Home لـوثـة إلّاأدب لبنان كما عرفته (6 )

لبنان كما عرفته (6 )

by رئيس التحرير

 

 

شوقي بغدادي / شاعر وكاتب وناقد سوري – دمشق

في هذه المرة ذهبت إلى النبطية مع الصديق العريق في مودته ولطفه ونشاطه الثقافي “حبيب صادق “.. ومعرفتي به تعود إلى أيام الخمسينات حين أسسّنا رابطة الكتاب السوريين، “ليان ديراني، و شحادة الخوري، ومواهب كيالي وأخوه حسيب كيالي، وحنّا مينه، وسعيد حورانيه، ونبيه عاقل، وخير الدين فارس، و شوقي بغدادي، وآخرون.. ولا شكّ أني نسيت الأسماء كلها لأنّ ذاكرتي ضعفت جدّاً وأنا أغازل الشيخوخة وأخسر دوما ركنا من ذاكرتي.

المهمّ أنّ هذه الرابطة كبرت بسرعة، وكان الأمين العام لها الأستاذ ليان ديراني، إذ كان أكبرنا سنّاً وتجربةً، وبعد مضيّ سنتين انتسبَ للرابطة كتّاب من لبنان، ومصر، والأردن، والعراق، والسودان، وهكذا عقدنا مؤتمراً عربيّاً في دمشق عام ١٩٥٤ حضره من مصر الكاتب الروائي والمسرحي الكبير يوسف إدريس، وعبد الرحمن الشرقاوي، وآخرون.. ومن لبنان “حسين مروّة، ورضوان الشهال، وحبيب صادق، وغيرهم..” وغيّرنا في حينه اسم الرابطة إلى : “رابطة الكتّاب العرب ” وانْتُخِبْتُ أنا أمينا عامّاً لها، وصار عندنا دار واسعة كمقر لنا، وصار عدد الكتاب المنتمين للرابطة كبيرا جدا ..

وقمنا بنشاطٍ غنيّ وواسع جدّاً، وأصدرنا عدداً هامّاً من الكتب والمجلات، وشاركنا في عدد هام من المهرجانات والمؤتمرات العالمية… وبعد أربع سنوات أي في آخر يوم من عام ١٩٥٨ أصدرت حكومة الوحدة المصرية السورية، قراراً بإلغاء الرابطة، وزجّ أعضائها في السجن بتهمة نشاط الرابطة تحت راية الإشتراكية، والشيوعية، مع أنّ عدداً لا بأس به من أعضائها كانوا ينتمون لحزب البعث العربي الإشتراكي، وبعض المنتمين للحزب الشيوعي السوري اللبناني، وآخرون لا ينتمون لأيّ حزب قمت بهذا التوسع في الحديث كي أساعد القارئ على فهم المرحلة التاريخية الثقافية لمرحلة الخمسينات التي أثّرت في نشاط لبنان الثقافي الذي أسهم فيه الكتّاب السوريون، إلى جانب الكتّاب اللبنانيين كما حدث في الماضي، والحاضر ذلك أنّ دعوتي إلى النبطية الواقعة جنوب لبنان، سبقها عدّة مشاركات ثقافية للكتّاب السوريين في لبنان، ولللبنانيين في سوريا مما يؤكّد نوع الاخوّة بين سوريا ولبنان أنها كانت ثقافية أكثر منها سياسية..

ذهبت إذن إلى النبطيّة، برفقة كاتب لبناني معروف جدّاً وأعني الصديق الكاتب حبيب صادق، وكانت المناسبة دينية وأدبيّة معاً، أمّا الجانب الديني فكان يتعلّق بذكرى ثقافية دينية عن الإمام والخليفة الرابع لعهد الخلفاء الراشدين  “علي بن أبي طالب ” كرّم الله وجهه، وكان مطلوبا مني المشاركة بقصيدة.. هكذا مضينا إلى الجنوب اللبناني في عاصمته الدينية “النبطية “مع رفاق ينتمون إلى الطائفة الشيعيّة الكريمة، وكنتُ أنا الوحيد الغريب عن الطائفة بصفتي من الطائفة السنيّة…

لكن والحقّ يُقال أو يجب أن يُقال وهو أنّني من المعجبين بشخصيّة “علي بن أبي طالب ” كنموذحٍ راقٍ جدّاً للمسلم المقاتل، والخطيب، والواهب نفسه كليّاً للإسلام، والقدرة على المحبّة، ومعونة المحتاجين، والدفاع عن الحقّ، والمظلومين …

