Home لـوثـة إلّاأدب عصام الغازي يتذكر – الحلقة (8)

 

561809_170

عصام الغازي – شاعر وكاتب وصحافي / جمهورية مصر العربية

 

الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي:

الحب العذري ليس حبا مقموعا؛ لكنه يشبه العبادة الروحية الخالية من الشوائب

 

 

  • ذكرياتي ..أوراق جنسيتي.
  • العراق حبسني في قفص وفي المنفى أعيش فضاء الحرية.
  • د. طه حسين أشاد بأشعاري أنا ونازك والسياب، لكنه تحفظ على أشكال كتابتنا للشعر.

حين جرد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي من الجنسية، أدركت أن نذير شؤم أطل بوجهه على العراق كله، فقد تخيلت أن خديوي مصر يصدر فرمانا يجرد الشاعر حافظ ابراهيم من الجنسية، أو يجرد الأهرامات منها!

الخديوي

خديوي مصر

 

الشاعر حافظ ابراهيم

الشاعر حافظ ابراهيم

كان خطأ سياسيا قاتلا من الرئيس العراقي أن يوجه ضربة قاضية لقوى بلاده الناعمة التي عشقتها الأمّة كلها ، وكنت أدرك أن عبد الوهاب البياتي والجواهري وسعدي يوسف وبلند الحيدري أهرامات عراقية لا يملك أي حاكم سلطة تجريدهم من الجنسية، وكان ينبغي مثلما أقام قصرا للشعر على نهر دجلة  للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد – رحمه الله – أن يقيم مثله للبياتي وأن يقيم تمثالا للجواهري مماثل لتمثال السياب في البصرة.

مهدي الجوارهري

الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري

زرت العراق عدة مرات قبل غزوه للكويت، وعرفت العراق من شماله الى جنوبه. التقيت شعبه الطيب في كل مدينة من مدنه:

الموصل وبابل والنجف وكربلاء  وسامراء والبصرة، وألقيت شعري في جامعتي الموصل والبصرة، كما ألقيته في بابل وبغداد، وسهرت ليالي طويلة مع أصدقائي الشعراء  والروائيين في نقابة الصحفيين والكتاب في بغداد، وربطتني خارج العراق (في القاهرة) صداقة وطيدة بالشاعرين بلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي.

الشاعر بلند الحيدري

الشاعر العراقي بلند الحيدري

كان البياتي شخصية حالمة جذابة، فتح لي قلبه عن ذكرياته في الوطن الذي جرده من الجنسية في لحظة مراهقة سياسية، قال لي:

الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي

” ولدتُ في قرية بمحافظة صلاح الدين شمالي بغداد، ولعل أهم ملامح صورة هذه القرية، هي العلاقات الانسانية بين أفراد هذه القرية، كذلك التضامن بين الطبيعة والفصول الأربعة، التي كانت تظهر بقوة ووضوح، لأن الفصول ينعدم طعمها في المدن”.

 

الجــــــذور والينــــــابيــع:

 

يواصل البياتي:

“من المحطات الأخرى في طفولتي: الهجرة الرمزية والهجرة الواقعية، اذ أن الكثيرمن الناس الذين هم في قريتي، عندما كانت السماء لا تمطر، يهاجرون الى الأراضي البعيدة، ربما الى أقطار أخرى، أو الى داخل العراق،ويعللون أنفسهم بأنهم سيعودون بعد سنة أو بعد سنتين، لكنهم يرتبطون بأرض أخرى  ويتزوجون هناك ولا يعودون .

البياتي

وهناك هجرة رمزية هي هجرة الطيور التي تخترق الكرة الأرضية من القطب الى خط الاستواء، تمر عبر العراق، فكنت أنتظر مشهد بعض أنواع الطيور المهاجرة، وكنت أعرف مواعيدها بالضبط.

