Home لـوثـة إلّاأدب الشيطان في التفاصيل الشعريّة

الشيطان في التفاصيل الشعريّة

by admin
جمال القصاص كاتب وشاعر / جمهورية مصر العربية

جمال القصاص
كاتب وشاعر / جمهورية مصر العربية

    يتوهّم العقل المتفوّق أنه بلغ غايته كلّما نظر حوله ووجد الأشياء في حالة من الدقّة والانضباط، ووجد المبجلين المفتونين بأنفسهم يكنّون له تقديراً لم يكن يتوقعه. لكن في انفعالاته الداخلية يظلّ هذا العقل حائراً في الوصول إلى لذّته، إلى لحظة نشوى حقيقية يستخلص في ظلالها متعة خاصة بعيدا عن العقد والفواصل السميكة لهذا الانضباط. ولأنه لا قدوة حسنة بدون لطشة جنون، فإن هذا العقل غالبا ما يفشل في الوصول إلى هذه اللحظة لأن هناك أشياء لا يمكن أن نتعلمها أو نعيشها بإتقان.

    وكنوع من التعويض عن هذه الخسارة يجد هذا العقل راحة تامّة حين يحقد عليه الآخرون، أو يغارون منه، ويتوهّم –دوما- أنه يلمح نوازع الشر في حركاتهم وسكناتهم.

    هذا العقل في الشعر بمثابة صدى للأشياء البائدة في اللغة. الأشياء التي بقيت آلاف السنين جالسة في مرآة نفسها، لا تنتظر الشر، أو الخير، ولا تعرف إمكانية أو حيلة لخيانة تلك المرآة سوى أن تكرّر المشهد نفسه يوميا. لقد فشلت في الإصغاء إلى ذاتها، بعدما أدمنت الإصغاء إلى عواء الخارج.

    لكن هل ثمة أحد ينتظر فرصة ليكون شريرا أو قبيحا على طريقته الخاصة، وهناك دائما خطى الآخرين !.

    في الشعر دائما الفراغ هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يجلس فيه الإنسان وحيدا مع نفسه. وحين يمتلئ هذا الفراغ  يصبح الإنسان كائنا مطارداً ، ينتظر أن ينضج الخطأ في أوانه، أو تسقط ثمرة الشيطان من غصن الشجرة .

    إننا نضنّ على أنفسنا أن تتقبل التغيير بشكل طبيعي وتلقائي، وكثيرا ما نحجبه، ونعلن عدم إيماننا به بحجة أنه يضمر الشر، مع أننا نؤمن بالمعجزة والعبث والخرافة، وهي أشياء لم نلمسها، ولم نر لها أثراً مادّياً عل أرض الواقع .وأيضا نحن نسرق ونكذب ونقتل كل يوم، تحت مبرر أننا ندافع عن أنفسنا ووجودنا، وكأن هذا الوجود معلق بحبال الشر. بل تبلغ قسوتنا بالطبيعة ذروتها حين نبرر أن الشر محض صدفة لا أخلاقية.

    ثم إننا نتحوط من الألم، لأنه يضر بصحتنا، وننسى حين نشفى أننا – في وعينا الضمني-  كنا نمارس متعة الألم نفسه، في الصراع بين الصحة والمرض، بين الحياة والفناء .

    قبل بودلير و”أزهار شرّه “، كان أبو نواس صعلوك الشيطان الأول يخلق لذة الشر بدافع من براءة الشيطان وإرادته غير الحرة ، وكان يستمتع بإثارتها في قصائده وكأنها ثمرة من ثمرات الطفولة واللغة. ولا نزال حين نقرأ شعر أبى نواس يتفتح وعينا به على وعي آخر، لعله ” إيروسية ” الوجود الإنساني في سعيه دوما نحو مطلق الجمال والخلود.

    إن الكثيرين ممن لا يزالون قابعين تحت رصانة التقاليد والأعراف يظنون أن مشاكسة الشعر للقبح والبذاءة والانحطاط، وغيرها من القيم السالبة في الوجود،  هي بمثابة تمجيد لفكرة الشر نفسه. و يتناسون حين يبرّرون موقفهم أن الغابة لم تعد عذراء، وأن ثنائية ” الطيب والشرير ” ليست هي الوسيلة الوحيدة للقنص والافتراس. لقد تمزقت الغابة وتناثرت جماليات المشهد. ولم تعد السحابة تسقط مطرا كالفضة أو الذهب، بل أصبحت ” تبول”، أصبحت ” تخرج من مصحّة عقلية” و”تغازل ساعي البريد”. ولم يعد الشاعر يستحلب الشعر من “وادي عبقر ” الذي تقطنه الجن والشياطين، لم يعد عرّافاً أو نبيّاً أو كاهناً، لقد أصبح شيطان نفسه. وعبثاً يذهب الشعر إلى حقيقة أخرى غير نفسه.. إن الواقع كمنبع وموضوع أو حتى كقناع لا يدوم سوي بلذة الكذب، ونحن نستنزفه وننتهكه لنجدّد طاقتنا فيه، ونتوهّم أنه يخفي قوى أخرى مبهمة. لكننا برغم كل هذا نجهل أنه سوف يصمت حين يصغي لصوت التاريخ في داخله.

