Home جيران إلّا أردوغان يلقّن الغرب درساً في أدبيات الدبلوماسيّة التركيّة

أردوغان يلقّن الغرب درساً في أدبيات الدبلوماسيّة التركيّة

by رئيس التحرير

ياقوت دندش/ كاتبة وإعلامية لبنانية – استنبول

انتصارٌ دبلوماسيٌّ جديد يُسجَّل لتركيا على مستوى دوليّ، تجلّى بتراجع سفراء الدول العشرة عن بيانهم المشترك الذي أصدروه في 18 تشرين الأول/أكتوبر الجاري متدخلين بشأن تركي داخلي متعلق بالمدعو عثمان كافالا، المسجون بتهمة المشاركة بالمحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا في 15 تموز/يوليو 2016.

فبعد تلويح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أمس الأول السبت، بطرد السفراء العشرة لتدخّلهم بشأنٍ تركيٍّ داخليّ، تزاحمت التحليلات التي تقول إن “تركيا شارفت على السقوط بضربةٍ دبلوماسية”.

تبرير ذلك هو أنها فتحت جبهةً على 10 عشرة بلدان في وقتٍ واحد، الأمر الذي سيجلب عليها عقوباتٍ اقتصادية خانقة هي في غنىً عنها في الوقت الحاليّ.

لكنّ الواقع جاء بعكس ذلك، إذ شددت السفارة الأمريكية في بيان أن “الولايات المتحدة تؤكد مراعاتها للمادة 41 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية”، في تراجعٍ واضحٍ عن ما تضمّنه البيان المشترك قبل أيام.

بدورها تسابقت الدول الموقّعة على البيان، وهي كندا وفنلندا والدنمارك وهولندا والسويد والنرويج ونيوزلندا وألمانيا وفرنسا، على إعادة نشر التغريدة التي تضمّنت بيان تراجع الولايات المتحدة على موقع “تويتر”، سواء عبر الحسابات الرسمية لسفاراتها في أنقرة، أو عبر الحسابات الشخصية للسفراء أنفسهم.

المادة 41 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، تنصّ على “احترام الدبلوماسيين لقوانين ولوائح الدولة المعتمَدين لديها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدولة”، أي بالضبط ما صعّد بخصوصه أردوغان قبل أيام.

المستجدات الأخيرة تأخذنا إلى بحث ما هو “وجعُ” هذه الدول.

ربما يظّن الغرب أنه يتعامل مع “رجل ضعيف” أو “دولة ضعيفة”، وأن الزمن لم يتخطَّ حقبة الحرب العالمية الأولى، عندما قام بتخطيط وتنفيذ مؤامراتٍ عديدة أدّت إلى إنهاك وتفكيك السلطنة العثمانية وتقاسم تركتِها.

فبثقةٍ غير مبرّرة قانونياً ولا عرفياً، سمح سفراء الدول العشرة لأنفسهم بالتدخل بشأنٍ تركيٍّ داخليّ محاولين فرضَ إملاءاتٍ على أنقرة.

هذه المرة، شنّوا مناورتهم انطلاقاً من قضية كافالا، الذي اعتُقل عام 2017 ويخضع للمحاكمة أمام القضاء التركي بتهمة التورّط في محاولة الانقلاب الفاشلة عام في تموز/يوليو 2016.

تهمٌ أخرى يواجهها كافالا، مثل تزويد جهات غربية بمعلومات عن تركيا، ودعم وتمويل احتجاجات “غيزي بارك” الدامية عام 2013، والتواصل مع تنظيم فتح الله غولن الإرهابي.

ورغم ذلك، خرج سفراء الدول العشرة ببيانٍ مشترك وجّهوه إلى وزارة الخارجية التركية يطالبون فيه بإطلاق سراح كافالا، ويتهمون تركيا بـ”انتهاك حقوق الإنسان عبر تسييس اعتقاله” على حد زعمهم.

وأمام هذا التطاول، صعّد الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان في خطابه، ولوّح بطرد السفراء العشرة إن هم لم يحترموا تركيا ويمتنعوا عن التدخل بشؤونها الداخلية.

خطاب أردوغان شكّل درساً في أدبيات الدبلوماسية، كان لا بدّ من توجيهه لممثلي هذه البلدان على الأراضي التركية.

فالبحث في مضمون وحيثيات البيان المشترك الصادر عنهم يظهر مقداراً عالياً من التعالي على أنقرة ووقاحة في التدخل في شؤونها، ذلك أن القضية تعني تركيا من كل النواحي، لأنها تمسّ مواطناً تركياً اعتقل في تركيا ويحاكمه القضاء التركي بشأن تهمةٍ تطال الأمن القوميّ التركي.

ما أغضب تركيا إلى هذا الحدّ هو أن التدخل جاء من سفراء لا تسمح لهم الأعراف الدبلوماسية بالإقدام على ما فعلوه، مع العلم أن تصرّفهم ما كان ليأتي إلا بعد تلقّي تعليماتٍ بذلك من مرجعياتهم الرسمية.