فمثلا في صباح كل يوم قبل شروق الشمس، أستيقظ وأسمع صيحات اللقالق، فأعرف أن موسم الهجرة لهذه اللقالق قد بدأ. وهذه اللقالق كنت أرقبها تماما وهي تحط فوق المساجد وفوق الكنائس، وتبني أعشاشها، لأنها كانت تختار المناطق العالية من المدينة، فتفرخ وبعد ذلك تربي صغارها، وبعد أن ينمو ريش هذه الأفراخ، يحين موعد الرحيل الجديد، فترحل مخلفة في سماء المدينة صيحة لا يسمعها أحد الاي. ولأنني كنت أنتظر وأرقب وأعيش مع لحظات هذه الطيور المهاجرة، وهذه الظاهرة – يقول البياتي – لم تظهر في شعري الا في هذه السنوات الأخيرة ، اذ أن هناك قصيدة في ديواني “بستان عائشة” عنوانها “اللقالق” عبرت فيها عن هذه الهجرة الرمزية. ليست هجرة الطيور واللقالق، انما هجرة الانسان الغامضة في داخل نفسه، في المكان، في الزمان، وحتى في الذاكرة. فكنت أشعر وأنا أرقب هذه الطيور، وقد وعيت ذلك فيما بعد ، بأنها كانت رحلة في ذاكرتي، بل في الذاكرة الجماعية للبشر”.

DSC_2612

البياتي ينصت لحديث عصام الغازى مع الدكتورة خالدة سعيد حرم الشاعر ادونيس 

ويواصل البياتي منولوجه الداخلي الساحر:

“هناك مشهد أيضا لا أنساه، هو مشهد نهر دجلة الذي يخترق بغداد، وكنت في طفولتي قلما أسبح في مياهه، الا أنني كنت أذهب وأجلس على ضفافه، أتأمل المياه الجارية، لا بروح رومانسية، انما بروح واقعية، اذ كنت أفكر فهذه المياه التي تذهب إلى البحار البعيدة، وكنت أحلم بأن أستقل باخرة أو زورقا وأرحل مع هذه المياه، لكنني كنت أحلم فقط، كذلك كنت أيضا، وقد حرمت من روح الفصول الأربعة التي أحس بها في القرية، كنت أستعيض عنها في المدينة بمراقبة الأشجار  وما يطرأ عليها من عوامل النمو والذبول والموت والاندثار، فكان تفتح أزهار شجرة مثمرة مثلا، ومن خلال تحول هذه الزهرة وسقوطها على الأرض، أو من خلال تحول هذه الزهرة إلى ثمرة، ومن ثم نضوج هذه الثمرة وسقوطها أيضا، كنت أحصي دقات قلب الزمن.

كان الليل يشكل بالنسبة لي نهاية العالم، فكما أن العرب في فتوحاتهم عندما وصلوا الى المحيط الأطلسي، شعروا أن العالم ينتهي هنا، وأن ما وراء المحيط الأطلسي الليل والظلام. كنت أيضا أحس عندما يأتي الليل بأنني قد حوصرت، ولهذا كنت في معركة دائمة بيني وبين  هذا الليل، إلى أن أسقط إعياءً، فأنام، وفي نومي كانت تحاصرني الكوابيس باستمرار.

كنت أحس بأنني أسير في نفق طويل، وأن هناك كلابا ضارية ومفترسة تطاردني، وكنت أطلق ساقي وأجري بأقصى قواي، وعندما تدركني هذه الكلاب وتنقض علي أصرخ، فأستيقظ من النوم.

كذلك أتذكر أنني كنت أشعر بأن جسدي أشبه بوحش يسبب لي الأرق والفجيعة باستمرار، فكنت أعمل على ترويض جسدي كما يروض الحصان،وقد استطعت بعد ذلك أن أجد معادلا موضوعيا بين احساسي ووعيي المبكر، وبين الحيوان الكامن في جسدي!. تلك مشكلة كانت محيرة حقيقية ، لأنني كنت على مشارف المراهقة في ذلك الوقت.

