التقليد والعالم المعاصر تأملات في العلاقة بين الدين والعقلانية الحديثة والهرمنيوطيقا..

أ.د. بیژن عبدالکریمی، أستاذ جامعي وفیلسوف إیراني

المحاوِر: د. إدریس محمدي؛ باحث في شؤون العالم العربي والإسلامي

ترجمة الحوار: د. محمد حمادي

التنسیق والاعداد.. أستاذة فاطمة نعامي، محرر القسم العربي في مجلة باوان
حوار مع الدكتور بيجن عبد الكريمي، الفيلسوف والأستاذ الجامعي- الإيراني
المُحاوِر.. إدريس محمدي
إنَّ دراسة أعمالك تكشف عن تأثيرات مستمدة من هايدغر وغادامر، وعن ضرورة استعادة علاقتنا بالتفكير التاريخي واللغة. ففي منظومتك الفكرية، لا تُعدّ الهرمنيوطيقا مجرد منهج، بل هي أسلوب وجود الإنسان وفهمه لذاته والعالم. أرجو أن توضح هذا التصور الوجودي للهرمنيوطيقا بشكل أعمق.
تتبوأ الهرمنيوطيقا في عالم اليوم وفي التفكير المعاصر مكانة أساسية بالغة الأهمية، حتى ليمكننا القول إنَّ “التفكير والهرمنيوطيقا مفهومان متلازمان”، فلا ينفك التفكير عن التأويل أو التفسير. وكما أشرت في سؤالك، ليس الأمر أنَّ البشر ينقسمون إلى مفسرين وغير مفسرين، بل إنَّ البنية الوجودية لكينونة الإنسان هي بنية هرمنيوطيقية في جوهرها. بمعنى أنَّ الإنسان يشيّد عالماً خاصاً به بناءً على تأويله للعالم، ولذاته، وللآخر، ولعلاقته بالعالم، وبذاته، وبالآخر. إنَّ فهمنا البشري يتسم بطابع هرمنيوطيقي، وهذا يعني أن فهمنا للوجود المحض (الوجود في ذاته) هو أساس وعينا، ولا يمكننا أن نتصور الوجود المحض في محضيته، بل ندركه دائماً كشكل خاص من “الموجود”.
ومن الجدير بالذكر أن فهمنا البشري هو فهم تاريخي. فخلافاً للتصور الديكارتي عن الإنسان وطباع تفكيره، الذي يسعى لبدء الفهم من أساس أو مبدأ، نجد أنفسنا دوماً داخل سلسلة، بل متاهة من السلاسل. بعبارة أخرى، نحن دائماً في قلب قصة الفهم، لا في بدايتها أو نهايتها، ولا يمكن تصور نقطة بداية أو أصل للفهم البشري. فهمنا للعالم، وللإنسان، ولأنفسنا، وللآخر، يستند إلى افتراضات تاريخية مسبقة. وعندما تتحول هذه الافتراضات، يتحول فهمنا، وبالتالي عالمنا وأسلوب حياتنا. وبهذا المعنى، فإن فهمنا هرمنيوطيقي (تفسيري)، وكذلك هو أسلوب وجودنا. ونتيجة هذا القول أن التقليد ذاته هو أسلوب تأويل للعالم، والإنسان، والحياة، والحقيقة، وسائر المقولات، كما أن العالم الحديث هو نتاج أسلوب آخر من تأويل العالم. والسؤال الآن: كيف يمكننا أن ننسق هذه التأويلات المتنوعة في إطار متماسك ومنهجي؟

ينتقدك البعض قائلين إنَّ الهرمنيوطيقا تؤدي إلى نسبوية متطرِّفة تهدم الحقيقة. كيف تدافع عن الهرمنيوطيقا دون الوقوع في ما يسميه الأصوليون “التفسير بالرأي” أو “التأويل الذاتي”؟
إنَّ القول بأن الهرمنيوطيقا تنفي وجود الحقيقة صحيح إلى حد ما وخاطئ إلى حد آخر. فالنسبية ليست سوى إحدى الإمكانات الكامنة في التفكير الهرمنيوطيقي، وليست الإمكانية الوحيدة. إنَّ القول بأن “الهرمنيوطيقا تؤدي إلى النسبية” يشبه القول الذي ينص على أنَّ “الفلسفة تؤدي إلى المادية أو الإلحاد”. نعم، قد تؤدي بعض الفلسفات إلى الإلحاد، لكن هناك فلسفات أخرى لا تؤدي إليه. وكذلك، القول بأن “الهرمنيوطيقا تؤدي إلى النسبية” يشبه القول إن “التدين ينتهي إلى القداسة المتظاهرة، أو السطحية، أو الجزمية”. هذا القول يحمل نصيباً من الحقيقة، إذ إنَّ إحدى الإمكانات الكامنة في التقاليد الدينية هي ظهور نوع من القداسة المتظاهرة، والسطحية، والجزمية، والتركيز على الشريعة بطريقة غير متفكرة وخالية من الروحانية. نعم، قد يتم التدين بطريقة تحول الأمر الديني والروحاني إلى نظام “لاهوتي”، أي إلى مجموعة من المعتقدات الجامدة والمؤسسة تاريخياً، مما قد يؤدي إلى الجزمية، بل وحتى إلى العنف والتشدد الفكري. لكن لا توجد علاقة ضرورية بين التدين والتفكير الجزْمي، أي لا يمكن القول إنَّ الجزمية والتشدد والرجعية والقداسة المتظاهرة هي الإمكانية الوحيدة الكامنة في الفكر والثقافة الدينية، ولا يمكننا أن نكون متدينين بطريقة تتسم بالتفكير الحر، والتسامح، والروحانية غير المتظاهرة.
وبنفس المنوال، فإن الاعتماد على العلوم الحديثة لا يقودنا بالضرورة إلى “الوضعية” و”العلموية”، وإن كان من الممكن أن تكون “الوضعية” و”العلموية” نتيجة اعتماد خاطئ على العلوم التجريبية الحديثة. لذا، فإن الادعاء بأن الاعتماد على العلوم التجريبية الحديثة والتكنولوجيا يقودنا إلى العلموية والوضعية ليس صحيحاً، إذ لا توجد علاقة ضرورية بين الانفتاح على العلم الحديث وقبول عظمته وبين “العلموية” و”الوضعية”.
