Home لـوثـة إلّاأدب عصام الغازي يتذكّر/ قال لي نجيب محفوظ: الرئـــاســــة ورّطتـــــني!

عصام الغازي يتذكّر/ قال لي نجيب محفوظ: الرئـــاســــة ورّطتـــــني!

by رئيس التحرير

 

عصــام الغــــازي شاعر وكاتب وصحافي/ جمهورية مصر العربية

عصــام الغــــازي
شاعر وكاتب وصحافي/ جمهورية مصر العربية

في الذكرى التاسعة لرحيـــل نجيب محفوظ ..

حين  وطأت قدم نجيب محفوظ أرض مصر، بعد الجراحة التي أجريت له في بريطانيا بعد محاولة اغتياله على يد إرهابي لم يقرأ له رواية واحدة؛ اهتزّ وجدان الأمّة وخفق قلبها بقوة، وهي تحتويه بكل أشواقها. كانت مصر  في حالة التياع وقلق عليه، فهو فتاها الذي رفع هامتها عاليا حين فاز بجائزة نوبل في الآداب، وهو ابنها النابه الذي اختزن الزمان المصري والمكان معاً في خلاياه ووجدانه.

???? ????? ?????? ?? ????

محفوظ أثناء العلاج في مشافي لندن

وسوف تزهو الأجيال التي عاصرته، وقرأت أدبه وأفكاره، أنها عاشت ” زمن نجيب محفوظ ” جَبَرْتي هذا العصر، وأنها رأته رؤيا العين، وتلامست معه بالفكر والوجدان والضمير، إلى أن فارقنا يوم الأربعاء 30 أغسطس من عام 2006 عن 95 عاما.

أتيح لي أن أتشرف بلقائه والتحاور معه خمس مرات (أربع مرات على انفراد، وواحدة في إطار جماعي) . وأحدث حواري الأول معه في حينه، ردود فعل واسعة، تناقلته الصحافة العربية (حين نشر في19 يونيو 1985 بمجلة “المجلة” السعودية)، وقتها صارحني بأن رئاسة الجمهورية ورطته في علاقاته الإسرائيلية، في وقت كان التحدّث إلى أحد الإسرائيليين جريمة في درجة الخيانة العظمى، حتى ولو كان هذا الاسرائيلي أحد المناصرين للحقّ العربي.

وقال لي نجيب محفوظ يومها: ” عندما أتى الإسرائيليون إلى مصر، وزاروا رئاسة الجمهورية  في ذلك الوقت، كانت الرئاسة تتصل بي لتقول: فلان في مصر ويريد زيارتك. وراح يعدد لي أصدقاءه من الإسرائيليين الذين عرفهم، وهم كما ذكرهم لي: “متتياهو بيليد” أحد أصدقاء ياسر عرفات، و”ميليسون”  حاكم الضفة الغربية الذي استقال احتجاجا على سياسة بلاده التوسعية في الأرض المحتلة، و” ساسون سوميخ” الذي عمل أستاذاً للأدب العربي بجامعة تل أبيب”.

11944824_793715830727559_850687778_n

الأديب العالمي نجيب محفوظ والشاعر عصام الغازي

وقال لي نجيب: معظم أعمالي الروائية ترجمها الاسرائيليون في زمن الحرب، عندما لم تكن هناك أية علاقة تربطنا بهم، وما ترجم  قبله من حيث الكم ، بمعنى أنّ خطّتهم في الترجمة بدأت منذ الخمسينيات (من القرن الماضي) وحين تمّ الصلح بيننا وبين إسرائيل، جاءتني الكتب مترجمة، وقمت بتسليم شيكات حقوقي الفكرية إلى “جهاز الأمن ” بجريدة الأهرام.