البياتى ص

البياتى مع عصام الغازى فى احدى ليالى القاهرة الثقافية

وكانت تنتابني أيضا نتيجة البيئة والتربية والانتماء مشاعردينية قوية جدا،ولكنني كنت أحتفظ بها لنفسي، ولا أخلط بينها وبين الطقوس التي كان يمارسها الناس الآخرون، كان جدي إماما ورجل دين ، وكنت أذهب معه إلى المسجد، ولكنني كنت أكتفي بالصمت والتفرج على المصلين، وعلى الصلوات دون أن أسهم فيها. كنت أعتقد أن مشاعري أعمق من هؤلاء البسطاء، الذين يؤدون فروضهم بصدق، وكنت أنصرف إلى البستان الذي كان ملحقا بالمسجد، ويضم عددا كبيرا من أشجار البرتقال والنخيل، فكنت أتأمل الأوراق، وأقطع الأوراق الذابلة، وأتأمل الأوراق الجديدة، وهكذا.. لهذا نشأت صداقة عميقة بيني وبين جدي، إذ أنه كان يفهم ما يدور داخل نفسي، لذلك لم يتدخّل في شؤوني على الاطلاق، ولم يفرض علي أي قيد من القيود، لهذا كانت علاقتي وارتباطي بجدّي في الطفولة الأولى أقوى من ارتباطي بأبي، لأن أبي كان دائم السفر في تلك السنوات، وكنت لا أسأله الى أين يسافر، وحين أسأله لا يجيبني بوضوح، لكن بعد مرور سنوات المراهقة، بدأ أبي يستقر شيئا فشيئا وقلت أسفاره الغامضة، لهذا بدأت في الانتقال من صداقة جدّي إلى أبي، كنا نتناقش في كثير من الأمور، فكان يعجب بمستوى مناقشاتي، حتى أنه في بعض الأحيان عندما كان ينشأ نوع من الحوار بينه وبين أصدقائه – وكلهم من كبار السن – كانوا يعودون لاستشارتي في كثير من الأمور، وكنت أجيبهم أجوبة صائبة ودقيقة، وكانوا يقتنعون بإجابتي. أبي أيضا بدأ يلعب دورا كبيرا في حياتي، كنا نذهب لمشاهدة الأفلام الجديدة التي تعرض في دور السينما، وبدأتُ أذهب معه إلى المقهى، وأجلس معه وأتحدّث، وكنت أتحدّث مع الآخرين حديث الند للند، كأنني رجل كبير، وكانوا يحترمونني جدا.

هذه المسألة أعطتني نوعا من الثقة، ولم تعطني الغرور، مداركي كانت لا تعتمد على القراءة فقط، إنّما على الملاحظة والدقّة ومراقبة الأشياء من بداية تكونها، إلى موتها، إلى ولادتها من جديد. كل هذه الأشياء الحاضرة والغائبة، إلى أن تفجرت ذات يوم بعض الكلمات في داخلي، فحاولت أن أكتبها في هذه السن المبكرة على الورق.

البياتي شاعراً

القصيدة الأولى والحب الأول:

يقول البياتي: قصيدتي الأولى كانت عمودية، كما كانت بدايتي، وأعتقد أنها كانت تنتهي بالراء ” القدر – القمر” وهكذا، وهي قصيدة غزلية كتبتْ عن جارتي.

بدأ حبّي الأول في القرية، أحببتُ إحدى قريباتي، عندما كنت في الثامنة من عمري، وبقى هذا الحب كامنا دون أن تعرف به، إلى سن السادسة عشرة، ثم بعد ذلك تزوجت هي، فشعرت أنا بالفجيعة والفقدان، أي أنني شعرت بالفجيعة منذ سني المبكرة، وكانت طبيعتي وكبريائي الصامتة تجعلني أمارس عملية الحب الحقيقي.

إنّ الذي يحب لا يبوح بحبه، هذا هو العذاب، إذن فدوافعي كانت دوافع ميتافيزيقية أصيلة، لم تكن الحب بمعناه الدنيوي الذي نفهمه الآن. ولهذا فأنا عندما أعود بالذاكرة إلى الحب الأول. أقدر حب الشعراء العذريين في صدر الاسلام، وأنا ضد التحليلات السيكولوجية التي تكتب، بأنه حب مقموع، أو شهوة جسدية مقموعة.

هذه تحليلات سخيفة لأنني أعتقد أن هناك بعض الحب الذي يشبه العبادة الروحية، الخالية من الشوائب، ومثل هذه التجربة قد يعانيها الذين مارسوا الحب بمعناه الدنيوي أيضا ليس في المرحلة المبكرة من حياتهم ، إنما في كل الأعمار.

ربما المجتمع المادي الذي غرق فيه العالم في السنوات الأخيرة ، قد أزال الكثير من معالم الطبيعة.

كذلك الكثير من المواقف والمشاعر الانسانية النبيلة التي استؤصِلَتْ نتيجة تطوّر المجتمعات، وتحولها إلى مجتمعات مادية استهلاكية.