وبالمثل، لا توجد علاقة ضرورية بين الهرمنيوطيقا والنسبية، فالنسبية ليست سوى إحدى الإمكانات الكامنة في الهرمنيوطيقا من بين إمكانات أخرى. بعبارة أخرى، قد تقودنا بعض التيارات الهرمنيوطيقية إلى النسبية، لكن ليس من الضروري أن تكون كل صور التفكير الهرمنيوطيقي مؤدية إلى النسبية. يحدث أن يؤدي التفكير الهرمنيوطيقي إلى النسبية عندما تنقطع العلاقة بين النص والقراءة أو التأويل، كما لو أن النص صامت وأن التأويل ليس سوى صدى المفسر أو الذات التي تقرأ النص. لكن إذا قبلنا أنَّ النص لم يكن غير مبالٍ بقراءاتنا وتأويلاتنا، بل يظهر مقاومة أو تجاوباً معها، فإننا نبتعد عن النسبية، حتى لو قبلنا ببعض المبادئ الأساسية للتفكير الهرمنيوطيقي. إنَّ جوهر النقاش حول “الحقيقة” في المنظور الهرمنيوطيقي يكمن هنا: هل النص، أو الواقع، أو العالم الخارجي يظهر مقاومة أمام فهمنا وتأويلاتنا، ولا يسمح لنا بتأويله كيفما شئنا وبشكل تعسفي؟ أم أنَّ علينا أنْ نقر بأن النص أو الواقع صامت وغير مبالٍ بتأويلاتنا؟ من ناحية أخرى، فإن القبول بوجود الحقيقة، أي أن المعرفة والتأويل البشري ليسا تعسفيين أو عشوائيين، لا يعني بحال أن النص أو الواقع لا يكون متعدد الأوجه، أو ذا أبعاد وطبقات متعددة، أو خالٍ من إمكانيات التأويلات المتنوعة والمتعددة، أو أن معنى النص أو الواقع لا يرتبط بالتاريخ وبالموقعية الذاتية.

إن فهم النصوص الدينية، أكثر من كونه عائداً إلى النص ذاته، يبقى أسير الافتراضات الأيديولوجية أو الخطابية، وهذه الافتراضات العقائدية قد تسدّ الطريق أحياناً أمام تفسيرات أخرى للنصوص. فكيف يمكن إقامة توازن بين هذين الجانبين؟ وهل يبقى ثمة سبيل لهذا التوازن أصلاً؟
يندرج سؤالكم هذا في سياق السؤال السابق، لكنه يختلف بتخصيصه مفهوم “النص” ليشمل النصوص الدينية تحديداً، بدلاً من المعنى العام الذي يشمل كل شيء، من الواقع والظواهر والأحداث، بل وحتى الوجود ذاته. ومن منظور هرمنيوطيقي، لا يمكننا القول إن النصوص الدينية تتيح فهماً واحداً فقط، وكأن لها “فهماً صحيحاً” وحيداً، شبيهاً بالرياضيات، حيث نسأل مثلاً: “كم يساوي ٢ × ٢؟” أو “ما مجموع زوايا المثلث؟”، فيكون لهذه الأسئلة جواب واحد، كلي، ضروري، يقيني وملزم. إن كل النصوص، بما هي نصوص، تحتمل تفسيرات متكثرة، ومع تحول الافتراضات المسبقة، الذي يحدث حتماً عبر التاريخ البشري، تتكثر تفسيراتها وتتغير. ومع ذلك، فإن النصوص الدينية، شأنها شأن أي نص آخر، ليست صامتة إزاء التفسيرات، بل تُبدي رد فعل – إما بتجاوب أو مقاومة – تجاه التأويلات. ومن ثم، لا يمكننا أن نتعامل مع النصوص الدينية، كما هو الحال مع أي نص آخر، بتفسيرات تعسفية أو بشكل اعتباطي، أو وفق أهوائنا الذاتية في التأويل.
يذهب الكثير من المفكرين، مثل محمد عابد الجابري، إلى أنَّ التقليد لا مفر منه، وأنه ينبغي جعل التقليد “معاصراً” لنا. ومن الواضح أن مراده بالتقليد ليس التقليد العربي-الإسلامي فحسب، بل يشمل التراث الفكري الإيراني وكل فكرة اندمجت في التفكير الإسلامي. فما رأيكم؟ هل يمكن لوعينا بمكونات التراث أن يجعله معاصراً لنا؟
نعم، “التقليد لا مفر منه”. ومفردة “التقليد” هنا تُستخدم بالمعنى الذي قصده غادامر، لا بمعنى سنة النبي مثلاً، ولا في مقابلة الحداثة، ولا بمعنى ما يقصده التقليديون (traditionalists) مثل رينيه غينون (René Guénon) أو فريتيوف شوان (Frithjof Schuon). إن القول بأن “التقليد لا مفر منه” يعني أنَّه، بما أن فهمنا تاريخي، لا يمكننا أبداً التخلص من الافتراضات التي يوفرها لنا التراث، ومن التراث الذي يحيط بنا. لقد كانت العقلانية الديكارتية الحديثة وعقلانية التنوير تتوهمان خطأً أنَّ بإمكانهما تجاوز الافتراضات المسبقة، والبدء بالبحث الحر دون أي افتراضات مسبقة حول أي مسألة. ولكن من منظور الهرمنيوطيقا والتفكير التاريخي، هذا محض وهم.

وإنَّ قول الجابري بأن تراثنا ليس عربياً-إسلامياً فقط، بل يتضمن عناصر إيرانية، هو قول صحيح تماماً. ففي تراث التفكير الإسلامي، ثمة عناصر يهودية، ومسيحية، وهندية، وتركية، ومغولية، وحتى صينية وغيرها. لكن، إذا ما عدّدنا مكونات التراث، وقُلنا مثلاً إن التراث الفكري الإسلامي أو الإيراني يتكون من هذه العناصر أو تلك، هل يساعد ذلك في جعل هذه التقاليد معاصرة؟ الجواب هو أن فهم مكونات تراثنا الفكري، بما في ذلك التراث الإسلامي، يمنحنا وعياً تاريخياً، وهو يساعد كثيراً في جعل التراث الفكري العربي-الإسلامي أو الإيراني-الإسلامي معاصراً. لكن مجرد الوعي بعناصر التراث وقوامه لا يكفي لجعله معاصراً. لمعاصرة التراث، يجب إدخال مكوناته الأساسية في عالمنا المعاصر، ووضعها في حوار مع هذا العالم. وهذا لا يعني، كما يفعل بعض الحداثيين، “تحديث” التراث بفرض صيغة العقلانية الحديثة على مادة العقلانية الخاصة بالتراث، ولا يعني، كما تفعل التيارات الأصولية، فرض التراث على العقلانية الحديثة. بل ينبغي أن يحدث هنا ما أسماه غادامر “امتزاج الأفقين” (The fusion of horizons).
إن جعل التراث معاصراً هو عمل فلسفي وتفكري، وليس عملاً لاهوتياً، أو أيديولوجياً، أو سياسياً، أو دعائياً. وبحسب ما تتيحه معرفتي المحدودة، يفتقر العالم الإسلامي إلى فلاسفة ومفكرين عظماء قادرين على جعل التراث معاصراً في العالم الجديد. وهذا النقص في مثل هؤلاء الفلاسفة والمفكرين يشعر به بشدة في سبيل معاصرة التراث الفكري الإسلامي والإيراني.
