتْ كفرت بعاشقها وما وعدا

تُحني وترضخُ عن هوىً

فإذا اضّطُهِدْتُ فويلٌٌ للذي أضطهدا والشام ما غفلت مراكبها

فالعهد بالإعصار ما بعُدا

لكن ماء النبع محتبسٌ،

والماء لا يصفو إذا ركدا

فإذا جرى حُرّاً صفاً

وروى جيلا وعاد مصفّقاً بردى

إلخ…إلخ…. إلخ ..

هذا بعض القصيدة التي عوقبت عليها من جماعة الناصريين في الأمن اللبناني آنذاك….وللحديث صلة بلبنان الذي عرفته وأحببته.. وإلى اللقاء في حلقة قادمة

 

خاصّ – إلّا –

You may also like