ليـــالي دمشــــق وبيروت والقاهرة الثقـــافية:

 

عن مثله الأعلى يقول البياتي:

كنت أشعر أنني أسير في نفق طويل ومثلي الأعلى أن أجتاز هذا النفق وأخرج من طرفه الآخر، أيضا أحس أن الحياة يجب أن تكون عادلة، فلماذا هي غير عادلة؟، كان هذا الجدار الذي تصطدم فيه أسئلتي ليل نهار.

مثلي الأعلى كان أن تسقط الجدران العالية، ويولد الانسان حراً من جديد، كنت أشعر بالحزن لمرأى الفقراء والبائسين والشحاذين، ليس لهؤلاء فقط، ربما كنت أشعر بالحزن حتى  على الأغنياء وهم يذبلون أو يمرضون أو يموتون، كان إحساسي إحساسا إنسانيا إزاء البشر، إزاء الضعف الانساني أيضا. إزاء موت الأشخاص، خاصّة موت الأشياء التي لا تعاود الولادة.

أعمالي الشعرية الأولى، بدأت بديوان ” ملائكة وشياطين” الذي ضم 36 قصيدة عام 1950، و ” أباريق مهشّمة” أول ديوان من الشعر الحديث صدر عام 1954.

البعض يعتبر المنفى قفصاً، والمنفى بالنسبة لي هو فضاء الحرية. كنت أشعر في العراق أنني موضوع في قفص، وقد فتحت باب القفص، كأن القدر كان يترصدني ويقود خطاي، وعندما هبطت في دمشق كان اسمي قد سبقني ولم أبذل أي جهد في التعرف على الوسط الأدبي والثقافي، وقامت المجلات التي تصدر في دمشق وبيروت بنشر قصائدي.  كنت أقضي معظم وقتي  في مقهى البرازيلية والهافانا وهما مقهيان متقابلان، وكانت دمشق تمتاز في تلك السنوات باللقاءات الحميمة داخل البيوت،، حيث كانت تعقد الندوات الأدبية والسهرات، وكثيرا ما كنا عندما نخرج في منتصف الليل، نتمشى في شوارع دمشق حتى الصباح، ونحن نتناقش في مشاريع أدبية وشعرية ، ونتحدث عن أفلام شاهدناها، أو عن كتب قرأناها، أو عن قصائد وكتب نحلم بتأليفها ولم نؤلفها أو ألفنا جزءا منها. كان هناك احتكاك، وكانت هناك محبة الأدباء على اختلاف اتّجاهاتهم الأدبية والفنية، والمدارس التي ينتمون إليها، لأنهم كانوا يعيشون بالقرب من بعضهم، وكانت بيروت أيضا عاصمة ثقافية مفتوحة على العالم العربي والعالم الخارجي.

ثم بدأ تعرفي على مصر، الذي لعب دورا كبيرا في انتشاري. فحضرت إلى مصر مدعوّا  من أدبائها، وقد أقيم لي احتفال كبير في رابطة الأدب الحديث، تحدث فيه رجاء النقاش وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي الذي ألقى فصيدة ترحيب بي وبصلاح جاهين وكمال عمار، وانضممت الى اللجنة الثقافية التي كان يرأسها د. طه حسين، وبهذه المناسبة تعرفت على د.طه حسين الذي قال لي بالحرف الواحد : ” انني قرأت وسمعت عنك بعض الشيء ، وعن زميلتك نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وقد أعجبني شعركم ولكنني لم أعجب بالأشكال التي كتب بها .

د. طه حسين

وصدر لي في القاهرة آنذاك ديواني ” أشعار في المنفى” وقدمته هدية لطه حسين.

 

طقــــوس الكتــــابة:

وعن طقوس الكتابة عنده يقول البياتي:

لا أتكلم . أصوم عن التدخين وعن تناول الطعام والكلام ولا أنام وأسير في الشوارع ولا أمكث في البيت، وأنتظر. لا أقسر نفسي على الكتابة، ثم أبدأ أكتب في ذاكرتي مثل اللوح المحفوظ الذي يكتب عليه، وعندما أنتهي من مقطع كبير، أنقل ذلك على الورق. وأحيانا أكتب مقطعا تحت مصباح النور في الشارع في ساعة متأخرة من الليل. وأطول فترة انقطاع عن كتابة الشعر مررت بها هي ثمان سنوات، بدأت عام 1980، حتى أصدرت ديوان “بستان عائشة ” الذي كتبت قصائده في اسبانيا.

رحم الله عبد الوهاب البياتي.

 

خاصّ – إلّا –

 

 

 

You may also like