في السياق الإيراني، تُطرح إشكالية “التعصير” (جعل التراث معاصراً) بطريقة قطبية: فريق يرى أنَّ المعاصرة تعني محو التقليد الإسلامي والارتداد إلى “العصر الذهبي” للفكر الفارسي القديم، بينما يرفض فريق آخر هذه النزعة باعتبارها نوعاً من الفاشية الجديدة التي تُقدِّس الماضي وتُفرِّغ الحاضر من سياقه التاريخي. فما هو البديل الذي يمكن أن نقدِّمه للأجيال الشابة؟
إن القول بأننا “نسعى لمعاصرة تراث ما” هو، في الحقيقة، ادعاء يتسم بطابع إرادي مفرط (Voluntaristic). فالمتفكرون يبذلون جهودهم الفكرية، ويقدمون أفكارهم، لكن ما إذا كانت هذه الجهود، كما يعبر هايدغر، ستصبح جزءاً من التاريخ المؤثر، وقادرة على معاصرة تراث فكري وعقلي عظيم أم لا، هو أمر لا يخضع لمجرد إرادة المتفكر. يسعى المفكرون إلى معاصرة تراثهم الفكري، ويبذلون جهوداً في هذا السبيل، لكن، كما يقول الشاعر حافظ الشيرازي:
قد ألقوا كرة التوفيق والكرامة في الميدان
فلمَ لا يبرز الأبطال إلى ساحة الكسب؟
إنَّ المتفكرين كالفرسان الذين يضربون كرتهم، لكنهم يحتاجون إلى “التوفيق” لمعاصرة التراث، أي أن عليهم أن يقيموا علاقة مع الوجود وتاريخه. فمعاصرة التراث ليست عملاً إرادياً بحتاً. ومع أنَّ التفكير يرتبط بالإرادة، وأنَّ المتفكرين يتوجهون بإرادتهم نحو الحقيقة، إلا أن كل متفكر أصيل يدرك أن الأمور لا تخضع كلها للإرادة البشرية، وأن ثمة قوة محيطة تتحكم في مصير الإنسان وفي إمكانية أو استحالة معاصرة تراث فكري وتاريخي عظيم.
وبعبارة أخرى، فإن بعض المثقفين يمتلكون تصوراً مشوهاً للغاية عن المجتمع والثقافة. وكأن المجتمع والثقافة والحضارة مثل الشمع الذي يمكننا تشكيله كما نشاء. ولكن المجتمع والثقافة لهما جوهرهما الخاص، وكما يقول هيجل، المجتمع والثقافة يشكلان “جوهراً اجتماعياً” (Social Substance). وبكلمات أبسط، تماماً كما لو أردت عبور هذا الجدار، فإن الجدار يقاومني، كذلك المجتمع لا يسمح لنا أن نفعل به ما نريد. لذلك لا يمكننا تجاهل التراث، وهذا بالطبع لا يعني أن نقبل التراث تقليداً بلا تفكير. جوهر القول هو أن حركتنا الفكرية والثقافية والاجتماعية، حتى لو أردنا تبني قيم جديدة من ثقافة أخرى وإدخالها إلى مجتمعنا وتاريخنا، تبقى غير قادرة على تجاهل التراث أو التفكير والعمل بمعزل عنه. فمثلاً، عندما أراد الفارابي وابن سينا إدخال مفاهيم وقيم يونانية إلى العالم الإسلامي، اضطرا إلى جعل هذه المفاهيم مفهومة للمسلمين في إطار الوجوديات، واللاهوت، وعلم النفس، والمعرفة. لم يكونا كمقلد أعمى للحضارة والثقافة والفلسفة اليونانية. واليوم، في مواجهة الحضارة الغربية، لا يمكن لمن يريد إحداث تحولات في المجتمعات الإسلامية أن يتجاهل التراث كلياً، أو أن يؤثر في المجتمع مستقلاً عنه، أو أن يدخل العقلانية الحديثة وقيمها وتصوراتها العالمية إلى المجتمعات الإسلامية.
ولهذا السبب، أرى أنَّ المفكر أو المثقف الحقيقي، إذا أراد التأثير في العالم الإسلامي، يجب أن يدخل في حوار ودود، محترم وبنّاء، وإن كان نقدياً وراديكالياً، مع التراث الإسلامي ومع ممثليه الرسميين، أي مع رجال الدين. إن التيارات الفكرية التي تسعى إلى إحياء التراث الفكري الإيراني ما قبل الإسلام ليست سوى خرافات وأيديولوجيات سطحية باهتة، تنبع من رد فعل سياسي-اجتماعي للظروف السياسية والاجتماعية في إيران. لا وجود لإيران مستقلة عن الإسلام والتشيع. وكل من يحاول في إيران العودة إلى تراث إيراني ما قبل إسلامي سيفشل. لماذا؟ أولاً، لأن إيران ما قبل الإسلام هذه تنتمي إلى زمن أسطوري من تاريخنا، لا يوجد فيه شيء محدد أو متعين. ثانياً، لأن التاريخ الواقعي، ومن بعده اللغة، والأدب، والشعر، والفن، والعمارة، والثقافة، والعادات، والطقوس، قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالإسلام والتشيع والفكر الديني والروحي والصوفي. فحافظ الشيرازي، وهو الشاعر الأكثر إيرانية، كيف يمكن فصله عن الثقافة الدينية-الإسلامية-الصوفية؟ وكيف يمكن فصل النبي محمد (ص)، وعلي بن أبي طالب، والحسين بن علي (عليهما السلام) عن الروح والعقل الإيراني؟ ومع ذلك، يجب ملاحظة أن الإسلام في مرآة العقل والروح الإيرانيين يتسم بخصائص تميزه عن الإسلام في مناطق أخرى من العالم الإسلامي، كالحجاز والعرب مثلاً. ففي “الإسلام الإيراني”، كما يعبر هانري كوربن، تبرز الجوانب الروحية بقوة أكبر مقارنة بالجوانب الظاهرية، ولهذا السبب لا نشهد في إيران ظهور تيارات أصولية بنفس الشدة والحدة التي نراها في بعض المجتمعات الأخرى في العالم الإسلامي.

بصفتك أستاذاً للفلسفة، كيف تحلل تيار “التنوير الديني” في إيران؟ وهل من الممكن أصلاً الجمع بين التنوير والتدين؟ فكما تعرف، إن المثقف، وبالأخص في تعريف “التيارات اليسارية”، يعيش في عالمٍ مغاير، فكيف يمكن أن يُمزج هذا مع وصف “ديني”؟
يمكننا أن نعرّف المفاهيم بطرق شتى، فالتنوير مثلاً يمكن تعريفه تعريفاً معيارياً، فنقول إنَّ المثقف هو من يتحمل مسؤوليةً وتعهداً تجاه مجتمعه، أو هو من ينتقد السلطة الحاكمة، أو من يهتم بقضايا السلطة والإيديولوجيا. وعليه، فإن مفهوم التنوير، ومن ثم مفهوم التنوير الديني، يتخذ معانٍ متباينة تبعاً للتعريفات المختلفة ضمن السياقات النظرية المتنوعة. بعبارة أخرى، إن سؤالك لن يحظى بإجابة واحدة، بل ستتباين الإجابات باختلاف تعريفات التنوير والتدين. لكن، استناداً إلى فهمي التاريخي، فإن التنوير ظاهرة تاريخية تبلورت في أحضان حركة التنوير الأوروبية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين. ومن ثم، كما يبين التاريخ، فإن المثقف هو من يؤمن برؤية العالم وقيم عصر التنوير الأوروبي. وانطلاقاً من هذا التفسير التاريخي، يبدو مفهوم “التنوير الديني” متناقضاً بذاته، أشبه ما يكون بدائرة مربعة أو عصير معدني!
