Home جيران إلّا السفر بين الواقع والمتخيّل في أفق الأدباء

السفر بين الواقع والمتخيّل في أفق الأدباء

by رئيس التحرير

محمد القذافي مسعود / كاتب وصحافي ليبي – طرابلس الغرب

إذا سألنا بشكل تقليدي عن دواعي السفر عند الإنسان، فالإجابات حتما ستكون مختلفة من شخص إلى آخر حسب الحاجة وطريقة التفكير، فهناك من يسافر لأجل العلم، وهناك من يسافر للعمل. لكن للسفر فوائد كثيرة غير العلم والعمل، كالاطلاع على تجارب عميقة ومتنوعة. لذا قررنا أن نسافر مع تجارب أدباء ومثقفين عرب في رحلاتهم البعيدة..

حالة ثقافية

*يقول الكاتب بدر السويطي المقيم في ألمانيا إن السفر يُعد حالة ثقافية تكرس المعرفة والوعي لدى الإنسان، وتمنحه المزيد من الشغف لاكتشاف خفايا وكوامن هذا العالم. السفر هو الانتقال إلى عوالم جديدة تتيح لنا رؤية الغامض والاقتراب من المجهول والتعرف على الثقافات وعادات الشعوب، لقد استفدت كثيرا من رحلاتي إلى بلدان مختلفة من هذا العالم المترامي، السفر بوصفه رحلة نحو الحياة ، لذة العارف ونبوءة المهاجر، وشغف السائح، علاقة المرء بالمكان وارتباطه الروحي بالمعالم والتاريخ واللغة. منحتني الأسفار القدرة على الاستمرارية والصبر والتأمل وألهمتني الأفكار والرؤى، واكتنفت طرقها ومدائنها حاملا قنديل المعرفة في مساراتها المتعرجة. السفر هو الحنين للأمكنة، أن توطد علاقتك بالأرض وتركض نحو الدهشة، دون توقف، هذا الوله المزمن الذي يدفعك لسبر أغوار المكان، هذه الغواية التي تجذب عيون الرائي لرؤية المزيد من البلدان والشعوب، شهوة المشي في الحقول والغابات والجبال، قيمة السفر وأهميته تكمن في الأسئلة والهواجس والأمور المبهمة التي يجهلها الإنسان، عندما سافرت تراءى لي وجه هذا العالم واتضحت لي حقيقته، السفر المعرفي هو الاقتراب من الإنسان والمكان والهامش والمجهول والغامض والمبهم، هو أن تبصر الحياة بأبعادها الأربعة وبعيون مفتوحة على كل الجهات.

الوعي بالترحال

جريدة الوجه الحقيقي سياسية ثقافية خدمية رياضية فنية Face True News: النّوارس هذا الصّباح الروائية التونسية عفيفة سعودي سميطي

عفيفه السميطي / كاتبة وروائية تونسية – تونس

*وتقول الروائية التونسية عفيفة سميطي، إن المبدع مجبول على الترحال وينخره هذا التوق لاختراق العوالم المجهولة، فهو دائما في حالة سفر، يقتطع التذاكر عند محطاته المنتصبة على قارعة الشغف، ويمضي في أنفاقه الممتدة ليلتقط أصواتا تقوده إلى مدنه المدفونة، حيث يظل بذلك المعول الذٌهبي يحفر في أجسادها إلى أن تتحرك وتكشف عن أسرارها، ما بين سفره الداخلي العسير وذاك السفر الذي ينجزه على أرض الواقع، عبر الترحال تتجلى محنته الإبداعية فلا استقرار، يؤرقه المكوث في مكان واحد، يستلب طاقته ويُعطب تأمله، لذلك يتصدر السفر قائمة الشغف لديه، إذ لا مثيل لهذا الكوكب بذاك الدوران المذهل، الذي يضخ الكون بطاقة الحياة والتنوع، الثراء والقصص مصدرا للمعرفة، يتسم بالجمال والحيوية يحرك في وجدان المبدعين مجسات استشعارهم ويحفزها ويغذي قريحاتهم النهمة بالصور والايحاءات والمقولات، ويكشف لهم عن الجانب الآخر من العالم، حيث يكسر الاختلاف في الثقافات والعادات والتقاليد وأنماط الحياة المتطورة، الفهم التقليدي الراكد ويؤسس للانفتاح والجرأة ويثوّر الخطاب. بين المبدع والسفر علاقة جدلية، كلاهما يحتاج الآخر، السفر انطلاقا من تعريفه كوسيلة للمتعة والمعرفة، يحتاج هذا المبدع لينال قسطه في المجال الفكري، ويصبح أدبا، وليس أدلٌ على ذلك من أدب الرِحلات، وتُعد كتب الرحلات من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، لأن الكاتب يستقي المعلومات والحقائق من المشاهدة الحية، والتصوير المباشر، ما يجعل قراءتها غنية، ممتعة ومسلية، عدد كبير من الروايات والقصص يمكن أن يندرج بصورة ما تحت مسمى أدب الرحلات، فهذا المسمى الواسع، كما نرى قادر على استيعاب أعمال ابن بطوطة وماركو بولو وتشارلز داروين وأندريه جيد وأرنست همنغواي ونجيب محفوظ، رغم التباين الكبير في ما بينهم، لكن الفكرة التي تجمعهم هي فكرة الرحلة نفسها، الرحلة الزمانية أو المكانية أو النفسية، إلا أن ذاك الأدب تراجع عما كان عليه في العصور السابقة، وحتى أوائل القرن العشرين، على الرغم من أن العصر الحالي يعتبر بحق عصر الرحلة والسفر؛ نظراً للإمكانيات والتسهيلات الهائلة التي حدثت، بحيث أصبح السفر جزءاً من الحياة العادية للرجل العادي والسياحة بمفهومها الحالي، أصبحت بعكس ما كانت عليه الأوضاع في الماضي.

