Home لـوثـة إلّاأدب عصام الغازي يتذكّر/ الشيخ إمــــــام.. عــاشــقــــــاً

عصام الغازي يتذكّر/ الشيخ إمــــــام.. عــاشــقــــــاً

by رئيس التحرير

 

عصــام الغــــازي شاعر وكاتب وصحافي/ جمهورية مصر العربية

عصــام الغــــازي
شاعر وكاتب وصحافي/ جمهورية مصر العربية

في ذكرى رحيله الـ20 ..الثـــوار أيضا يحبــّون

كان يوم 8 أغسطس الماضي؛ هو ذكرى رحيل مغني الثورة الشيخ إمام عيسى، الذي أشعل قلوبنا وهجا، وهو يتنقل بعوده الخلاب من جامعة القاهرة إلى حزب التجمع الوطني إلى أتيليه القاهرة، ومن دمشق المناضلة الصامدة إلى بيروت المحاصرة بدبابات اليهود إلى الجزائر أيقونة النضال العربي، ومثلما غنى للثورة في المعتقل غنى في باريس للنخبة المثقّفة.

التقيتُ الشيخ إمام لأول مرّة في مسكنه المتواضع بحارة “خوش قدم” بالقاهرة الفاطمية، انحنتْ قامتي بشدّة وأنا أصعد السلم الرطب المتهالك في الظلام متوجّها إلى غرفته، التي تتكون من فراش ومنضدة وبعض الكنبات، وهو يقتسم هذا المنزل الأسطوري مع صديقيه الشاعر أحمد فؤاد نجم والفنان التلقائي محمد علي.

najem & immam

الشاعر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام

كان البيت “كميونة” تستقبل كل يوم أصدقاء جدد من الفنانين والأدباء والمثقفين والشباب الثوري اليساري أمثال

د. “عصمت النمر”، يغنّون مع الشيخ إمام و”عزة بلبع ” ويستمعون إلى أشعار  “نجم ” الجديدة أو يشاهدون تماثيل “محمد علي” ولوحاته المستوحاة من البيئة الشعبية في حي “الغورية”، ومن هؤلاء ترى “سعاد حسني ” وزوجها آنذاك المخرج “علي بدرخان ” يفترشان الأرض حيث يتحلّق الجميع حول أطباق الفول والطعمية والخبز الساخن المخبوز خصيصا لنجم، وأكواب الشاي، الكل يأتي حاملا هداياه من الطعام لثلاجة نجم، والكل يشارك في تجهيز المائدة الأرضية.

حدّثني الشيخ إمام عيسى بأنه لم يتزوج قط، لكنه خاض مغامرات عاطفية كثيرة في حياته، يقول: (وأنا أصدقك الحديث في كل حرف، وكنت أصدم في كل مرة فأنا عندما أحبّ، أحبّ بانجلاء ما عنديش هوادة في الحب، والمرأة التي أحببتها حباً حقيقياً ما زلت أخلص لها، وهي أخلصت لي، وسيظل إخلاصنا لبعضنا إلى أن نموت).

وحين سألته: وهل هي ملهمتك يا شيخ إمام؟

قال: أيوه . ونجم يعبر عن أحاسيسي تماما تجاه حبيبتي، لأنه يعرفها، كانت تأتي إلى ندواتنا في الجامعة، وكل الأماكن التي نتواجد بها ، وهي ست ثورية جداً، وزوجها من التقدميين العظام، فمثلا حين يحدث أمر بالقبض علينا، أذهب للاختفاء عندها، فتأويني وتحميني، إلى أن تحين اللحظة التي أختارها لتسليم نفسي إلى نيابة أمن الدولة، وغالبا ما تأتي هي  لتصطحبني إلى منزلها.

????? ????

وكان الشيخ إمام بعد حديث الحب والمواجع، يمسك بالعود ليغني :

“هنتوب لندوب في غرامك دوب / يا بو خال ع الخد وشال ع التوب

ياحرام ..ياحلال .. يابو تيه ودلال / دوبنا القلب ولسه يا دوب  هنتوب” .