بمعنى آخر، إنَّ التنوير، بما هو إيمان برؤية العالم وقيم عصر التنوير الأوروبي، لا ينسجم مع التدين، بما هو تمتع بتفسير ديني وروحي للعالم وإيمان بتجلي القداسة في فكر الإنسان وشعوره ولسانه وفعله. فالأمر الديني، الذي ينشأ عن انفتاح الإنسان على ساحة القداسة، لا يمكن أن يتوافق مع العقلانية الحديثة القائمة على الذاتية الديكارتية والكانطية، والمنغلقة على ساحة القداسة. إنَّ العقلانية الحديثة علمانية بطبيعتها، ولا يمكن التوفيق بينها وبين الفكر الديني. لا يمكننا أن نجمع بين الأمر الديني، الذي تختلف مبادئه الوجودية والإنسانية والمعرفية والمنهجية اختلافاً جذرياً عن العقلانية الحديثة، وبين قيم ورؤية عصر التنوير الأوروبي.
إنَّ نِقاشي هنا يتحرك على مستوى فلسفي ووجودي، لا على مستوى سياسي أو اجتماعي أو إيديولوجي. فكل من يدافع عن ظاهرة تُسمى “التنوير الديني” إنما يقدم دفاعاً سياسياً واجتماعياً وإيديولوجياً عن تيار اجتماعي، أي أنهم يريدون القول إنه في مواجهة التيارات الرجعية والأصولية، هناك حاجة إلى فهم وتفسير آخر للتراث والأمر الديني، وأن التراث ينبغي أن يُعاصَر (وهو قول صحيح تماماً). وهذا التيار، من الناحية الاجتماعية والسياسية، كان حاضراً إلى حد ما في إيران وشكّل قوة اجتماعية (وهذا أيضاً صحيح من منظور سوسيولوجي وسياسي). لكن من هاتين المقدمتين لا يمكن استخلاص نتيجة فلسفية وميتافيزيقية مفادها أن بإمكاننا، استناداً إلى رؤية العالم وقيم عصر التنوير الأوروبي، وبالاعتماد على العقلانية الحديثة والذاتية الديكارتية والكانطية، أن نُحيي التراث الديني ونُعاصر التفسير الديني والروحي للعالم.
لهذا السبب، كان تيار ما يُسمى بالتنوير الديني في إيران دولةً عابرة، أشبه بشهاب لمع في سماء الفكر الإيراني للحظات ثم خبا بسرعة، فاقداً قدرته على التأثير. بل، أكثر من ذلك، ينبغي القول إن تيار التنوير الديني في إيران كان بمثابة حصان طروادة، إذ مهد دخوله إلى حصن الإيمان الإيراني لتغلغل أعمق للعلمانية والنيهيلية الغربية.

يبدو أنَّ تيار التنوير الديني، ولا سيما في الإطار الفكري لشخصيات مثل الدكتور عبد الكريم سروش، الذي كان في السابق حلقة وصل بين التراث والعقلانية الحديثة، لم يعد قادراً على إقامة تواصل مع مختلف الفئات الفكرية في المجتمع. وبخاصة، فإن النظريات التي طرحها الدكتور سروش حول الوحي المحمدي قد تسببت في قطع صلته بالفئات التقليدية، مما يجعل قاعدة التنوير الديني تبدو أضعف مما كانت عليه في السابق.
هنا يجب التفريق بين عدة مستويات من النِقاش: الأول اجتماعي وتاريخي، والثاني فلسفي وميتافيزيقي. مع التحولات الأخيرة في فكر الدكتور سروش، يبدو أن علاقته بالتيارات الاجتماعية التقليدية والحوزات العلمية قد أصبحت أوهن فأوهن، مما أدى إلى نوع من القطيعة مع هذه الفئات. لقد تناولتُ وجهات نظر الدكتور سروش حول الوحي بشكل مفصل في كتابي “السؤال عن إمكانية الأمر الديني في العالم المعاصر”، وكذلك في ثلاثيتي بعنوان “تأملات في العلاقة بين ساحة القداسة والوجود والتاريخ”، وبالأخص في الجزء الثاني الذي يناقش “انفتاح” أو “انغلاق” العقلانية الحديثة على ساحة القداسة.
ومع ذلك، فقد شهد الدكتور سروش تحولات فكرية بارزة. فقد بدأ رحلته الفكرية في كتابه “القبض والبسط النظري للشريعة” بنهج كانطي خالص، ثم انتقل في كتاب “بسط التجربة النبوية”، ولاحقاً في مقالته “الرؤى الرسولية”، مبتعداً تدريجياً عن إطار الفلسفة التحليلية وأطر التفكير غير التاريخي الكانطي والنيوكانطي، ليقترب من التفكير التاريخي والهيرمنيوطيقي الذي يمثله هايدغر وغادامر. لكنه، رغم تطبيقه للتفكير التاريخي على التراث والنص القرآني والتفسير، لا يطبق هذا النهج على العقلانية الحديثة والعلوم الجديدة والحضارة الغربية المعاصرة. فهو لا يرى هذه الأخيرة حقائق تاريخية، بل يعزو إليها قيمة ومصداقية مطلقة.
إن الدكتور سروش لا يدرك أنَّ العلوم الحديثة والعقلانية الجديدة ليستا التفسير الوحيد للعالم والعقل والإنسان والفكر والحقيقة، بل هما مجرد تفسير واحد بين تفسيرات أخرى. ومن هنا، تنشأ تناقضات كثيرة في أفكاره عند مواجهته للتراث ومفهوم الوحي. فهو، بعملية تفسيره للوحي ضمن المنظومة الإبستمولوجية الحديثة، وباختزاله الوحي إلى رؤيا، يخطو الخطوات الأخيرة نحو علمنة الفكر الديني والإسلامي.
يرى البعض أنَّ مشروع الدكتور سروش، ولا سيما في كتابه “القبض والبسط النظري للشريعة”، يؤدي في نهاية المطاف إلى نسبية المعرفة الدينية. فهل ترى هذا النقد في محله؟
أولاً، كتاب “القبض والبسط النظري للشريعة”، بصفته عملاً هيرمنيوطيقياً، لا يقتصر على النصوص المقدسة فحسب، بل إن أحكامه الهيرمنيوطيقية تنطبق على قبض وبسط أي نوع من المعرفة بشكل عام. بمعنى أن كل أساس هيرمنيوطيقي أشار إليه الدكتور سروش في هذا الكتاب، مثل التفريق بين الدين والمعرفة الدينية أو العلاقة بين المعرفة القبلية والمعرفة البعدية، ينطبق أيضاً على الماركسية، والوجودية، وتاريخ العلوم، وتاريخ الرياضيات، وغيرها. المشكلة الأساسية في هذا العمل ليست النسبية. لقد تحدثتُ في ردي على سؤالك الأول عن العلاقة بين النسبية والهيرمنيوطيقا، ولن أكرر ذلك هنا. بعبارة أوضح، أرى أن “القبض والبسط النظري للشريعة” لا يفضي إلى النسبية، بل يعبر عن حقائق تتعلق بطبيعة الفهم الإنساني، مؤكداً على الحقائق التاريخية والهيرمنيوطيقية التي لا يمكن إنكارها في بنية الفهم البشري.