منحتني الأسفار القدرة على الاستمرارية والصبر والتأمل وألهمتني الأفكار والرؤى، واكتنفت طرقها ومدائنها حاملا قنديل المعرفة في مساراتها المتعرجة. السفر هو الحنين للأمكنة، أن توطد علاقتك بالأرض وتركض نحو الدهشة، دون توقف، هذا الوله المزمن الذي يدفعك لسبر أغوار المكان

فالرحالة الأوائل كانوا أدباء ومؤرخين وجغرافيين ومكتشفين؛ لذلك جاءت كتاباتهم سجلاً وافياً ودقيقاً وعميقاً عن انطباعاتهم عن حياة الشعوب، التي زاروها، كاشفة عن درجة عالية من القدرة على الملاحظة الدقيقة والتحليل، ولعل المسؤولية الأساسية عن تخلف أدب الرحلات حالياً ترجع إلى حرمان المسافر من تجربة الرحلة الحقيقية بكل ما فيها من عمق وإثارة واكتشاف، فقد أصبح السفر سهلاً ومتاحاً لكل الناس، وفقد المسافر خصوصيته في ما يسمى بالرحلات الجماعية المنظمة سلفاً، ما جعل «السائح» الحديث يحل محل «الرحالة» القديم، فالرحالة يعنى التميز والفردية والأصالة والعمق، والسائح هو المتابع السطحي الذي ترك أمور رحلته بيد غيره، يرى بعيون من نظم الرحلة، ويفهم ويصدر الأحكام المتعجلة النابعة من الآخرين وليس من ذاته، فهذا التحول من الرحالة إلى السائح يُعد أحد أهم أسباب تراجع أدب الرحلات حالياً. يضاف إلى ذلك تقدم وسائل الاتصال خصوصاً التلفزيون والإنترنت بحيث يظن مستخدم هذه الوسائل، أنه يعرف كل شيء عن العالم، وأنه زار كل مكان في العالم، وهو جالس في بيته لا يتحرك من مكانه أمام شاشة التلفزيون أو الكمبيوتر.

حالة إنسانية

*وتضيف الأكاديمية الليبية لمياء شرف الدين قائلة.. السفر ابتعاد عن مكانك، عن عالمك المعتاد بكل أبعاده، ولعل أول مفاهيم السفر بالنسبة لي كانت الرحلات الترفيهية والسياحية في مناطق ليبيا، التي كان والدي ينظمها في الربيع، والرحلة الأسبوعية إلى شاطئ البحر في بداية الصيف، ثم السفر إلى تونس. ونما لديّ بعد ذلك حب الرحلة والسفر، فزرت بعض البلاد العربية وبلدا أوروبيا. وعلى الرغم من العدد القليل من البلاد التي زرت، إلا أني زرت مناطق كثيرة فيها. فالرحلة بالنسبة لي تعني الاستكشاف والتعرف على الثقافات والحضارات المادية واللامادية. ولم أهتم بالمناطق السياحية المعروفة، فقد شدتني المدن القديمة بأزقتها الضيقة ومبانيها، والأهم من كل ذلك سكانها ومرتادوها. فالتعرف على البلدان يكون من خلال أهلها. وقد صححت لي أسفاري نظرتي إلى هؤلاء الناس التي تأسست على معلومات استقيتها من الأخبار المنقولة من البعض. كما أخرجتني رحلاتي إلى البلاد التي زرت من نظرية المعلومات إلى الواقعية، من الكتب (التاريخ، الجغرافيا، الرحلة) إلى عين المكان. خبرت السفر في صغري، وأعدت التجربة للتحصيل العلمي إلى بلد أوروبي وقد تجاوزت مرحلة الشباب. وخولت لي هذه الرحلة التعرف عن قرب على مجتمع مختلف عن مجتمعي اختلافا كليا، ثقافة وحضارة ودينا، وزرت في هذا البلد الكثير من المناطق، وأدركت أنه رغم الاختلافات الدينية والثقافية والحضارية التي قد تكون فاصلة بين شعوبنا العربية والإسلامية وشعوب البلدان الأخرى، كان الإنسان واحدا، هو الذي يقرب أو يبعد الآخر. فالتقارب والتباعد فعل إنساني وليس فعلا ثقافيا أو حضاريا، فالحضارات ذاتها تتآلف، فلا توجد حضارة أو ثقافة خالصة.