حين واجهته بغضب قطاعات كبيرة من المثقفين من تصريحاته المؤيدة للتحرّك نحو السلام، قال بانفعال: ” ياعزيزي أنا يوم أعلنت رأيي، وأكرر إعلانه الآن، أعتقد – والله شهيد –  أنه في صالح العرب، فإذا أثبتت الأيام خطأه – وهذا وارد – فأنا بشر أخطيء وأصيب، ما أريد هو ألا تتصور أبدا أن يكون رأيي هذا لخدمة إسرائيل، ومن يتصوّر هذا يكن مجنونا!”.

رجلان في جسد واحد:

يعترف نجيب محفوظ أن بداخله كائنان يسكنان جسده: نجيب محفوظ الانسان، ونجيب محفوظ المبدع،

وقد قال لي: ” هناك ظاهرة لا تغيب عني أبدا، وهي أنني في حياتي العادية أحافظ على مشاعر الآخرين على قدر طاقتي، بمعنى أنّ معاملتي مع الناس تقوم على التماس الأعذار لهم، بخلافي في كتابة الرواية، فأنا أبدو كناقد ينظر إلى العيوب، وينقّب عنها، وكأنه يعوّض بذلك أسلوبه في الحياة العملية. ففي الحياة العملية لا أنظر عادة إلّا إلى الجانب الحسن من الشخص الذي أقيّمه، وأعمد إلى التسامح في أخطائه، أما في الرواية يحدث العكس تقريبا.

هناك نقطة أخرى كانت موضعا لتأملي بالنسبة لكثير من الشخصيات التاريخية، في تأثري وانطباعي ، ثم في حديث المعاصرين لهذه الشخصيات عنها. وقد فسرتها بأن الانسان إنسان، له غرائز تربطه بعالم الحيوان، وله عقل وضمير، وهو الجانب المستخلص من الحضارة والمجتمع، الذي يربطه بعالم الانسانية. إذن لكل انسان جوانب إيجابية وجوانب سلبية، وحين تتعرّف إلى شخص  من خلال أعماله، فأنت تتعرّف على إيجابياته. فمثلا ” محمد علي” عرفناه كمشيّد -للقناطر الخيرية – و -ترعة المحمودية – و -المصانع والجيش والامبراطورية -، الجانب الآخر  له هو نفسه

???? ??? ????

محمد علي باشا   1805- 1953

” محمد علي”  المتعجرف، الأناني، الغادر، الذي يستضيف الناس ثم يقتلهم، وينفي الذين انتخبوه ليصبح واليا  في اليوم التالي لاختيارهم له. والانسان هكذا دائما ليس بمقدوره أن يكون حصيلة إيجابياتٍ مجردة. والغرب أقدر منا على تصوير شخصياته العامة ، فهم حين صوروا البيت الأبيض  قدموا الرئيس بحسناته وسيئاته هو ومن حوله. أما نحن فحين نتعرّض لشخصية تاريخية، فإننا  نحوّلها إلى دمية وكأنها منذ ولادتها كانت شخصية تاريخية.

من هنا نستبين أن نجيب محفوظ الذي كتب الرواية والقصة كان نجيب محفوظ المبدع، وأن نجيب محفوظ الذي كتب الرأي والفكر كان نجيب محفوظ الانسان، والاثنان يختلفان في ممارساتهما ورؤاهما للواقع والأحداث . والبشر والأشياء. إلّا أنّ الاثنين يجتمعان قي شيئين جوهريين:

  1. في جسد واحد.
  2. في أنهما يستمدّان عناصر الثقافة والفكر والابداع من مخزون وراثي واحد في خلايا ذلك الجسد المشترك بينهما.

وتلك لم تكن حالة مرضية من التي يسمونها “شيزوفرانيا”، لكنها حالة يتميز بها المبدعون.

يقول نجيب محفوظ : “مثلما أن التمسّك ببعض القيم الأصيلة يفيد شخصيتك، فإن التنازل عن بعض الصفات الأخرى يفيدها أيضا في البناء، وليس كل ماتجده في تراثك وبيئتك خيراً، كما أنه ليس كل ما تكتسبه من الخارج شراً “.

