Home لـوثـة إلّاأدب افتتان “الهايكو “
اسكندر حبش

إسكندر حبش شاعر وكاتب لبناني/ مسؤول الثقافة في جريدة – السفير  – اللبنانيّة

لم يمضِ زمن طويل منذ أن تعرّف القارىء العربي إلى شعر “الهايكو” الياباني، مترجمًا إلى العربية، عبر لغات وسيطة، أوروبية تحديدًا. فلغاية اليوم، لا توجد، ربما، ترجمة عن النص الأصلي إلاّ لمامًا (ونذكر في هذا السياق ما قام به الشاعر السوري محمد عضيمة المقيم في اليابان)، على العكس من الأوروبيين الذين ترجموه عن لغته الأم في القرن التاسع عشر. فالغرب، عرف الهايكو من خلال الأخوين “غونكور”، الفرنسيين، وهما من كان لهما الفضل في إطلاقه، داخل العالم الأوروبي. وبمعنى آخر، نبدو، نحن العرب، مدينين لهذين الأخوين. صحيح أننا قرأنا “الهايكو”، لكن ما يميز الغرب، أنه حاول نسج شعر على منواله، وبمعنى آخر، بدت هذه الثروة الرائعة” وكأنها تجعلنا ننسى أن الهايكو هو أحد أشكال التقليد الكلاسيكي الموروث، الذي يحاكي خاصية عبقرية الشعب الياباني. وإذا ما كان هذا التأليف المختصر المكوّن من 17 مقطعًا صوتيًا، يشتمل على إشارات تتعلق بالفصول، فهو في النتيجة، ظاهرة شعرية تظهر تساؤلات تذهب إلى ما وراء الإطار الثقافي الذي ينحدر منه.

ما أريد قوله، أن هناك شهرة، لنوع من “الهايكو” مكتوب بالإنكليزية والفرنسية والفلامنكية، على الرغم من أنه لا يمتلك فلسفة اليابان ولا “تجريديتها”.

لو بحثنا عن أبرز الغربيين الذين ترجموا هذا الشعر، تاركين لنا المجال في التعرف إلى أصالة هذه الممارسة الشعرية، لوجدنا في البداية اسم موريس كويو، وهناك أيضًا وبشكل خاص رينيه سيفر، الذي ترجم أعمال “باشو”، معلم هذا النوع، في حين نجد أن كثيرين غيرهما، اجتهدوا في دراسة ما سيكون عليه هذا الشعر، في لغة أخرى، مع كل الخيانات وسوء الفهم، الذي يشكله هكذا وضع. ومن هؤلاء، لا نستطيع أن ننسى الكاتب والمفكر والباحث الفرنسي “ايتامبل”. أما في العربية، فهناك العديد ممن نقلوا “الهايكو” إلى لغة الضاد. وإن كان ذلك عن لغات وسيطة كالفرنسية والإنكليزية.

إذاً هناك العديد من المحاولات لجعل “الهايكو”، شعرًا عالميًا. لكن ثمة سؤال يُطرح: “ما هو موقف اليابانيين من هذا التدفق الحماسي للهايكو”؟ عديدة هي المواقف الملحوظة حول هذا الموضوع. هنا أولاً، المفاجأة، ومن ثم، التسلية وأيضاً هناك التعاطف مثلما كتب جامعي ياباني في صحيفة “مانيكي” (الترجممة الفرنسية، في مجلة “اكسيون بويتيك” الفرنسية ـ عدد صيف 92). يقول الباحث الياباني: “هناك في العالم، أناس، وكلٌّ بحسب لغته، يؤلّفون قصائد يسمونها “الهايكو” بدأنا نجدها في القواميس البريطانية والأميركية الجديدة. وهكذا نجد شعراء في أربع أنحاء الأرض، يؤلفون قصائد الهايكو ذات النزعة الرثائية. وبموازاة هذا الافتتان لحالي بالهايكو في اليابان، توجد، وهذا واضح، ظاهرة مماثلة في الخارج… إن الأمر ظريف وعاطفي أن يستطيع الهايكو الياباني أن يخدم روابط الصداقة بين الشعوب التي لا تعرف اليابانية ولا اليابان…”.