في المنفى يسكنك الوطن

الهلال اليوم: مختارات لـ"سيرجي يسينين".. ترجمة الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى (3)

عبد الله عيسى / شاعر فلسطيني – فلسطين

*ويقول الشاعر الفلسطيني عبد الله عيسى.. يشغلك السفر عن نفسك. يجعل ذاتك تقيم في أمكنة أخرى تغير ألوانها وحالاتها، ورائحة الوقت الذي سيترك أنفاسه في ذاكرتك، لتؤرخ لك في زمن آخر تفقده، إلا إذا استعدته في صور الألبوم، أو رزنامة الماضي، أو دفقة سردية يتجاور فيها بشر بألسنة مختلفة وملامح متعددة وتواريخ تسكن في المتاحف والأبنية والتماثيل والشوارع، مع أمكنة تحكي رواياتهم بما تنطق به من دلالات واستعارات والتباسات غامضة أحياناً، أحجارها ورطنات الغرباء في أزقتها القديمة، وكذا تأويلاتك لقراءتك الجديدة حين تكتشف معالمها وبوابة التاريخ إليها، وشخوصها الذين لا يزالون يطلون على الأبدية من ساحاتها. لكن إقامتك في المكان الذي تسافر إليه تظل مؤقتة. لا يصبح المكان دليلك، إلا لحظة مكوثك فيه، إلى غدك، بل يبقى دالاً في ماضيك منذ الوهلة التي تتسع المسافة بينكما. فيما يحيلك المنفى إلى مساحة أخرى، تنشغل فيها عن ذاتك بنكهة الحنين إلى تفاصيل ذاكرتك، ولون مجهول غامض يتقنع به غدك. هنا يصبح الوطن مرآة لملامحك التي تتبدل بفعل العادة اليومية، وصورة لغتك التي تتشبه بفكرتك الخصوصية وهي تعبر رطنات السكان الأصليين، وأنت الغريب فيه، تماما مثل لغتك التي تصبح وطناً، وملامحك التي ترعى تجاعيد وجهك، كما تكلأ فكرتك تضاريس الوطن من هواجس خوفك على غده المجهول بقناعه الغامض. لا تكتفي بالمرور بمقهى إلا كي تخلق لك موطناً آمناً لجسدك وفكرتك، ولا تخص ذاتك بامرأة إلا لتصبح شريكة في الذهاب معك بصحبة الوقت كله إليك، كما أنك لا تعبر الأضواء في الشوارع إلا لتطمئن على ظلالك التي تركتها من قبل على حجارتها. في المنفى يسكن فيك الوطن بأسمائه وأوصافه كاملةً من غير سوء. لكنك لا تقيم فيه إلا فكرة تلتبس عليك، كما يلتبس الظل على الضوء الذي يغادر المرآة. وكأنك أنت المحاصر بالوطن كلما اتسع المنفى لحريتك المفقودة.

لطالما كان السفر من أكثر ما تتوق له نفسي طالما سأعود إلى بلادي بعد انتهاء كل رحلة، ولطالما وضعت مخططات للسفر إلى بلدان بعينها لما تحتويه من صروح ثقافية أو سياحية أو تراث شعبي، بالإضافة إلى هدف مهم بالنسبة لكل فنان، وهو زيارة المعارض الفنية والمتاحف.

