السودان من مشارف وأشراف حلب
(السباق نحو إفريقيا)
1 – خلال القرون الثلاثة الأخيرة تمكن الأوروبيون من إلحاق القارة الإفريقية بنفوذهم، فاحتل الفرنسيون مناطق الغرب والشمال الغربي، كما احتلوا جزيرة ” مدغشقر ” التي تزيد مساحتها عن مساحة فرنسا .
واحتل الإنكليز مناطق الوسط والشرق. والبرتغاليون احتلوا أنغولا وموزمبيق وبعض الجيوب الصغيرة., واحتلت ايطاليا ليبيا والصومال وقسما من اثيوبيا ، كما احتلت بلجيكا الكونغو . وبقي الجنوب بؤرة صراع بين الإنكليز والهولنديين حتى حسمه الإنكليز لمصلحتهم وقامت دولة جنوب إفريقيا العنصرية البغيضة، وهي الدولة التي حررها نضال الأحرار بزعامة “نلسون مانديلا”. كما كان لالمانيا وجود استعماري في افريقيا قبل هزيمتها في الحربين العالميتين .
وهكذا كانت افريقيا بمجملها ميدانا للنفوذ الاستعماري الاوربي الغربي
2 – خلال العصور الوسطى، كانت قارة إفريقيا وبخاصة أقسامها الشمالية والوسطى ساحة لنفوذ الثقافة العربية، ومسرحاً لقوافل التجار العرب يدخلونها بتسامحهم وأفقهم الإنساني الرحب. ولم يمارس العرب سياسة القمع أو إلغاء الآخر، وإنما سمحوا لشعوب القارة بالمحافظة على خصوصياتهم الاجتماعية والثقافية. وكانت مدينة ” مراكش ” عاصمة لدولة تشمل ثلث افريقيا . ولا تزال آلاف المخطوطات العربية في سائر دول افريقيا
وقد أدى النفوذ الأوروبي إلى إلغاء الخصوصيات الوطنية والقومية في كثير من مناطق القارة الإفريقية، فتم فرض اللغة الفرنسية وثقافتها على أجزاء واسعة من القارة فيما يعرف بالنفوذ الفرنكوفوني، كما تم فرض اللغة الإنكليزية على مناطق أخرى. والبرتغالية في المستعمرات التي كانت تتبع البرتغال.
3 – وبعد الحرب العالمية الثانية، ومع تغير موازين القوى في العالم وانحسار النفوذ التقليدي للاستعمار الأوروبي، برزت القوتان العظميان الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وكل منهما تحاول دخول القارة الإفريقية من إحدى بواباتها.
ومن جديد تتغير موازين القوى ويسقط الاتحاد السوفيتي بالضربة الفنية القاضية، لتنفرد الولايات المتحدة بالملعب العالمي بلا منافس حقيقي في الأفق المنظور.
4 – ومن هنا كانت النظرة الأميركية إلى ضرورة إلحاق القارة الإفريقية بالملعب الأميركي لتكون مزرعة تابعة لقصور البيت الأبيض تنهب منها الذهب واليورانيوم وسائر المعادن ، وتركها في فقر وحرمان وجوع وإذلال كما هو شأن أميركا اللاتينية التي اعتبرت تابعاً صغيراً لحدائق البيت الأبيض منذ مطلع القرن العشرين وبموجب (مبدأ مونرو). وتستخدم الولايات المتحدة ذراعاً إقليمياً هو الكيان الصهيوني لتسويق نفوذها ومواكبته، وهي إذ تزاحم مناطق النفوذين البريطاني والفرنسي، فإنها تحاول أن تمسك بتلابيب القارة الإفريقية بأكملها بشتى الوسائل والأساليب السياسية والاقتصادية والإعلامية، من غير مراعاة أي مبدأ أخلاقي، وقد كشفت وثائق (ويكيليكس) مؤخراً عن نماذج من السلوك الأمريكي القبيح وغير الإنساني.
5 – وبرز إلى الساحة لاعب جديد قوي جاء من أقصى شرق آسيا. إنه العملاق الصيني القادم بلا جيوش ولا أساطيل ولا غزو فكري ولا فرض لغة أو ثقافة, بل تنشط الصين من خلال اعمال البنية التحتية: طرقات ، مطارات ، قطارات ، مدارس ، مستشفيات ، قروض .
عملاق سلاحه الاقتصاد والتجارة والسلعة الرخيصة المتقنة. وهو بذلك لا يغزو أسواق إفريقيا فحسب، إنما تملأ مصنوعاته أسواق العالم، وتدخل البيوت والمكاتب والمعامل والمشافي بدقة وكثافة وسرعة.