المشكلة الحقيقية تكمن في أن ما يقدمه الدكتور سروش في هذا الكتاب باسم “المعرفة الدينية” ليس معرفة دينية أو تفكيراً دينياً بالمعنى الحقيقي، بل هو نوع من الإسلام “المُعَيَّن” (الأبجيكتيفي) (Islam objectivé) ووعي تاريخي تشكّل في العالم الإسلامي، ولا علاقة له بالوعي الديني أو الإدراك الذاتي الديني، الذي هو نوع من الوعي القلبي والإدراك الوجودي (الإكزستنسيالي).
يُركز محمد مجتهد شبستري على “القراءة التاريخية” للدين، مؤكداً على دور اللغة وآفاق الفهم. فهل يمكن اعتبار مشروع مجتهد شبستري استمراراً معتبراً لإعادة بناء العقلانية الدينية، أم أنَّه يقع أيضاً في تناقضات معرفية؟
لقد خطا السيد مجتهد شبستري خطوة كبيرة في نقد الحوزات العلمية والتصورات التقليدية للنصوص المقدسة والمصادر الدينية، من خلال تأكيده على القراءة التاريخية للنصوص المقدسة والتشديد على التاريخية في فهمنا لها. إذ إنَّ نقطة الضعف الجوهرية في الحوزات العلمية وكثير من علماء العالم الإسلامي تكمن في ربط الإسلام بالجوهرية (Essentialism) الأرسطية، أو بعبارة أبسط، في غياب النظرة التاريخية. ومن هذه الناحية، نحن مدينون كثيراً للسيد مجتهد شبستري. ولكن، هل بمجرد القراءة التاريخية يمكننا إعادة بناء التفكير الديني وإكسابه طابعاً معاصراً؟ إجابتي على هذا السؤال سلبية.
نقدي للدكتور مجتهد شبستري، كما هو نقدي للدكتور سروش، يتمثل في أنَّ مناقشاتهما تبقى محصورة في مستوى الهيرمنيوطيقا، بينما إعادة بناء الأمر الديني وإحياؤه في العالم المعاصر يتطلبان الصعود إلى مستوى الحوار الأنطولوجي. أي أننا بحاجة إلى وجودية (أنطولوجيا) نؤسس عليها مبادئ التفكير الديني وطريقة تفسير النصوص المقدسة في العالم المعاصر. مثل هذه المبادئ الأنطولوجية غائبة لدى كل من الدكتور سروش والدكتور مجتهد شبستري. فالسيد مجتهد شبستري، مثل الدكتور سروش، لا يستطيع الإجابة عن السؤال الذي يقول: كيف يمكننا أن نحقق انفصالاً عن “الذاتية الميتافيزيقية” و”الذاتية الحديثة”؟ إنَّ الأمر الديني يتجلى حيث نتمكن من الخروج من نطاق عقل الذات (السوبجيكت)، وإقامة علاقة مع حقيقة متعالية (ترانسندنتال).
في الوقت الحالي، لا توجد بين المفكرين والمثقفين في العالم الإسلامي مبادئ تمكّن من تجاوز الذاتية الميتافيزيقية بشكل عام، والذاتية الحديثة التي بدأت مع ديكارت وكانط، والتي تحصر الإنسان في نطاق وعيه الخاص، مما يجعل الفرد عاجزاً عن الذهاب إلى ما وراء الوعي. إنَّ الأمر الديني يظهر ويتجلى حيث يتحقق الانفصال عن هذه الذاتية. لكن السيدين مجتهد شبستري وعبد الكريم سروش لا يستطيعان تقديم سبيل يمكّننا من الخروج من نطاق الوعي والارتباط بحقيقة العالم أو بـ”النومين” (noumen)أو بالغيب. وبدون هذه العلاقة، يصبح الأمر الديني والارتباط بساحة القداسة بلا معنى.
بعبارة أبسط، لا يستطيع كل من الدكتور سروش والدكتور مجتهد شبستري الإجابة عن السؤال الذي يقول: لماذا تُعتبر بعض النصوص مقدسة، وما الذي يميزها عن غيرها من النصوص؟ إنهما، في نهاية المطاف، سيعتبرون قدسية النصوص المقدسة أمراً ذاتياً، نفسياً، تلقينياً، ثقافياً، أو تاريخياً، دون أن يقدما أي معيار أنطولوجي يبرر قدسية نص ما. وهكذا، أرى أنَّ التفكير الديني، استناداً إلى أفكار السيد مجتهد شبستري، يُعَلمَن من الداخل.
يرى منتقدو الإسلام أنَّ التنوير الديني محاولة لتبرير نواقص الإسلام. فما هو دور المثقف الديني في هذا السياق؟ وماذا ينبغي له أن يفعل حقاً؟
إنَّ معارضة العديد من منتقدي التفكير الديني والإسلام، استناداً إلى قيم ورؤية العالم لعصر التنوير الأوروبي، إنما تقوم على افتراضات وجودية ومعرفية وإنسانية ومنهجية متعددة. لكن كثيراً من هؤلاء المنتقدين، بسبب جمودهم الإيديولوجي وانفصالهم عن التفكير الحكمي والفلسفي، ليسوا على وعي بهذه المبادئ، بل يعتبرون أنفسهم أحراراً في التفكير وخالين من التعصب. وهم، دون أن يدروا، واقعون تحت تأثير الدوغمائية المقنعة الكامنة في تفكيرهم النقدي المزعوم، الذي تشكلت مبادئه في عصر التنوير الأوروبي. فهم يشككون في كل شيء تحت تأثير جمود التفكير النقدي المزعوم لعصر التنوير، دون أن يفكروا في مبادئ نقدهم ذاتها أو يعرضوها للنقد. هؤلاء المثقفون ينتقدون كل شيء، إلا مبادئ تفكيرهم النقدي ذاته، التي يتعصبون لها بشدة.
ومع ذلك، فإن تاريخ البشرية هو تاريخ الصيرورة والتحول بطبيعته، حيث تتغير آفاق المعنى، وكل فكرة – سواء كانت المادية، العلمانية، الليبرالية، الماركسية، أو حتى النظام الفكري الديني – لا بد أن تخرج من دائرة اللعبة أو تسعى لإكساب نفسها طابعاً معاصراً مع تغير الآفاق التاريخية. لذا، فإن هذا الاتجاه طبيعي ولا مفر منه لجميع التيارات الفكرية، بما فيها التيارات الدينية، التي تسعى لإضفاء المعاصرة على تراثها التاريخي. في ذاته، لا إشكال في هذا الأمر. لكن السؤال هو: هل نجحت التيارات المسماة بالتنوير الديني في العالم الإسلامي في إحياء التفكير الديني وإعادة بنائه؟ هذا نقاش آخر.