ذهبنا إلى هناك وتناولنا غداءنا في دار أحد المشايخ _ لم أعد أذكر الأسماء كلها _ ولكنني أذكر أنه كان محدّثا لبِقاً وأنه ابتسم ابتسامةً خاصّةً، ذات معنى حين ارتفعتْ ضجّة صاخبة من الخارج في الشوارع المحيطة بنا فيها أبواق السيارات وهتافات غير واضحة الكلمات عالية جداً، وحين اهتممت أنا بهذه الضجة وطرحت سؤالا عن أسبابها ومن هم القائمون بها، اجابني بقوله: “هادون جماعتنا من حزب الله يحتفلون على طريقتهم بالمناسبة “.

قال هذا وهو يبتسم ابتسامته التي كما خيّل لي وقتئذ أنها ابتسامته وكلامه شبيه بتعليق أبٍ غير راضٍ تماماً عن ضجّة أولاده أمام الضيوف وكأنّه يقول: “لا تواخذونا ” باللغة العاميّة.

بعد الغداء بساعتين تقريباً مضينا كلّنا إلى بناءٍ ضخمٍ فيه صالة رحبة ملأى بكاملها بالجمهور،في الصفوف الأمامية حوالي نصف الصالة تقريبا كان لجمهور المشايخ الكبار في السن، ومن ورائهم المشايخ الشباب ثم الجمهور العادي وأجلسونا نحن الضيوف والمرافقين لنا، في صفّ مواجهٍ للمشايخ، وكان المنبر عالياً ووراءه ستارة مسرح كبير مغلقة…

تتابعت وقتها الخطب الدينيّة الطابع، وكانت تُقاطع كثيراً بهتافات لها إيقاعات موسيقية منظّمة، وعبارات في الصلاة والسلام عليه.. جاء دوري أخيراً وأنا أشعرُ لأول مرّة أنني أمام جمهور مختلف جداً عن الجماهير التي تعوّدت على مواحهتها في سوريا مما أثار قلقي ..

غير أنني تماسكت كشاعر متمرّس وبدأتُ….

شعرت بعد ثلاثة أبيات أن صمتَ الجمهور العميق، يبشّر بالخير بمعنيان، أولاً أن الجمهور راضٍ عن إلقائي، وعن أسلوبي في الإلقاء، وخاصّة عن المعاني، وهكذا سمح الجمهور لنفسه، أن يطالبني بإعادة المقطع الأول للقصيدة فلبيت الطلب، وهكذا سمعت هتافات الجمهور المطمئنة أكثر ممّا توقعتُ، ولكنني ظلّلت أشكّ في نوع الهتافات، هل هي مجرّد تكرار لأسلوب خاص بهم في الهتافات، ذات الطابع الديني، غير أنني غيرتُ رأيي حين فا جأتهم بأبيات غير متعودين على سماعها أو قراءتها كأبيات ساخرةٍ بالمنافقين، أو المعادين لهم، وهكذا نجوت من اللامبالاة والتقاعس في بذل المجهود الكافي للتعايش مع شعرٍ لم يألفوه، وحين نزلتُ عن المنصّة، وما إن هممتُ بالخروج، حتى أحاط بي مجموعة كبيرة من المشايخ الشبّان يعبّرون عن رضاهم عليّ، وعن بعض المعاني التي كنتُ لأوّل مرّة في حياتي أجتمع بجمهور لا أعرفه، وبالنسبة له أنا من طائفةٍ أخرى مخالفة للشيعة، وحين سألني أحدهم وكأنّه يعرفني من قبل قائلاً : نحن نعرف أنّك من السنة.. لكن من يسمعك في مثل هذه القصيدة يعتقد أنّك شيعي أبّاً عن جَدّ مع أنّك سنّي، ولا أخفي أنه فأجاني هذا التعليق، وغمزني بعضهم أن أصمت وألّا أعلّق على ما سمعته من هذا الشيخ الشاب، ولكنني جاوبت وأنا اعني ما أقول: أنا لا أرى فروقاً كبيرة، وعميقة بين السنة والشيعة، والإمام عليّ بن أبي طالب توفي قبل ظهور المذهب الشيعي، وأنا فعلا من المعجبين بشخص عليّ بن أبي طالب جدّاً ..

وهنا شعرتُ أنّ أحد الرفاق الذين جاؤوا معنا صار يسحبني بلطف من ردائي، فودّعت الجميع بكلمةٍ لطيفةٍ، وغادرتُ مع المغادرين…..

 

خاصّ – إلّا –

You may also like