أفق يتسع

الفنانة التشكيلية السورية هيام سلمان " جمعية أرسم حلمى الفنية" - عرب22

هيام سلمان / فنانة تشكيلية سورية – سوريا

*أما التشكيلية السورية هيام سلمان فتقول .. لطالما كان السفر من أكثر ما تتوق له نفسي طالما سأعود إلى بلادي بعد انتهاء كل رحلة، ولطالما وضعت مخططات للسفر إلى بلدان بعينها لما تحتويه من صروح ثقافية أو سياحية أو تراث شعبي، بالإضافة إلى هدف مهم بالنسبة لكل فنان، وهو زيارة المعارض الفنية والمتاحف فالوقوف أمام اللوحات الأصلية لفنانين عالميين هو حلم كل فنان. غير أن للسفر عند بعض الناس أسبابا أخرى لا تقتصر على التسلية والمرح والاستمتاع، التي توفرها الرحلات السياحية، بالإضافة للتعرف على عادات وتقاليد وتراث شعوب تلك البلدان والتعرف على أسواقهم والأماكن الأثرية المهمة، بل لبعض الناس تكمن أهمية السفر في تقديم فرص جديدة في الدراسة، أو تحسين الوضع الاقتصادي، من خلال العمل أو تأمين أماكن آمنة، للذين تعاني بلدانهم من الحروب، أو يعيشون ظروفا إنسانية صعبة، أو يتعرضون لقمع سياسي أو لتمييز جنسي أو عرقي أو أثني في بلدانهم، كل هذه الأسباب تجعل من السفر بكل حالاته يحمل إيجابيات كثيرة. إنه انتقال من عالم إلى عالم آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، أفق يتسع فتتسع معه آفاق معرفية وجمالية ثقافية وتتحقق فيه الفائدة والمعرفة إلى جانب المتعة، وحس المغامرة واكتشاف الأماكن والبشر بالتزامن مع ارتفاع مستوى الشوق والحنين للبلد الأم.

ناس المدن القديمة

فتحي نصيب | الأنطولوجيا

فتحي نصيب / كاتب ليبي – طرابلس الغرب

*وعن تجربته يقول الكاتب الليبي فتحي نصيب.. أهم دواعي السفر كانت لأسباب ثقافية وسياحية. فكثيرا ما كنت أحرص على حضور معارض الكتاب التي تقام في أغلب الدول العربية، كالقاهرة وتونس ودمشق والدار البيضاء وأبوظبي وغيرها، وكذلك بوصفي كاتبا فقد شاركت ببعض الندوات الثقافية، التي دعيت إليها أو إقامة الأمسيات، في العراق والأردن والجزائر وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا. وكنت أحرص خلال زياراتي لهذه الدول، أن أزور أهم المعالم السياحية كالمتاحف والآثار، ومنها الأهرامات المصرية ومتحف اللوفر والآثار في إيطاليا واليونان، خاصة المدن القديمة في كل بلد، فالمدن الحديثة متشابهة تقريبا لكن للمدن القديمة بأزقتها وأسواقها ومكتباتها القديمة وبيوتها الفريدة في طرازها المعماري تمنحني فرصة اكتشاف عبق التاريخ وفسيفساء الجغرافيا، والغريب أن قاطني المدن القديمة متشابهون رغم اختلاف الدول والثقافات، بل واللغات.

غصة المواطن العربي

الكاتبة غادا فؤاد السمّان أطلقت مجلة «إلا» الالكترونية

غادا فؤاد السمّان / كاتبة وشاعرة سورية – بيروت

*ونختتم بالشاعرة والكاتبة السورية غادة فؤاد السمان.. السفر مفردة لها سرها وسحرها الكامن على امتداد السنين، فالشاعر يسافر عبر اللغة، والعاجز يسافر عبر المخيلة، والعاشق يسافر عبر الحلم، والتاجر يسافر عبر الفائدة والمنفعة وفرق العملات، والفيلسوف يسافر عبر النظرية، والرياضي يسافر عبر التحدي، والفلكي يسافر عبر التأمل، وكأن لكل إنسان فلكه الخاص الذي يهيم به طلبا لهدف ما. والسفر لا يخفى على أحد أنه قد اختلف كليا ما بين الأمس واليوم، ففي الأمس كان السفر للتعارف، لاكتساب الصداقات، وثقافة العادات المغايرة، والاطلاع على ما لذّ وطاب بحثا عن التنوع والتجديد للقضاء على الروتين والوحدة والملل، لكن التكنولوجيا اليوم ساهمت في تبديد القسط الأكبر من غايات السفر الأساسية، فالتعارف واكتساب الصداقات متوفر على امتداد الأثير، وعلى مدار الوقت المتعاقب بين ليل ونهار، يكفي أن تكون مكانك وتفتح نافذتك على العالم، لترصد كل شيء وكل ثقافة وصولا لأدق التفاصيل، إذا السفر تغيرت عناوينه كليا بين الأمس واليوم، وصار من جهتي بقطبين محدودين جدا، خاصة بالنسبة لنا نحن أبناء العالم العربي «المأزوم» جدا. لكن السفر لم يعد مقدورا عليه لفرط متطلباته، اعتبارا من الأوراق الثبوتية والوثائق بكل ما فيها من أختام وأذونات وجوازات وموانع ومراجعات، خاصة نحن أبناء الأوطان الممنوعة من «الصرف» والمكتوفة في التصرف.

المصدر : صحيفة القدس العربي

You may also like