ولد الشيخ إمام بقرية أبو النمرس بالجيزة في 2 يوليو 1918، لأب كان يتاجر في زجاج لمبات الجاز، وفقد بصره في الشهر الثاني من عمره، وحكت له والدته أن عيناه كانتا جميلتين، وحدث أن زارت أمه امرأة من القرية فعلت شيئا غير مفهوم كانت نتيجته بحسب قوله: (وضع هذا الوسام على وجهي)، ويقول إن هذا شيء يعتز به ولا يؤلمه، بل إنه يزيده رفعة.

immam2

الشيخ إمام

التحقَ إمام بالكتِّاب وهو في الخامسة من عمره، وحفظ المصحف حفظاً سليماً وهو في الثانية عشرة، ثم التحقَ بالجمعية الشرعية بالمغربلين مدة خمس سنوات وفصلوه منها لأنه كان يستمع إلى الشيخ “محمد رفعت ” في الراديو!، وكانت الجمعية الشرعية تعتقد أن سماع القرآن في الراديو حرام، وحين فصلته الجمعية أصبح بلا مأوى، يقضي النهار في سيدنا الحسين، وفي الليل ينام في الجامع الأزهر فيسرقون حذاءه.

في العام 1936 قادته قدماه إلى “خوش قدم” وبدأ يكسب قوت يومه من قراءة القرآن في المحلات والبيوت.

حكى لي الشيخ إمام أنه منذ كان في الجمعية الشرعية كانت روحه تواقة للفن والطرب، وأنه التقى بالشيخ “درويش الحريري ” إمام أئمّة الموسيقى في الشرق العربي، الذي تخرج على يديه الموسيقار “محمد عبد الوهاب” والشيخ “زكريا أحمد “، وأنه درس على يديه الموسيقى نظريّاً، بمعنى أنّ النغمات الموسيقية درسها بطريق الموشحات الأندلسية، وأن الشيخ درويش كان يرى فيه خامة جيدة.

 

ثم التقى إمام بالشيخ “زكريا أحمد ” والشيخ “محمود صبح ” فارتشف من ألحانهما، وبدأ يغني في حدود ضيّقة مثل أعياد الميلاد و- سبوع المواليد – أو طهور الأبناء، حتى كان عام 1945 فتحول عن احتراف القراءة إلى احتراف الغناء، وبدأ يردد أغاني الشيخ “زكريا “، فكان يغني وسط زملائه من المكفوفين ألحان الشيخ زكريا التي ستغنيها

“أم كلثوم” له في الخميس الأول من كل شهر، وفي العام 1962 التقى الشيخ إمام بالشاعر “أحمد فؤاد نجم “.

يقول إمام: شجعني نجم على التلحين بعد أن سمعني أغني للشيخ زكريا، وبدأ يكتب لي أغنيات عاطفية ألحنها وأنا جالس معه وأغنيها، ومن يومها لم يترك نجم خوش قدم ، وبدأنا معا أعمالنا الثورية والسياسية التي يعرفها الجميع.

أتذكر أنني سألت الشيخ إمام عن رأيه في الشيخ سيد درويش، فقال لي:

” سيد درويش ليس بحاجة إلى رأي إنسان مثلي، فهو علم أكبر من أن يقيمه أي متحدث، سيد درويش لو شاءت الأقدار له أن يعيش، لغطى على كل الأسماء الموجودة إلى جانبه. سيد درويش بحر بلا سواحل، أمواجه متلاطمة ومترامي الأبعاد، والتحامه بالناس هو الذي فجّر طاقته الفنّية، وقد كان ناقما على الاستعمار والاحتلال، وهو مولود في طبقة شعبية فقيرة، حيث لا يشعر بالنار إلا من يكبشها، وهو من كوم الدكة، وليس من رأس التين، وأنا أقدسه لأعماله الجميلة التي قدّمها في حب مصر”.

وكان الشيخ إمام يرى أن دور الفن في المجتمع هو أن يسير على المنوال الذي سار عليه سيد درويش، بتوعية الشعب والتحدث بلسان الكادحين من العمال والفلاحين والطلبة وكل الذين يحبون مصر حباً حقيقياً.