وإذا حاولنا أن نتخطى الدهشة هذه إلى الفعل، أي أن نرى ردّة فعل اليابانيين من خلال روحهم العملية الأسطورية، لوجدنا أنهم بدأوا تنظيم مسابقات رسمية للهايكو المكتوب بالأجنبية، وذلك انطلاقًا من المهرجان الثقافي الخامس، الذي أقيم العام 1990، في مدينة ماتسوياما. وفي ما وراء هذه التساؤلات العديدة، التي تشكل انطلاقًا من الحساسية “الغربية” للهايكو، وفي ما وراء الصيغ “اللامعة” لبعض تآليف هذا الشعر، لنطرح السؤال البسيط، التالي: “ما هو الهايكو”؟

أصولية تاريخ الإنسان

إنه أولاً وقبل كل شيء، ممارسة اجتماعية. إنه نوع من الكتابة، ولد من خلال اللقاءات الشعرية (أوتا ـ أواز) التي حصلت في البلاط الإمبراطوري في العصر القروسطي الياباني. فخلال المبارزات الفروسية، كان يتمخض عن المحاربين، إبداعات جماعية مثل “الرنغا” (أبيات متصلة بعضها بالبعض الآخر) ومنها انحدر الهايكو.

كان باشو، مثلاً، يدير حلقات للهايكو واضعًا تجربته الخاصة أمام تجارب الآخرين، مناقشًا تقنياته مع تلامذته. فكل نشاط ثقافي، ذي هم شعري خالص، هو نشاط اجتماعي، في اليابان. فنحن نجد اليوم، أن للهايكو، في هذا الأرخبيل، مدارسه وتلامذته ومجلاته (800 مجلة أُحصيت مؤخرًا)، وكذلك تياراته ومسابقاته وملايين مؤيديه.

ففي نوادي الهايكو، حيث يقام اجتماع شهري، تصبح قصيدة كل عضو من أعضاء هذا النادي، موضوعًا للنقاش وللجدال وللتعليقات وللانتخاب، أيّ قصيدة صالحة، وأيها غير صالحة، وهي بذلك تشهد على “ديمقراطية أدبية” أصيلة. فكل شيء منظّم بطريقة تنافسية، لأن هناك بعض الصفات التي تجعل “الهايكو” يرسو، وبشكل أكبر، في خاصيّة ثقافية. وتكشف بأن هذا الأمر، ليس ظاهرة عارضة للوقائع الأعمق والأساسية للنظرة الانشغالية والأصولية لتاريخ الإنسان.

المفهوم الديني

إن الهايكو الكلاسيكي، مثلما وصل إلينا، مبنيّ وفق إيقاع ذي 17 مقطعًا صوتيًاً. وهذا الأمر ليس عارضًا.

في واقع الأمر فإن القصائد اليابانية القديمة جدًا، والمحققة، مثل “الكاتوتا”، كانت مبنيّة وفق هذا الإيقاع، كانت تعيد إنتاج طريقة التنفّس التي كان يتأسس عليها الأدب الشفهي (أي غير المكتوب أو المدوّن)، قبل إدخال أشكال الكتابة ذات الأحرف الصينية. هذه المعادلات الموقعة (من إيقاع)، المتوازنة، والتي سنجدها لاحقًا في مباريات شعر القرون الوسطى، كان لديها مفهوم ديني حاد. فلكي يظهر “الهايكو” بداية، مثل عمل شعري، كان عليه أن لا ينسينا أن اليابانيين حافظوا طويلاً على “شعر الصلات”: أي كان هناك “انهماك” في علاقة بالعالم اللامرئي، الذي لم يكن غائبًا. كانت هناك وقائع اجتماعية، تثبت ذلك.