لذلك، أنا أختلف في المبادئ مع أولئك الذين يعارضون التفكير الديني ويعتقدون أنَّ التنوير الديني مشروع فاشل، لأنهم يعارضون التفكير الديني ذاته وغاية تيار التنوير الديني من الأساس. لكن نقدي لتيار التنوير الديني لا ينبع من معارضتي لمثالهم أو غايتهم، بل على العكس، من تساوقي وتشاركي مع هدفهم وغايتهم، ألا وهي “إثبات إمكانية التفكير الديني والروحي في عالم معاصر بالذات علماني”. لكنني أعتقد أن مسار إحياء وإعادة بناء التفكير الديني لا يمر عبر العقلانية الحديثة والذاتية الديكارتية والكانطية، بل نحن بحاجة إلى مبادئ أنطولوجية وأنثروبولوجية وإبستمولوجية أخرى. وهذه المبادئ لم أجدها حتى الآن في تيار ما يُسمى بالتنوير الديني. لذا، أرى أنَّ التيارات المسماة بالتنوير الديني تشبه حصان طروادة، تدخل حصن الدين لتُعَلمِنَهُ من الداخل، وتسلّم مفاتيح قلعة الإيمان على طبق من ذهب إلى العلمانية والنيهيلية الغربية.
أين تكمن أزمة التفكير الديني في عصرنا الحالي؟ هل هي في النصوص ذاتها، أم في منهجية قراءتها، أم في بنيتنا الاجتماعية والتاريخية؟ لا سيما وأنَّ النزعة نحو الإلحاد باتت لافتة بين الشباب.
إنَّ السؤال عن ماهية أزمة التفكير الديني اليوم يتقارب، أو يتساوق، مع السؤال عن أزمة التفكير العالمي في العصر الراهن. فأزمة التفكير الديني في عالمنا المعاصر لا تنفصل عن أزمة التفكير بشكل عام، وهذان السؤالان يفتحان الباب لتحليلات معمقة وممتدة. غير أنَّ القضية الأكثر جوهرية تتمثل في أنَّ العقلانية العلمانية الحديثة بطبيعتها -أي العقلانية العلمية والتكنولوجية والذاتية الحديثة- قد هيمنت على عالمنا اليوم. وفي مثل هذا العالم، أضحى الأمر الديني والارتباط بحقيقة متعالية (ترانسندنتال) أمراً عصياً على فهم الإنسان المعاصر. لقد خفتت تلك الذاكرة الروحية والإرث الذي وصلنا إليه عبر التقاليد والطقوس والشعائر الدينية، ومن خلال المؤسسات الدينية كالكنيسة المسيحية أو رجال الدين في العالم الإسلامي، بشكل ملحوظ.
إذا أردت تبسيط الأمر في جملة واحدة: إن غياب المبادئ الحكمية والروحية والفلسفية بالمعنى الواسع -أي الميتافيزيقيا، ليس بمعناها اليوناني، بل بمعنى المعرفة الكلية التي تجيب عن الأسئلة الجوهرية-، أي غياب التفكير الأساسي الوجودي والمعرفي والإنساني الملائم للتفكير الديني في عالم علماني بطبيعته، يُعدّ من أبرز عوامل أزمة التفكير الديني في العالم المعاصر. بعبارة أوضح، علينا أن نتأمل: بأية مبادئ حكمية وروحية يمكننا أن نجمع بين الحقيقة المتعالية وساحة القداسة وبين التفكير العلمي والتكنولوجي الذي اكتسب المرجعية في زماننا؟ وكيف يمكن تحويل الدين من كونه أمراً مؤسساتياً أو ثقافياً أو موضوعاً للدراسة إلى تجربة وجودية (إكزستنسيالية) عميقة؟
برأيي، لا يكمن العيب في النصوص ذاتها، بل في الأنظمة النظرية الكلامية ومنهجيات القراءة التقليدية التي استندت إلى عقلانية الأسلاف. نحن اليوم بحاجة إلى إعادة قراءة هذه النصوص في ضوء الفلسفات المعاصرة، وفي حوار معها، دون أن يعني ذلك بالضرورة قبولها. لكن هذا لا يعني أبداً أنَّ علينا تحديث التفكير الديني أو قراءته بطريقة تجديدية، فالتفسيرات والقراءات التجديدية للتراث والفكر الديني تمثل في جوهرها عمليةً لـعَلمَنَة الشأن الديني. نحن في عالمنا المعاصر، كما يقول فلاسفة ما بعد الحداثة، بحاجة إلى تفكيك (deconstruction) أولي للأمر الديني، يليه إعادة بناء (reconstruction)، بمعنى أنَّ علينا، من ناحية، أنْ نفصل العناصر الأساسية للشأن الديني، كما لو كنا نفكك أحجار بناء منزل، ثم نعيد تشييد بناء جديد يتناسب مع عالمنا المعاصر باستخدام تلك الأحجار ذاتها.
في هذا السياق، نحن نواجه خطرين رئيسيين: أ. الجمود الفكري وعدم الإدراك بأن العوالم التاريخية قد تغيرت، وأن العوالم الدينية التاريخية ما قبل الحداثة قد انتهت، وأن العالم العلماني الحديث بطبيعته قد سيطر. فالتغافل عن هذه التحولات التاريخية العالمية يشكل خطراً كبيراً.
بـ. من ناحية أخرى، يتمثل الخطر في أن نعطي لهذه التحولات أصالة مفرطة، فنحاول تفسير جوهر التراث والتفكير الديني في ضوء العقلانية الحديثة، بما يفقد التفكير الديني والأمر الروحي روحهما، فيتحول الدين إلى مادة خام لصورة جديدة من العلمانية. في هذه الحالة، لن يبقى من الأمر الديني سوى قشرة جوفاء، وإن بدت بمظهر متجدد.
لهذا السبب، نحن بحاجة إلى تفكير حكمي وأنطولوجي عميق، لا إلى مجرد تحركات سياسية أو إيديولوجية أو فقهية أو كلامية. ما نراه في العالم الإسلامي غالباً هو تحركات كلامية، فقهية، تفسيرية، أو حتى سياسية وعسكرية، لكننا بحاجة ماسة إلى تفكير حكمي وروحي وميتافيزيقي وأنطولوجي، وهو ما ينقصنا بشكل صارخ.
يبدو أنَّ مشاريع مثل مشروعي محمد أركون ونصر حامد أبو زيد في العالم العربي لم تحقق النجاح المتوقع، إذ واجهت مقاومة شديدة من المؤسسات التقليدية كجامعة الأزهر الشريف. بل ربما يمكن القول إنَّ شخصيات مثل محمد عابد الجابري حققت نجاحاً أكبر نسبياً. ولا يمكن اعتبار تيار التنوير الديني في إيران منفصلاً تماماً عن سياق العالم الإسلامي بشكل عام، وهذا رأي يشاركه العديد من منتقدي هذا التيار.
كما أشرتُ سابقاً، لا يمكن لأي مصلح اجتماعي أو مفكر إصلاحي في العالم الإسلامي أن يحقق تأثيراً واسعاً وملموساً إلا إذا انخرط في حوار جاد ومنهجي مع الحوزات العلمية والمؤسسات الدينية الرسمية. بيد أن هذا الحوار يواجه صعوبات جمة تنقسم إلى صنفين رئيسيين: صعوبات خارجية وصعوبات داخلية.