لمحة عن منظومة عبقرية إنسانية:

للمقاهي في حياة نجيب محفوظ مكانة خاصة متميزة، خاصة مقاهي الفيشاوي، وبديعة، وريش، وعلي بابا، وكان نجيب يصحو مبكرا ثم يمضي سائراً على قدميه من منزله في شارع النيل بالعجوزة، إلى مقهى علي بابا في ميدان التحرير، حيث يقضي ساعة  جالساً في الشرفة العلوية للمقهى يرتشف قهوته الصباحية ويطالع الصحف، ثم يجلس شارد الذهن لبعض الوقت وكأنه يعيش حالة إلهام لا يدرك أبعادها غيره.

???? ????? ????? ??? ????

من الدور العلوي لمقهى علي بابا والقهوة الصباحية

images (7)

مقهى علي بابا الأشهر من بين أربعة مقاهي

وقد التقيت نجيب ثلاث مرات في ذلك المكان، وكنت أطلب منه في كل مرة أن يخصّ المجلة التي أعمل بها بقصة قصيرة، وحين ألتقي به يخرج المظروف الذي بداخله القصة من جيبه ويضعه أمامي، وأخرج أنا مظروفاً آخر من جيبي به (خمسمائة جنيه)  – مقابل نشر القصة – وأضعه أمامه، وكان ذلك قبيل فوزه بجائزة نوبل، ثم نبدأ حواراتنا لمدة ساعة تقريبا.

وكان نجيب يضيق بالمتطفلين عليه لدرجة أنه قطع حواري معه لينادي جرسون المقهى ليشكو له بعصبية من أحد المتطفلين الذي اقترب بمقعده منا، ليتصنت على كلامنا.

قال لي نجيب عن أسباب عشقه للمقاهي: “المقاهي  لها دور ثقافي مهم، فقد كانت تروى فيها القصص الشعبية بالربابة  والشعر، وكانت أهم الروايات الشعبية قصّة عنترة، وحمزه البهلوان، والسيرة الهلالية، وكان المستمعون ينقسمون إلى فريقين، كلّ يشجّع أحد أبطال الرواية الشعبية، حتى أن الراوي يجد صعوبة في أن يغلب أحد البطلين على الآخر، لأنه في بعض الأحيان كانت تقوم مشاجرات بين مشجعي كل من البطلين. وكنت أحضر في صباي هذه القصص في شارع خان جعفر، واستمرّت المقاهي على هذا الحال حتى لعبت دوراً أدبياً، عندما اتّخذها بعض الأدباء أماكن للاجتماع والسمر والمنافسة، وارتبطت أسماء المقاهي ببعض الأدباء والمفكرين، مثل مقهى كتكوت في

?????????

?????? ???? ???????

الشاعر حافظ ابراهيم

الحسين الذي ارتبط باسم المنفلوطي، ومقهى باب الخلق الذي ارتبط باسم حافظ ابراهيم، وعندما قامت الحركات السياسية كان للمقاهي أيضا دور، حيث يجتمع فيها الشباب ويناقش المسائل العامة ( مثل مقهى ايزافيتش في التحرير ومقهى ريش بشارع طلعت حرب ومقهى زهرة البستان بوسط المدينة)، وذكر لي نجيب محفوظ أن البوليس السياسي كان يطارده من مقهى الفيشاوي الى مقهى ريش الى كازينو بديعة.

رؤية معمّقة واستشراف للحاضر

ترك نجيب محفوظ نصائحه للأجيال الجديدة التي عاشت تجربة دموية مريرة للثورة منذ 25 يناير2011 حتى اليوم، وكأنه كان يستشرف المستقبل فقال لي:

“إنّ المهمّة الصعبة في كل عصر وزمان، هي كيف تصنع إنسانا ملتزما، يحمل مشاعر الانتماء، والحماسة للعمل، ويؤمن بوطنه وبالقيم السامية والانتاج؟”..