بعض الشخصيات الموفّرة في تاريخ اليابان، لم تكن تستهون حضور الاجتماعات الشعرية، وتأليف بعض القصائد قبل المعركة، وذلك من أجل “اجتذاب” “ممارسات الآلهة”. اكيشي ميتشودي، مثلاً، قاتل الجنرال الشهير اودا نوبوتاغا، في العام 1582، اشترك ليلة فعلته، في مسابقة لـ “الرينغا”. في حين أعلن الفيلسوف فوجيتاني ميتسو، في القرن الثامن عشر وذلك من خلال بحث حول الفن الشعري، أنه ينبغي تحطيم طوق الكلمات التي كانت تحمل الآلهة الأسرى. كانت الآلهة حاضرة في لحظة “شقلبة الكلمات” (التوغو)، وهي ظاهرة تشتمل على عكس ترتيب الكلمات أو المقاطع اللفظية من أجل تقوية المعنى أو تحجيبه. كذلك كنّا نجد أن آلهة الشنتو، كانت تميل إلى “روح الكلمات” (الكوتوداما).

سحرية وتقاليد

عديدة هي القصائد التي كانت تتماثل في التقليد الشعبي مع الصيغ السحرية حيث “روح الكلمات” هذه، كانت محررة بواقعة بسيطة، وهي إلقاء هذه القصائد. كانت هذه الأناشيد الموقعة بـ 31 مقطعًا (17 + 14)، تستعمل من أجل غايات علاجية. أي أنها تحيلنا إلى العلاقة بين السحر والشعر، في حين كانت حضارات عديدة، من الحضارات التقليدية، تنادي بأن كل شعر هو نوع من الطبابة.

تشتمل قصائد الهايكو، دائمًا، على مرجع فصلي، وهي بذلك تشير إلى أن المؤلف هو على “انسجام مع الطبيعة”، مما يعني أن كل تلميح مرتبط بفصل في قصيدة، هو نوع من المعرفة التي توضح مكان الإنسان النسبي في هذا الكون، حيث الأحداث الإنسانية، ليست فقط، من نتائج الإنسان.

فعلى مرّ العصور، فهرس اليابانيون، ومن ثم صنّفوا، كل الإشارات، وكل اللحظات الدّالة إلى كل فصل، جاعلين منها مصطلحات حقيقية اغتنت على مرّ الزمن.

هذه المصطلحات، التي تعدّ اليوم أكثر من 5000 كلمة تتعلق بالفصول، هي، وبشكل ما، كتاب مبسّط يستفيد منه عشّاق الهايكو قبل أن يكتبوا قصائدهم، إنها كنز حقيقي للحساسية اليابانية، وهذه المصطلحات، هي أيضًا، “تقاويم شعرية” (السايجيكي)، ومثلما يصفها الشاعر الياباني “اينويه تيروو” أنها: “مجموعة مفصّلة جدًا عن تفاصيل وعادات شعبنا”. هذه التقاويم الشعرية هي دعائم إبداع، لأن الهايكو ليس إلا نتائجها المرئية.

تحلّل هذه التقاويم وتوضح كتابة 15 ألف شاعر يكتب “الهايكو”. وهي مرجع لكل كتابة جديدة. لذلك يعطي اكتشاف هذه التقاويم وتعلّمها، يعطي لممارسة الهايكو ضوءًا مختلفاً ويسمح لنا بقراءة “اليابانية”.

فمن خلال “كلمات الفصول” هذه، المقمّشة في هذه التقاويم، نشهد إعادة إعمار مستمر للكون من قِبَل هذا الشعب، وبذلك يكون الهايكو أكثر من مجرد حدث أدبي.

بهذا المعنى، ومن خلال تاريخيه، ومن خلال ما هو عليه اليوم في اليابان، فإن الهايكو ليس فقط مجرد شعر يقدّره العالم، لأنه وقبل كل شيء، هو نوع من الشعر السلالي، علينا معرفته، قبل أن نبدأ قراءته أو ترجمته.

هايكو عربي

إذًا وبعد أن انتقل تقليد الهايكو، ليكون حاضرا في جميع ثقافات العالم، وبعد أن وصل إلى العربية عبر ترجمات هذا الشعر، يمكننا القول إن هذا النوع من القصائد قد وجد موطىء قدم له، فيما لو جاز القول، أقصد أن عديدين من شعراء عرب أعربوا عن تأثرهم به، بهذه القصيدة “المختصرة” التي تبدو على تضاد مع الشعر العربي، الذي يميل أكثر إلى الإطناب والتفسير والشرح.

 

خاصّ – إلّا –

 

You may also like