أما الصعوبات الخارجية فتكمن في أنَّ المؤسسات الدينية التقليدية – التي تتولى حفظ التراث الديني وتشكل في الوقت ذاته حماة للهوية الثقافية – تبدي مقاومة شديدة تجاه أي فكر جديد، وتتخذ موقفاً سلبياً مسبقاً من أي محاولة إصلاحية أو تجديدية.
وأما الصعوبات الداخلية فتتمثل في أن المفكرين الإصلاحيين أنفسهم – في سعيهم لإعادة بناء التراث وإحياء الفكر الديني بما يتناسب مع متطلبات العصر – يواجهون خطراً جوهرياً يتمثل في أن عمليات “التفكيك” (Deconstruction) التي يمارسونها قد تؤدي بشكل غير مقصود إلى علمنة الشأن الديني، حيث يتحول الدين من كونه حقيقة متعالية إلى مجرد ظاهرة تاريخية أو ثقافية قابلة للتشكيل حسب الأهواء والظروف. هذا القلق الذي تعبر عنه المؤسسات التقليدية هو قلق مشروع وجوهري. لكن، كما أوضحت، فإنَّ الخطر يأتي دائماً من جهتين: خطر الجمود الفكري وعدم إدراك التحولات التاريخية من جهة، وخطر علمنة الأمر الديني من جهة أخرى.
لهذا السبب، من الصعب جداً أن نجد في عصرنا تفكيراً يستطيع أن يحقق، في آن واحد، إحياء الشأن الديني في العالم المعاصر، ويضفي المعاصرة على التراث الديني وميراثنا الحكمي والروحي العظيم، وفي الوقت ذاته يقاوم علمنة التراث الديني والتجديد، ويرفض الخضوع للذاتية والنيهيلية السائدة في العالم المعاصر. وفي ضوء هذين الخطرين، يمكن القول إنَّ مشروع نصر حامد أبو زيد، الذي ركز على التأريخ للنص المقدس -وهو أمر صحيح في حد ذاته- لا يترك مجالاً للأمر ما فوق التاريخ أو لقدسية النص المقدس، مما يؤدي إلى علمنة النص. أما محمد أركون، فإنه يعتمد على مفكري ما بعد الحداثة لإعادة بناء الأمر الديني، لكن في تفكيره لا يبقى مجال للقدسية أو لعلاقة الإنسان بساحة القداسة. لقد كان أركون يسعى إلى عقلانية عالمية، لكن هذه العقلانية، في نهاية المطاف، ليست سوى العقلانية الميتافيزيقية الغربية، مما يؤدي إلى انهيار الفروق الجوهرية بين التفكير الديني والتفكير الميتافيزيقي.
إنَّ التيار الفكري الديني في إيران، مثلما حدث مع أبو زيد في مصر، واجه مشاكل كبيرة في اصطدامه مع رجال الدين. فرجال الدين يشعرون بقلق شديد من البدعة والعلمانية في الدين، ولكنهم في نفس الوقت لا يدركون أنَّ تفكيرهم اللاهوتي قد عمل على علمنة الدين من داخله إلى حد كبير. الدين الذي يقدمونه للمجتمع المعاصر لا يملك الجاذبية الكافية أو أنه في بعض الأحيان غير قابل للفهم. كما أنَّ الأزهر والحوزات العلمية في العالم الإسلامي قد قلصوا الدين إلى مجرد ثقافة أو موضوع دراسي، ولم يتمكنوا من رفعه إلى مستوى التفكير والوعي الإنساني والتاريخي. وهذه العملية من الارتقاء هي مسألة صعبة ومخاطرة كبيرة، وقد جازف بها بعض المفكرين التجديديين.
بناءً على ذلك، هل ترى أنَّه في ظل الوضع الراهن لإيران، نحن بحاجة أكبر إلى إصلاحات معرفية وفلسفية أكثر من حاجتنا إلى إصلاحات دينية؟
نعم، نحن بحاجة أكبر إلى إصلاحات معرفية وفلسفية مقارنة بالإصلاحات الدينية -وأعني بالإصلاحات الدينية هنا الإصلاحات في العقائد الكلامية والأحكام الفقهية، أو ما يُسمى بـ”الفقه الأصغر”. ما نحتاجه حقاً هو تحول في “الفقه الأكبر”، أي في عقائدنا الأساسية. بعبارة أخرى، كما تفضلت أنت، نحن بحاجة إلى إصلاحات معرفية وفلسفية، بشرط ألا نفهم الفلسفة بمعناها اليوناني الضيق، بل بمعناها العام، أي التأمل في الأسئلة الجوهرية. نحن اليوم بحاجة إلى ظهور تفكير جديد يدرك حدود التفكير الميتافيزيقي اليوناني، ويسعى لتجاوز إطار الميتافيزيقا اليونانية و (logicism) “المنطقية المفرطة” والتعلق المفرط بالمنطق الفلسفي، ويتخطى نطاق التفكير المفاهيمي الميتافيزيقي، ليصل إلى نوع من التفكير يقترب من التقاليد الدينية والروحية، ويبتعد إلى حد كبير عن تقليد الفلسفة الغربية. لذا، نحن في انتظار ونحتاج إلى ظهور تفكير ربما لا نملك بعد لغة للتعبير عنه أو تسمية له.
إذا أردنا أن نشهد في إيران حواراً جديداً بين العقل والدين والتاريخ، ما هي النموذجية أو الإطار المفاهيمي الذي تقترحه؟
في الواقع، لا يوجد مثل هذا النموذج أو الإطار النظري جاهزاً بحيث نمد أيدينا ونأخذه ونستخدمه. لكن ربما يمكننا رسم الخطوط العريضة العامة لمثل هذا الإطار. لقد أشرت خلال هذا الحوار إلى بعض هذه الخطوط العامة. نحن بحاجة إلى إدخال التفكير التاريخي في نظامنا المعرفي. لا يمكننا تجاهل هذه الحقيقة الكبرى والأساسية، وهي أنَّ الإنسان هو الكائن التاريخي الوحيد، وفي أي مكان آخر نتحدث فيه عن التاريخ، مثل تاريخ الغابات أو تاريخ التطورات الجيولوجية، فإن الإنسان هو من يمنح الطبيعة بُعدها التاريخي. الإنسان لا يوجد بمعزل عن تاريخيته، وبما أنَّ طريقة وجود الإنسان (الوجودية أو “الدازاين” كما يسميها هايدغر) هي بطبيعتها تاريخية، فإنَّ كل ما يتعلق بوجودنا أو “دازايننا” هو أيضاً تاريخي.
ببساطة، كل أشكال الفهم والتأويل والأفعال الفردية والاجتماعية والظواهر مثل التفكير والأسطورة والعلم والفن والأدب، وكذلك الدين، هي أمور تاريخية. لذلك، يجب علينا إدخال البُعد التاريخي للإنسان (historicity)، وليس التاريخانية أو الهيستوريسيزم (historicism)، في نظامنا المعرفي، وبالتالي في فلسفة الدين ومنهجيتنا في تفسير التراث والنصوص الدينية.
كما يجب أن نفتح في نظامنا المعرفي مكاناً للعلم الجديد والتجارب البشرية، دون أن يعني ذلك قبول العلموية (scientism) أو الوضعية (positivism)، التي تتناقض بطبيعتها مع التفكير الديني. ويجب أن يجد تقدير العلوم الجديدة والتجارب البشرية مكاناً في فقهنا وفلسفة الفقه أيضاً.