عرفت أقدام الشيخ إمام عيسى طريقها إلى المعتقلات والسجون ابتداء من عام 1969  حيث قضى ثلاث سنوات في سجن القناطر في فترة اعتقال الشيوعيين، وكان إمام ونجم قد بدآ منذ عام 62 إنتاج الأغاني الثورية

??? ????? ????? ?? ?????

نجم وإمام رفقاء فنّ وثورة

والسياسية، إلى أن جاءت نكسة 67 فأشعلا الجامعات والميادين بالأغاني الغاضبة على القيادة السياسية إبان حكم الزعيم جمال عبد الناصر، ولم يستوعبا حينها أن النكسة كانت إحدى حلقات المؤامرة الاستعمارية لكسر التجربة الثورية المصرية التي حررت شعوب العالم الثالث وساندتها على التحرر من أغلال الاحتلال، إلا أن أحمد فؤاد نجم أدرك بعد وفاة الشيخ إمام ما كان غائبا عن رؤيتهما خلال الصدام مع فكر عبد الناصر.

وقد استفسرت من الشيخ إمام كيف أنّ حافظاً مجوّداً للقرآن الكريم مثله، يعتنق الماركسية ويحسب على الشيوعيين، فقال لي: لا لست ماركسياً، لكني أتعاطف مع الماركسيين ..وصمتُ طويلا.

وسألت مغني (مصر يا أمه يا بهيه .. يا أمّ طرحه وجلابيه / الزمن شاب وانتي شابه .. هو رايح وانتي جايه)

عن سبب خصومته مع الأستاذ “محمد حسنين هيكل ” وهجائه له في وجوده، فقال:

” هيكل طلب أن يسمع هذه الأغاني مني، في جلسة في بيت الكاتب الصحفي محمد سيد أحمد عام 1974، حضرها د. لويس عوض وبعض المثقفين، وأنا اعتذرت عن ذلك لأني مؤمن بأن الضرب في الميت حرام، ولا أحب أن أهاجم الإنسان إلا وهو في ذروة قوته وبأسه، ورفضت أن أجرح إحساسه يومها، وقد أظهر إعجابه بالأغنيات التي أديتها، وقال لي: في الحقيقة الصورة التي نقلت عنك للرئيس عبد الناصر كانت خاطئة، إلا أنني استمريت بعد ذلك في الهجوم عليه من خلال أغنية  (شالو هيكل جابو علوه) وكنت أقصد علي أمين بـ علوه، وأنا عندما غنيت (ياواد يايويو)  لم أقصد بها إنسانا معينا، إنما قصدت شريحة من الناس، إلا أن الأستاذ يوسف إدريس عندما كان يسمع هذه الأغنية ينسحب من الجلسة، لأنه يأخذها على نفسه، وأغنية (حلاوله يا حلاوله) مقصود بها كثير من الناس، وفايز حلاوه أخذها على نفسه، وظل يلعن في خاش أبونا في مجلة أكتوبر، وهذا الهجوم يشرّفني ويعلّي من قدري، فنحن كما ترى نجلس في بيوتنا ولا نذهب ونتلطع على أبواب الإذاعة والتليفزيون كما يفعل الآخرون”.

ثمّ كانت الخصومة والقطيعة بين نجم والشيخ إمام، بعد عودتهما من الرحلة الأوروبية خسارة كبيرة للغناء الثوري، وكان قلبي يتمزّق ألماً من أجل الشيخ إمام الذي عرفته نقياً طيباً ” صاحب صاحبه”، وكنت حزينا بعد موته على أحمد فؤاد نجم، الذي مات صاحبه وهو في حالة قطيعة معه، ومات ثالثهما الفنان التشكيلي “محمد علي ” وحيدا مهموماً، قبل أن يسدل الستار على أروع ظاهرة غنائية ثورية بوفاة أحمد فؤاد نجم. رحم الله الجميع ، بقدر ما أخلصوا في حب مصر.

 

خاصّ – إلّا

 

You may also like