ثمّ أضاف:

“وأفضل مثال يمكن طرحه في هذا الصدد  هو الانسان الياباني، الذي أثبت وجوده وكيانه في أنظمة متناقضة، مثل ديكتاتورية “الميكانو”، والديمقراطية الحديثة، وفي أي نظام آخر يجد نفسه فيه، فإنه ينجح لأنه إنسان جيد.”.

ويستطرد:

“ما الذي أفسد الديمقراطية عندنا؟، ولماذا لم تكن هناك في حياتنا  ديمقراطية صحيحة؟.. السبب هو وجود حاكم أراد أن يستبدّ، فوجد من أبناء الشعب من يعاونه ، حتى لو قال قائل إنّ السبب هو وجود الاستعمار والدسائس، أقول إن الدسائس لو لم تجد من يستجيب لها لفقدت مفعولها. فهل كان باستطاعة الحاكم أن يشكّل وزارة من الانجليز؟.. إذاً العيب فينا نحن الذين أفسدنا التجربة الديمقراطية، ولم نتركها تأخذ مداها الصحيح لنرى ثمارها الطبيعية، وحين أتت الاشتراكية، قامت بإصلاحات عظيمة، لكنها أنشأت القطاع العام من خلال كوادر تناصبه العداء!، لأن الاشتراكيين أوْدِعوا المعتقلات، وكانت النتيجة تخريب القطاع العام، لأن الذين يعملون فيه، ليسوا  فقط  غير مؤمنين به، بل يكرهونه، لأنهم  ينتمون إلى جيل يعتقد أن الثورة قد سلبتهم، وأودعت ما سلبته منهم في هذا القطاع العام، وفشلت التجربة الاشتراكية. ولذلك فإن أهم شيء  في بلدنا  ينبغي عمله هو بناء الفرد، وحين ننجح في بناء الفرد الجيد، فإننا نستطيع بناء جماعة جيدة، وهذا أهم من المنهج والنظام.”.

وأذكر فيما أذكر أن قال لي نجيب أيضاً، في إحدى جلساتنا:

“حين فرضت اللغة العربية كلغةٍ رسميّة في مصر، أيام عبد الملك بن مروان، بدأ المصريون الأقباط في تعلمها، وقد دخل الكثير منهم الإسلام  دون إكراه، فاستقرّت الدولة وفتحت بمبادئها الإنسانية الشاملة بلاداً واسعةً، وامتدّت إلى ما بعد الأندلس.”.

نبذة عامّة عن الراحل نجيب محفوظ

(ولد “نجيب محفوظ عبد العزيز ابراهيم أحمد الباشا” في 11 ديسمبر 1911 بحي الجمالية بالقاهرة، لأب كان موظفا ثم اشتغل بالتجارة، وهو أخ لأربع أخوات وولدين، ماتوا بترتيب أعمارهم.

التحق بالكتّاب ثم بالمدرسة الابتدائية، ثم بمدرسة فؤاد الأول الثانوية، ثم بكلية الآداب – قسم الفلسفة – جامعة القاهرة، وتخرّج فيها عام1934.

سجل رسالة ماجستير تحت إشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق بعنوان: “مفهوم الجمال في الفلسفة الإسلامية”، ثم اتّجه إلى الأدب تماماً وانفصل عن الدراسة الأكاديمية، وعمل فترة في مجال كتابة السيناريو.

?? ??????

مع ابنتيه

تزوج عام 1954 وأنجب بنتين.

عمل مديراً للرقابة على المصنفات الفنية، فمديراً عامّاً لمؤسسة دعم السينما والاذاعة والتليفزيون، ورئيساً لمجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما والاذاعة والتليفزيون، ومستشاراً لوزير الثقافة المصري، ثم انضمّ لأسرة تحرير جريدة الأهرام.

????? ?????

نصب تذكاري للراحل محفوظ           وسط القاهرة

حصل على جائزة نوبل العالمية في الآداب في 13 أكتوبر 1988.

توفي في 30 أغسطس عام 2006).

خاصّ – إلّا –

You may also like