نحن أيضاً بحاجة إلى إعادة تعريف الشأن الديني ومفاهيم مثل العقل والعقلانية؛ لأننا عندما نتحدث عن العقل، فإننا نقصد في الغالب العقل والعقلانية الميتافيزيقية، في حين أنَّ التقاليد الدينية نفسها تتمتع بعقلانية خاصة تختلف عن العقلانية الميتافيزيقية اليونانية. لكن بسبب هيمنة العقلانية اليونانية والميتافيزيقية، التي تشكل عنصراً أساسياً في ظهور وتكوين الحضارة الغربية، فقد تراجعت العقلانية الدينية الخاصة وأصبح من الصعب علينا اليوم الحديث عن عقلانية دينية خاصة.
الحقيقة أنَّ السؤال الذي يقول: “ما العقل والعقلانية نفسها؟” يشكل إشكالية فلسفية. لذلك، نحن بحاجة إلى إعادة التفكير في معاني العقل والعقلانية، وإذا قبلنا تعدد العقلانيات، يمكننا الحديث عن عقلانية دينية خاصة. ثم يجب أن نفهم هذه العقلانية الدينية بطريقة تتيح لنا إمكانية التواصل مع عقلانيات أخرى، مثل العقلانية الميتافيزيقية والعقلانية العلمية.
كما أنَّ علم التاريخ هو بلا شك أحد مصادر المعرفة الأصيلة. ولسوء الحظ، فإنَّ الأنظمة اللاهوتية، بما في ذلك المذاهب المختلفة والأنظمة الكلامية الإسلامية المتعددة، تقاوم بشدة العلوم الجديدة والتاريخ. إنهم يقرأون التاريخ بطريقة تؤيد أنظمتهم الاعتقادية.
كذلك، يجب علينا أن نقوم بتفكيك (بمعنى النقد الجذري والكشف عن الأساسيات) الأنظمة اللاهوتية، والانتقال من التفكير اللاهوتي (الكلامي والإلهي) إلى نوع من التفكير الأنطولوجي (الوجودي)، للوصول إلى تفكير غير لاهوتي وغير علماني، أي تفكير يقاوم العلمانية والعدمية السائدة في العالم اليوم، ويؤكد على التفسير الديني والروحي للعالم، لكنه في الوقت نفسه لا يخضع لأي من الأنظمة الكلامية باعتبارها نظاماً للحقيقة.
بالإضافة إلى ذلك، نحن بحاجة إلى لغة خارج الأطر اللغوية الكلامية (الإلهية) والطائفية (اللاهوتية) للأديان المختلفة، التي حولت كل منها الدين والشأن الديني إلى أمر طائفي وهوية جماعية. في عصرنا، يجب أن نركز أكثر على الصفات الوجودية للأديان، وأن نفهم الدين بمعنى طريقة للوجود في العالم، أي طريقة لتحقيق الوجود الإنساني في هذا العالم، وليس أن نفهم الأديان كأمور ثقافية ومؤسسية، دون أن يعني ذلك الدعوة إلى الوجودية (existentialism) أو الأفكار الوجودية، كما نرى مثلاً في أفكار عبد الرحمن بدوي ومشروعه الفكري في مواءمة الأفكار الكامنة في تراث الفكر والتصوف الإسلامي مع الوجودية الأوروبية.
إذا ما تجاوزنا الإصلاح والتنوير الديني، فإلى أي نقطة سنصل؟
على الأقل كما أفكر أنا – متأثراً بهايدغر – يجب أن نكون في انتظار ظهور فكر جديد، نوع من التفكير يمكننا التحدث عن ملامحه، لكننا لا نستطيع تحديده بشكل قاطع؛ لأنَّه لم يظهر بعد وما يزال في الطريق. لكن يمكننا القول بثقة إنَّ الفكر المستقبلي لن يكون فكراً “مركزه أوروبا”، ولا فكراً قائماً على المنطق الاستشراقي بمعناه المنتمي لـ”إدوارد سعيد”، ولا من نوع الميتافيزيقا الغربية. سيكون للفكر المستقبلي في نظامه المعرفي مكانة أكبر للتاريخية أو البعد التاريخي للإنسان، وبالتالي سيكون أكثر انفتاحاً في مواجهة التقاليد والتراث التاريخي الهائل، وسيتعامل مع العالم وتقاليده الفكرية والنظرية بطريقة أكثر تعاطفاً وفينومينولوجية.
في الفكر المستقبلي، سنتجاوز الثيولوجيا (علم اللاهوت) إلى نوع من الأنطولوجيا (علم الوجود)، أي سنتجاوز الميتافيزيقا بالمعنى الأخص (اللاهوت) إلى الميتافيزيقا بالمعنى الأعم (علم الوجود). بعبارة أخرى، في الفكر المستقبلي، سنتجاوز الإله الأنطيك (الشبيه بالموجود)، أي الإله الذي يشبه كائناً بين الكائنات الأخرى، وسنتجاوز الإله الطائفي، وسنكتشف الله وساحة القدس في وحدتهما وتماثلهما مع الوجود نفسه، دون أن يعني ذلك الوصول إلى نوع من الربوبية (الدِييزم) أو إله هيغلي حالٍّ (immanent) في العالم.
في الفكر المستقبلي، سنتحرك في إطار أكثر وضوحاً بشأن علاقة اللغة بالنصوص المقدسة وبالشأن الديني. وسنعترف في الفكر المستقبلي بالأبعاد التاريخية للنبي والأبعاد التاريخية للنصوص المقدسة. سندرك أنَّ العديد من الآيات والروايات والأحكام تاريخية، لكننا سنحاول أن نكتشف بين الأوصاف التاريخية للنصوص المقدسة حضور حقيقة أزلية متعالية عن التاريخ، ونبين كيف يمكن للإنسان أن يسكن في “الشأن المقدس”، أي في حقيقة غير قابلة للتحديد، دون أن يتمكن من الهيمنة عليها؛ حقيقة غير قابلة للتحديد، موجودة، ويمكن أن تتجلى في الروح والفكر واللغة والفعل، وهذا التجلي هو الطريق الأصيل الوحيد الذي يمكن أن ينقذنا من العدمية الغربية المسيطرة على العالم اليوم. ولكن من ناحية أخرى، هذه الحقيقة القدسية غير القابلة للتحديد والسيطرة والاستيعاب لا تسمح لنا بالسقوط في أي نظام للحقيقة بشكل أنظمة لاهوتية أو أنظمة أيديولوجية عقائدية، وبالتالي في عنف طائفي أو أيديولوجي.
أ.د. بیژن عبدالکریمی، أستاذ جامعي وفیلسوف إیراني
المحاوِر: د. إدریس محمدي؛ باحث في شؤون العالم العربي والإسلامي
ترجمة الحوار: د. محمد حمادي
التنسیق والاعداد.. الأستاذة فاطمة نعامي، محرر القسم العربي في مجلة باوان
خاصّ – إلّا
Share this content:
إرسال التعليق