    ولأن قيم الشر ودلالاته هي الأكثر التباسا وغموضا في التاريخ  الإنساني فهي تظل دائما الأكثر إثارة للدهشة في الشعر والفن عموما، ناهيك عن أنها تتلبس فكرة الغواية والمجازفة والسحر، وغيرها من عناصر الخرافة  التي تجعل الإنسان يقف دائما على الحافّة الخطرة للكون. ونحن غالبا لا يثيرنا الشئ الطيب، بل يصبح من البلاهة السؤال عن فحوى كينونته. ثم أن قيم الشرّ لا تمنحنا لذة السكينة  بقدر ما تدخلنا إلى المناطق المحرّمة والمهمّشة من وعي الإنسان وعلاقته بالعناصر والأشياء والعالم من حوله. وقبل كل شيء علاقته بزمانه ومكانه، بجسده وروحه، وكيف يخلق من تعارضاتهما نقطة التقاء مع الآخر، حتى وهو يستمتع بلذة الإساءة إليه والسخرية منه .. في هذا السياق ربما يندرج شعر الهجاء العربي كله، فهو ليس شعر انتقام بقدر ما هو حيلة لمشاكسة الآخر ( الشيطان) القابع في داخلنا بشكل لا إرادي. وفي الوقت نفسه هو محاولة لإخراجه إلى حيز النور والوجود، عاريا من ولادته المشوّهة المبتسرة.. وربما السؤال الذي يعن لي هنا: لماذا نستمتع بلذة الإساءة ونجد فيها متعة التفوق جماليا في بيت الأخطل  المقذع الشهير في هجاء جرير:

        قوم إذا استنبحَ الأضيافُ كلبَهم      قالوا لإمّهم بولي على النار 

   وليس من قبيل المفارقة أن نتأمل هنا العلاقة بين فكرة الشيطان  والتابو ، فبرغم أن كليهما يتمتع بسلطة مطلقة إلا أن سلطة الأخير كثيرا ما تفقد قوتها وبريقها عندما تتحول إلى قناع للأيدلوجيا، وتصبح من ثم مجرد أداة للتعبير عن معاناة البشر إزاء أوضاع حياتهم اجتماعيا وسياسيا وثقافيا. وعلى النقيض من ذلك تبدو معانقة الشيطان كأنها الوجه الآخر الحقيقي الهارب وراء الأقنعة التقليدية لكل التابوهات. لكن، لأننا تعودنا على التعامل مع الأشياء بمنطق اللحظات المعزولة عن بعضها بعضاً نفشل في أن نقبض على فكرة الشيطان في تجلّيها الأعمق، الأكثر كلية وشمولاً، ونحاول دائماً في شعرنا وأدبنا أن نهذّبها، ونضعها في سياقات ودلالات نفعية محددة الغرض والقيمة .

    تتماثل هذه الصورة في شعرنا العربي الحديث حيث تبدو صرخة الشيطان صرخة عاقلة، فهي تتجسد دائما في إطار لعبة إسقاط الماضي على الحاضر، ولا تحلق أبعد من  حقلها الرمزي والدلالي في التمرد على السلطة التي تعج بالشياطين، وتتحدث باسم الضحية ” الشعب ” وتغتصب حريته وإرادته.

    فالبطل المحرض في هذا الشعر لا يعدو كونه شيطانا مثاليا صغيرا، ضل طريقه إلى نفسه والى العالم، أو حكم عليه بذلك كنوع من العقاب على تمرده وعصيانه لسلطة الإله، حسبما تشير ميثولوجيا الخلق في التراث الديني، الإسلامي على وجه الخصوص. والملاحظة الجديرة بالتأمل هنا أن تيمة ” قل لا ” و التي تشكل مفتتح  التعويذة الشيطانية بإيقاعها الميثولوجي السالف تتكرر على نحو لافت في هذا الشعر، فنجدها في شعر أمل دنقل وبخاصة قصيدته الشهيرة ” كلمات سبارتكوس الأخيرة “، و كذلك في شعر علي قنديل وقصيدته  ” الحلم يطلع من الشرق”  وغيرهما من الشعراء. وتختلط غواية الشيطان بالخرافة الشعبية في شعر محمد عفيفي مطر، لتحرير الإنسان من العتمة والخوف. وتتشرب هذه الغواية بنزق ميتافيزيقي في شعر أدونيس، حيث الحلم دوما باستكناه المجهول. ولا تخلو صرخات الشهيد المتكررة في شعر محمود درويش من رذاذا هذه الغواية  وبخاصة في قصيدته ” أحمد الزعتر “. كما يوظفها محمد الماغوط في شعره على نحو كاريكاتوري ساخر، وبخاصة في التمرد على فكرة الإله وسلطته المطلقة .

    بيد أن لعبة الإسقاط، واجترار التماثل بين الماضي والحاضر بهذه الكيفية لا يخلق في المحصلة النهائية وعيا مضادا، يحمل الإنسان على مجابهة شرور واقعه وخطاياه، بقدر ما يخلق نوعا من الحماس لهذا الوعي. وهو حماس عابر في جوهره، تستقوي به الذات على ضعفها. لكن يظل اليأس من قوة الروح وعجزها قابعا في الأعماق .

    إن الشك والتمرد على حكمة الحياة والناس والطبيعة ليست محض غواية شيطانية، إنها لا تتم إلا بتحطيم سلطة العقل نفسه. ونحن لا نذهب إلى الماضي لكي نعيش صورتنا فيه، بل لنمارس نوعا من الاختبار غير الواعي لقوتنا. وبمنطق الشك لا اليقين يتوجب علينا – في أحيان كثيرة – أن ندرب خيالنا على احتقار الماضي وتقبيحه، لنجدد في أنفسنا طاقة الحلم على أن نكون ذواتنا بشكل حر.

جمال القصاص

كاتب وشاعر / جمهورية مصر العربية

You may also like