6 – وتملك القارة الإفريقية أطول أنهار العالم (النيل). وأغزر أنهار العالم (نهر الكونغو) كما تملك تكويناً متبايناً بين صحارى وجبال وسهول مترامية وغابات، إلى جانب التنوع الثقافي والحضاري.
ويشكل الشمال الإفريقي حالة خاصة من خلال الوجود العربي بشرياً وثقافياً يملك تاريخا متقدما على بقية القارة، وامتداد هذا الوجود على كامل الشمال الإفريقي، والجزء الواسع من شرق إفريقيا على البحر الأحمر. وامتداد هذا الوجود الثقافي إلى أقاليم غرب إفريقيا ووسطها وشرقها مثل تشاد وأريتريا وأوغندا وتانزانيا والسنغال ومالي والنيجر ونيجيريا وساحل العاج والكاميرون وغانا وغينيا.
وشكّل الشمال الإفريقي العربي البُعد الحضاري العميق والعريق في القارة الإفريقية منذ آلاف السنين: مصر القديمة في الزاوية الشمالية الشرقية بمراحلها الحضارية منذ الألف الرابع ق. م. وحضارة قرطاج الفينيقية في الزاوية الشمالية الغربية للقارة، وهي الحضارة التي بسطت نفوذها على البحر المتوسط عن طريق التجارة والتبادل الاقتصادي إلى أن دمرتها روما عام 146 ق . م
وصولا الى العصور الإسلامية
التي اعطت الشمال الإفريقي وجهه الحضاري الأخير.
7 – اللاعبون الكبار اليوم على الساحة الإفريقية تبدلوا، وبدأ النفوذ الفرنسي ينحسر سياسياً واقتصادياً وعسكرياًويحل محله سريعا النفوذ الروسي ويبدو أنه مرحب به نكاية بفرنسا ، ولكن النفوذ الفرنسي باقٍ ثقافياً ولغوياً، ومفروض على عدد من الشعوب في غرب القارة.
والنفوذ البريطاني انحسر بشكل كبير، وبقي منه كذلك النفوذ الثقافي واللغوي. واللاعبان الأساسيان اليوم هما الولايات المتحدة والصين مع عودة النفوذ الروسي. الذي كان سوفياتياً في اثيوبيا. ولكنه يحاول العودة من خلال مرتزقة شركة ” فاغنر ” الذراع غير المعلن للحكومة الروسية ، من خلال ليبيا ومالي ، وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو والسودان ، إلى درجة أن بعض هذه الشعوب ترفع العلم الروسي نكاية بالمستعمر الفرنسي
8 – صراع النفط والمياه والمنافذ البحرية والقواعد العسكرية، والغريب أن الولايات المتحدة تملك حاسة شمّ نفطية قوية، تستطيع من خلالها معرفة مكامن النفط في دارفور وجنوب السودان، فترتب هذا الاستفتاء العجائبي لفصل جنوب السودان، ويُخشى أن يأتي بعدها دور (دارفور) و” كردفان” وأن يمتد الوباء الانفصالي إلى دول الجوار.
9 – إفريقيا.. إحدى قارات العالم القديم تقبع اليوم بلا قرار سيادي واضح، وتتلاعب بها الأصابع الخفية والمعلنة، ومن المؤسف أن بعض هذه الأصابع (صهيونية) أصبحت معلنة بعد أن كانت خفية. وسوف يكون جنوب السودان بؤرة للنفوذ الصهيوني كما هو الحال في الكثير من المناطق، ويبقى السودان مثالاً مؤلماً للعمليات الجراحية التي تبتر الأطراف وتصل إلى القلوب والأكباد.
وعرب إفريقيا يكادون يخرجون من التاريخ ومن حيّز القوى الإفريقية، بعد أن كانت دول شمال إفريقيا العربية مركز إشعاع حضاري للقارة بأكملها حضارة وقبولا بالآخر وتسامحاً.
وبقية العرب لا حول لهم ولا طول ، بل إن بعضهم.ضالع مع الغرب في مشاريعه التقسيمية
كم من أجراس الإنذار يجب أن تُقرع؟! أم إن الآذان أصبحت صمّاء لكي نسألها: ماذا بعد السودان، وليبيا ودول الفرنكوفون . وماذا بعد الصومال، وماذا بعد الصراع على الصحراء بين المغرب والجزائر.
هل حقاً إن العرب خرجوا من التاريخ؟؟!
Share this content: