×

الأرقام مسؤولية لا عشوائيّة فيها.. واحد+ واحد= ؟!

الأرقام مسؤولية لا عشوائيّة فيها.. واحد+ واحد= ؟!

FB_IMG_1744483364477 الأرقام مسؤولية لا عشوائيّة فيها.. واحد+ واحد= ؟!
عرفان نظام الدين/ كاتب واديب وصحافي عربي- رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط – باريس

كتب الصحافي عرفان نظام الدين صفحة آخر العنقود في العدد الأخير في “أسواق العرب”.

كلما صدرت مطبوعة إقتصادية شعرت بالرهبة والتهيُّب نظرا” لحساسية وضعيتها وقدرتها على الإنتشار والوصول الى قارئها المتخصص، وأشفقت بالتالي على حال ناشرها لعلمي المسبق بصعوبة المهمة، وضيق الأسواق، وعدم إقبال القرّاء على مثل هذه الوسائل الإعلامية، وفق الإعتبار بأنها جافة وجامدة ولا تتضمن موادا” جاذبة ومسلّية وسط إعلام التفاهات والفضائح والإسفاف.
في الغرب العكس هو الصحيح، فأشهر المطبوعات هي مالية إقتصادية تتمتع بإحترام شديد وإقبال من قبل أصحاب الإختصاص والقرّاء العاديين على حد سواء، مثل صحيفة “فايننشال تايمز”، و”وول ستريت جورنال” ومجلة ال”إيكونوميست” وغيرها.
في عالمنا العربي ما زالت التجارب والمغامرات الإعلامية في هذا المجال طرية العود ومتعثّرة، وسط آمال بأن يجتاز بعضها، ومن بينها، “أسواق العرب” الفتية، الإمتحان الكبير وينجح في الصمود والإستمرارية.
ومصدر قلقي وتهيُّبي يعود الى معرفتي بالحساسيات وحجم الصعوبات رغم أنني خرّيج كلية العلوم السياسية والإقتصادية، ورغم خبرتي الطويلة في الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي. فالإعلام السياسي والفني والإجتماعي يمكن أن يصول ويجول كما يشاء من دون حسيب ولا رقيب، وعندما يخطىء لا يبدو الخطأ بارزا”، وإن لاحظه القرّاء يمكن أن يُعالَج الأمر بإعتذار أو حتى تجاهل. أما في الإقتصاد فالخطأ فيه خراب بيوت وفضيحة وإنهيار للمصداقية.
ففي السياسة، التي هي فن الممكن، نجد في زمن الإسفاف والفضائح فوضى وضياع المصداقية، والإمعان في إستغباء القارىء، والإنحياز، وتغليب الترهيب والمصالح، والمبالغة في الأرقام مثل الحديث عن “المليونيات” في مظاهرات “الربيع العربي”، أو سماع أحد المراسلين يقول بكل ثقة أن عدد المتظاهرين يتراوح بين 200 و400 ألف متظاهر، أي بفارق 200 ألف شخص، ويتم الإصرار على هذا التقدير من دون أن يرفّ أي جفن للمراسل أو للمسؤول عن نشرة الأخبار.
وأذكر في سبعينات القرن الفائت، أيام أحداث “أيلول الأسود” بين الأردنيين والفلسطينيين، أننا أوفدنا في جريدة “الحياة” أحد الزملاء لتغطية أحداث جرش، وعندما عاد كان يتصبب عرقا” ويلهث وهو يصرخ “مذبحة مروعة … 10 ألاف قتيل”. وكان معنا زميل عزيز مصري من أصل لبناني هو الياس بدوي، رحمه الله، هدّأ من غلوائه وقال له: “يا بني ده مش معقول … هي حرب عالمية ! إجلس وأخبرنا كم عدد القتلى”. وبعدما هدأ الزميل العائد أجاب: “ألف”. فصرخ الياس: “هاتولو كازوزة” … شربها وقال: “مئة” . فردّ الياس: “ولكن وكالة “رويترز” تقول أنهم أقل من عشرة ! فأجابه: “معقول، ولكن الجرحى مئة”. فقال الياس: “طيِّب يا سيدي إكتب عشرة”.
وكان ما كان وظهر الخبر على هذا الأساس.
في الإقتصاد لا يمكن ولا يجوز اللعب بالأرقام. فالإعلام الإقتصادي هو أرقام، والمال هو رسوم بيانية وموضوعية ومصداقية وإحصاءات دقيقة جدا”، أي واحد + واحد = 2… أما في السياسة فقد تصبح النتيجة ثلاثة أو مئة أو ألف من دون أن ينتبه المتلقّي. كما أن قارىء المطبوعة الإقتصادية مثقف ونخبوي ورجل أعمال ربما يعرف في مجاله أكثر مني ومن المطبوعة ويتابع الأرقام والأحداث والتطورات. في عصر الإنترنت والإتصالات السريعة والمعلوماتية تستطيع في كبسة زر التأكد من معلومة أو رقم فتكرّم الوسيلة الإعلامية أو تهان !؟
والأخطر من ذلك أن الخطأ لا يتعلّق بالموضوعية فحسب، بل فيه خراب بيوت، وربما مصائب وصدمات لمن يتابع، لا سيما وأن السنوات الأخيرة شهدت إقبالا” جماهيريا” على أسواق الأسهم والسندات و”اللعب” في البورصات على مستويات مختلفة، ولم تعد تقتصر على رجال الأعمال وأصحاب الشركات.
مثال على ذلك، أنني دعيت قبل سنوات عدة الى حفل إطلاق صحيفة إقتصادية مالية. وقبل توجهي قرأت العدد الأول منها، وتفحّصته بدقة، ولفت نظري خبر نشر على الصفحة الأولى، وعلى أربعة أعمدة، وفيه تأكيد وإصرار على أن سعر الدولار سيحقق قفزات عالية، وأن المستقبل له… وبعد ساعات إستمعت الى الأخبار فإذا بها تشير الى العكس، الى هبوط قيمته بشكل حاد في ذلك العام.
وبدأ الحفل ومعه خطابات المديح والإطراء والنفاق أمام الناشر، والزعم بأن هذه الصحيفة لا مثيل لها، وبأنها فتح مبين في الإعلام العربي. وإلتفت اليَّ الناشر قائلا”: سمعنا كل الآراء وأنت صامت تستمع. فما رأيك ؟ قلت: أخاف إن تكلّمت أن أنغص عليكم فرحتكم. فردّ: لا أبدا”، أريد أن أسمع رأيك. فرويت له حكاية الدولار، وقلت: هذا مثال صارخ عن دقة مهمتكم، إن مثل هذا الخبر يمكن أن يكون قد تسبب اليوم بمصائب وخسائر لمن صدّقه وسارع الى شراء العملة الأميركية. فالدقة مطلوبة والحذر واجب، ولا يجوز الإستخفاف بعقل القارىء، ولا التهاون في التأكد من الحقيقة مئة في المئة.
مثالٌ آخر: بعد موجة الإندفاع الجماهيري لشراء الأسهم، شهدت السعودية فورة جنونية، وموجة عارمة شارك فيها من هبّ ودبّ: فبعضهم من باع منزله، وآخر باع مجوهرات زوجته وإستخدم مدّخرات أولاده، وبعضهم الثالث إستقال من وظيفته للتحوّل الى أسواق الأسهم … وحقق كثيرون أرباحا” حقيقية في البداية، مما زاد في الهوس والرغبة في الربح السريع.
وإستضافني التلفزيون السعودي يومها حيث سألتني الإعلامية المتميّزة ريم الشامخ، عجّل الله في شفائها، في ختام الحوار: ما رأيك بهذه الموجة ؟ فأجبتها بحذر: الله يستر، أنا خائف من أزمة مناخ جديدة. (نسبة الى كارثة سوق المناخ في الكويت). وفي المساء (وكان يوم سبت) كنت في عشاء عائلي، ولا حديث إلّا عن الأسهم والأرباح، فقلت للحضور: “والله خايف عليكم يا جماعة، إنسحبوا بسرعة أحسن ما تنضرّوا”. ولم يلتفت أحد الى تحذيري. ويوم الإثنين التالي وقع ما لا يحمد عقباه وإنهارت الأسعار بشكل كارثي وخسر آلاف المواطنين مدّخرات عمرهم.
نعم إنها لغة الأرقام الدقيقة ومسلمة أن 1 + 1 يساوي 2 … والحمد لله على إعفائنا من هذا الهم فهمومنا تكفي وتزيد !!!

المصدر : مجلة – أسواق العرب –

Share this content:

مجلّة - إلّا - الألكترونية/ مجلة هادفة ذات مستوى ومحتوى سواء بما يساهم به أقلام الكتاب العرب المعروفه والمنتشرة بأهم المنابر العربية، أو بما يتمّ اختياره أحياناً من الصحف الزميلة بتدقيق وعناية فائقة، وحرصاً من مجلّة - إلّا - بإسهام المزيد من الأقلام الواعدة يُرجى مراسلتها على البريد الألكتروني / ghada2samman@gmail.com

إرسال التعليق

You May Have Missed