سليم بركات البداية المقفرة

أن يحاول المرءُ الكتابة عن شعرِ سليم بركات بلغةٍ عاليةٍ، يكون كمن يحاول أن يفسّر الشمس بالنجوم. فالاقتراب من سليم بركات اقتراب الجاحد، والمتعالي، يجعل من كلماته سياطاً تضرب عيني قارئها، وأما محاولة الابتذال و”الفزلكة ” في فهمهِ كلها تجعل القارئ غريباً عنه أشدّ من التغريب الذي تُوسمُ به كتابته.

ففي سبعينات القرن الماضي حين كان لقصيدة النثر حضورها وتأثيرها ومنظروها، وكانت لقصيدة التفعيلة تجربتها، وشكلها، لا بل كان لها كليشيهاتها، واتّكاءاتها، وكان هذا التعايش بين شعراء قصيدة النثر وشعراء التفعيلة يشكل بركةً راكدةً جميلةً تعيش فيها وحولها جميع المخلوقات، إلى أن جاء هذا الشاب من عامودا حاملاً حجره ليرميه وسط هذه البركة، ليعيد التساؤل بين الشعراء أنفسهم حول هذا التعايش.

جاءهم سليم بركات بمجموعةٍ شعرية اسمها ” كلّ داخلٍ سيهتف لي، وكلُّ خارجٍ أيضاً ” جاعلاً من هذه العبارة الطويلة سهلةِ المفرادات، بعيدةِ العمق في التركيب حالةً متفردةً بين العناوين التي كانت أغلبها تتّجه إلى اللغة والجملة الخبرية الموحية. وبسبع قصائد معتبراً الرقم 7 – رقم البركات المحتفى به في هذا الشرق، أطلّ بعناوين غريبة كان أولها ” دينوكا بريفا، تعالي إلى طعنةٍ هادئة ” استخدم فيها حالة تثويرية تعتمد زخم التفعيلة حدّ انقطاع النفس، مختاراً تفعيلة الخبب، فاعلن، لتظهر الملامح اللغوية الفجّة في شعر سليم بركات، واعتماده ألفاظ تمتاز بالجزالة وكأنها وقعت من القاموس على لسانه مباشرة، ولكن المتابع سيعرف أنها لغته الخاصة لا لغة القواميس.

وفي قصيدته ” الكواكب المهرولة صوب الجبل ” اعتمد ذكر التواريخ وسرد حادثة ابن خلّو الريفي، مورداً التاريخ باليوم والشهر والعام، سارداً جملاً شعرية طويلة، ناسفاً القافية والروي، معتمداً على قدرته على السرد بهذا الكمّ الموسيقي دون خوف من كسرٍ أو التفاف.

وهذا ما سيتفرّد به سليم بركات في مجموعاته اللاحقة، فهو لم يخلق قطيعةً مع شعراء التفعيلة ولغتهم، ففي قصيدته ” المطالبة بجسد فراشة غريبة ” التي اعتمد على تفعيلة فعولن، عدا المقطع الخامس فاعلن، فهو بهذه القصيدة ابن لجيل السبعينات، ينفض الغبار عن المصطلحات الثورية، والتراكيب والألفاظ والتشابيه، شأنه شأن شعراء السبعينات بعد صحوهم من صدمة نكسة عام 1967، فهو مشابه لشعر ممدوح عدوان، وجيله إلا أنه الحبر الخاصّ لسليم بركات وأوراقه.

أما في ” مبعوث الفراشات ” فهو يقدم حالة نقد فكري حول فكرة التقدم التي كانت شائعة في تلك المرحلة، فالمقدمة في هذه القصيدة، بدوية تتقدم برحمها، ضارباً عرض الحائط بمحاولات القراءة التفسيرية لما يريد أن يقول، وفي ” قنصل الأطفال ” يحرّك سليم بركات مظاهرة، يبدأ بتعريف الأرض، وينهيها بلافتتين مكتوبتين على الهامش ، يوجه إحداهما إلى ممدوح عدوان، ويوجّه الثانية إلى شرفات المهاجرين، وهو الرابط مع مصطلح القنصلية التي يتزعمها.

في ” نقابة الأنساب ” و ” أنا الخليفة لا حاشية لي ” يناقش سليم بركات المدّ العروبي بخوف وحذر، وهو المقضي عليه بالتهمة الجاهزة كونه “ابن الكورد ” في بحر العرب، في تلك الأيام لذلك يجنح إلى مغازلة سوريته من خلال مملكة أرواد التي يذكرها بعشق ٍ يتجدد. في هذه القصائد كان الحضور طاغياً وآسراً ومختلقاً وكان على جميع الشعراء أن يقرؤوه.. ( لكأني بالمستوحش من حيوان الوعر

تجادلهُ النارُ فيركضُ ناقوساً في أقنية الملأ الربانيّ ليخلع حنجرة الهورِ على بكّةَ،

أو سربال الخلجان على بلدٍ يتمطّى في خوذتهِ،

وكأني ببنات القصبِ ارتعنَ،

فأخفين سفائنهنّ عن الجدول حيث نصبُّ

ويجري حشدُ الأقمار إليه ويتبعنا

لمصبِّ بين حقول الجنسِ..

هلمَّ وقل لبناتِ القصبِ: اجرحن أعالي البدعةِ،

قلْ: أوعزنَ إلى الأيام فلا يعدن مضاجعنا

حين نكون عراةً ننزحُ بالقتلِ العذبِ إلى جسدٍ يرفضْنَ ،

ومتْ لأموتَ، لأعرفَ أنك لست معي .)

من قصيدة ” الكواكب المهرولة صوب الجبل “. كان عليهم أن يعترفوا بهذا الحضور المغاير، وأن يلتزموا قراءته بصوتٍ عالٍ لتصل قائدة إلى الأذن وتقع في جلجلة الدماغ، وتقلب موازينه ومسلماته، سليم بركات لا يُقرأ بصوتٍ منخفض، يقرأُ بصوتٍ عالٍ حدّ انقطاع النَفَس، وعليه أن تكون السمة الأبرز التي ستلاحق سليم بركات في مجموعاته اللاحقة التي سينتقل فيها إلى قصيدة النثر، نثره هو، وسيخترق عالم الرواية، روايته هو أيضاً، ليكون علامةً فارقة لا يشببه سواه.