تجاوز الدول الغربية العشرة عن هذا كلّه لم يأتِ صدفةً، فالضغوطات تتزايد على تركيا على جميع الأصعدة، لمحاولة إضعافها وإعادتها إلى “القمقم” الذي وضعوه فيها منذ الحرب العالمية الأولى وإلى ما قبل سنوات.

بات واضحاً لمن يقرأ ما خلف السطور، أن هذه الدول لم تتدخل في قضية كافالا لأجل كافالا، ولا لأجل شمّاعة حقوق الإنسان التي يتغنّون بها.

إنما وجد الغرب في هذه القضية باباً من أبواب التضييق على تركيا وافتعال الأزمات أولاً، مروراً بإضعاف قيمة الليرة التركية عبر المضاربات وهزّ الثقة بها، وصولاً إلى فرض عقوباتٍ عليها بحججٍ مختلقة غبّ الطلب.

ليس منطقياً أنه كان خافياً على الدول العشرة المعنية أن بيان سفرائها لا يحترم بروتوكولات وأدبيات العلاقات الدبلوماسية، لكنها بحركةٍ خبيثة هدفت إلى إجبار تركيا على القيام بأحد أمرين:

– إما الخنوع والخضوع منعاً لتأزّم العلاقات، وبالتالي يؤخذ ذلك وصمة عار على أردوغان والحزب الحاكم.

– أو التصعيد، الذي قد تتخذ منه ذريعةً لفرض العقوبات الاقتصادية على تركيا، الأمر الذي سيساهم في إضعاف موقف أردوغان.

فالغرب يعرف جيداً أن تركيا تقترب كثيراً من الاستحقاق الرئاسي 2023، وهنا يظهر كيف أن تدخلها هو أبعد من كافالا.

في الواقع هو تدخّل في التأثير على الرأي العام التركي وشعبية الرئيس أردوغان، على أمل إقصائه من الحكم ووضع أربابهم مكانه، أولئك الذين يريدون تركيا ضعيفة خانعة لا تعلو لها جبهة ولا يرتفع لها صوت إلا عندما تقول “أمرك سيّدي الغرب”!

الغريب في هذه الفئة المعارضة من الأتراك أن شعارها يكاد يكون “قوة تركيا في ضعفها”، على غرار شعار اليمين اللبناني في زمن العدوان الإسرائيليّ، الذي وجد في عدم امتلاك لبنان سلاحاً دفاعياً يعني أنه لن يشكّل خطراً على الاحتلال، وبالتالي، لن يكون عرضةً للاعتداء الإسرائيلي!

لكن أردوغان قالها وبكل وضوح، هذه تركيا العزيزة الشامخة، وليست دولة قبلية تأتمر بأوامركم. وقالها قبل ذلك مراراً: العالم أكبر من 5، في إشارةٍ واضحة إلى رفضه لتحكم الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدوليّ في العالم.

الغرب لا ينزعج من كون تركيا ذات غالبية مسلمة، ليس بقدر ما يزعجه كونها دولة عزيزة النفس، ذات سيادة ونفوذ وتأثير في المنطقة في طور التعاظم.

وينزعج من التطوّر التكنولوجي وخاصةً في الصناعات الدفاعية التي باتت تنافس أكثر الدول تقدّماً، وتؤرّق الكيان الإسرائيليّ، صديقهم المدلّل!

وينزعج من كون تركيا بلداً ديونه لصندوق النقد الدولي هي صِفر، ما يعني أنه ليس رهينة أهواء هذه الجهة الدولية التي اعتادت التحكم بالبلدان ومقدّراتها وسلطاتها.

وينزعج من الدور التركي الفاعل والمتعاظم في إفريقيا وملف الطاقة شرقي المتوسط وأزمات دول الشرق الأوسط بما فيها تحكمها بأزمة اللاجئين.

قبل أيام قليلة لم يمنع شيءٌ بريطانيا من التعبير عن تخوّفها من إقدام تركيا على تطوير قنبلة نووية، فهل نحن أمام سيناريو مشابهٍ لغزو العراق بحجج مختلقة لأسباب لا دخل لها بالمعلن منها؟

أما فرنسا، التي شارك سفيرها في البيان، وتناور لإخراج تركيا من الناتو، فتستمرّ في اعتقال المناضل اللبناني جورج عبدالله رغم مرور أكثر من 20 عاماً على انقضاء محكوميته، وذلك إرضاءً لربيبتها “إسرائيل”! فعن أي حقوق للإنسان وتسييس للقضايا تتحدث فرنسا؟

وها هي الولايات المتحدة، حليفة تركيا في الـ”ناتو”، تدعم وتغطّي تنظيم PKK/PYD الإرهابيّ شمالي سوريا الذي ينفذ عملياتٍ ضدّ المدنيين السوريين والأتراك ويهدد الأمن القومي التركي، وصولاً إلى محاولاته لاقتطاع أجزاء من تركيا وسوريا والعراق لبناء دولة خاضعة لسيطرته.

وعليه، يمكن القول إن كل هذه الضغوطات، تصبّ في خانة محاولة تقليص حجم تركيا وإعادتها إلى “بيت الطاعة” الغربيّ، عبر المؤمرات الخارجية والداخلية، الخشنة منها والناعمة!

المصدر : وكالة أنباء تركيا

You may also like