×

في حضرة القهوة..

في حضرة القهوة..

IMG-20250805-WA0039-1020x1024 في حضرة القهوة..
د. تاليا عرواي/ كاتبة لبنانية- واخصائية في الأخلاقيات وناشطة في مجال حقوق الإنسان – بيروت


د. تاليا عراوي – بيروت

في حضرة القهوة، تتحول الحكاية من مجرد مشروب إلى شهادة حية على الصمود وإرادة الحياة. يروي محمود درويش، في مشهد لا يُنسى من حياته في السجن، كيف زارته والدته حاملةً معها القهوة، وكيف “صادر السجان إبريق القهوة وسكبه أمامها… ولا أنسى دموعها”. هذه اللحظة المؤلمة، التي دوّنها على علبة سجائره، ألهمت قصيدته الخالدة “أحن إلى خبز أمي” التي يقول فيها: “أحن إلى خبز أمي.. وقهوة أمي… ولمسة أمي…”. بهذه الكلمات، لم تعد القهوة مجرد سائل يُحتسى، بل أصبحت رمزًا عميقًا للهوية والانتماء، ورابطًا مقدسًا يصله بوطنه المفقود ودفء ذاكرة أمه. إنها تجسيدٌ لمقاومة الشاعر للحصار والغربة، حيث يصبح كل ما يربطه بأمه مقاومةً للفقدان..و من منا لم يشم رائحة قهوة امه مستنشقاً ايها كأنها إكسير الحياة؟
ولم تكن القهوة رمزًا للمقاومة الشخصية فقط، بل كان تاريخها حافلًا بالتمرد الفكري والاجتماعي. بدأت قصة القهوة في اليمن خلال القرن الخامس عشر، حيث استخدمها الصوفيون للبقاء مستيقظين أثناء ليالي الذكر. هذا الارتباط المبكر بالصفاء الروحي مهّد الطريق لمستقبلها كرمز فكري. وسرعان ما انتشرت شعبيتها، مما أثار جدلاً مع ظهور المقاهي كفضاءات اجتماعية جديدة. في مكة، حظرت السلطات القهوة عام 1511 خوفًا من الأحاديث الفتنوية التي تُطلق في هذه التجمعات. لم يكن هذا الخوف فريدًا، ففي إنجلترا خلال القرن السابع عشر، حاول الملك تشارلز الثاني إغلاق المقاهي عام 1675، واصفًا إياها بأنها بؤر للنميمة والفتنة، لكن محاولته باءت بالفشل، مما رسّخ دور المقهى كمساحة للتعبير الحر والمقاومة السياسية.
وفي تطور لاحق، انتقلت القهوة من كونها رمزًا للتمرد السياسي إلى تجسيد للفكر الوجودي. بعد قرون، أصبحت القهوة رمزًا للفكر الوجودي في باريس، إذ جعل الفلاسفة الوجوديون مثل سارتر ودي بوفوار وكامو من المقاهي ورشة عملهم غير الرسمية. بالنسبة لهم، كان المقهى تجسيدًا مادياً لفلسفتهم. ففي جملة غالبًا ما يُعاد صياغتها: “هل أقتل نفسي أم أحتسي فنجان قهوة؟”، استخدم كامو الفعل البسيط المتمثل في شرب القهوة كبادرة هادئة وقوية للتأكيد على الحياة ومباهجها، كشكل من أشكال التمرّد الشخصي على عبثية الكون. لقد أصبح فنجان القهوة الصباحي رمزًا لبداية جديدة، واختيارًا واعيًا لبدء اليوم ومواجهة تحدياته.
ويتردد صدى هذا الرمز في أدبنا العربي، خاصة في سياقات الأزمات والصراع. صوّر غسان كنفاني شخصياته وهي تتشارك القهوة كلحظة تضامن قصيرة لكنها ذات مغزى، كشكل من أشكال المقاومة الجماعية. في كل حرب نُكابِدها، يصبح فنجان القهوة شاهداً على صمودنا وإصرارنا على الحياة. ففي خضم ارتفاع سعره الجنوني، نواصل تخصيص جزء من دخلنا من أجله، وكأنه شريان الحياة الذي يثبت وجودنا ويؤكد أننا ما زلنا هنا. ويتردد صدى كلمات درويش في رواية “ذاكرة النسيان”، التي تؤرّخ لحصار بيروت في أعماق كلٍّ منا: “أريد رائحة القهوة…أريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة، لم يعد لي من مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة، فالقهوة لمن أدمنها مثلي مفتاح النهار.”
في الواقع، القهوة ليست مجرد مشروب، بل هي فعل مقاومة يومي وجوهري. في ظل حصار سعى لمحو الحياة والذاكرة، تحوّلت طقوس تحضير القهوة واحتسائها إلى وسيلة للصمود وتأكيد قوي على الوجود الإنساني. فبينما كانت القذائف تدمر كل شيء، ركّز درويش على التفاصيل الصغيرة للحياة كإعلان عن رفض الاستسلام. إن الإصرار على الحفاظ على روتين يومي بسيط هو شكل من أشكال المقاومة للعبثية والفوضى، وشهادة على أن الحياة لا تزال ممكنة.
ويتعمق هذا الفعل في بعده الجغرافي والإبداعي. وصف درويش لرائحة البنّ بأنها “جغرافيا”، بوابة إلى الذكريات، والوطن، والانتماء. إنها تُذكّر ببيوت الأهل والأحباب، وبأماكن قد تكون دُمّرت. باحتساء القهوة، يُعيد الشاعر التواصل مع هويته وجذوره، مؤكداً أن الحصار قد يدمّر المباني، لكنه لا يستطيع محو الذاكرة و يصبح إعداد القهوة فعلًا إبداعيًا يوازي الكتابة، فكما يُشكّل الشاعر قصيدته من الكلمات، يُشكّل فنجان قهوته من الماء والبن. هذا التركيز على صناعة الجمال من الأشياء البسيطة هو رفض مباشر لقبح الحرب.
وكما في فلسطين، وجدت القهوة في لبنان أيضًا رمزًا قويًا للصمود في زمن الحروب إذ أصبح فنجان القهوة وسيلة للحفاظ على الحياة الطبيعية، و طقسًا عميقًا للصمود، وحجر الزاوية في الحياة الاجتماعية وسط الفوضى وكانت عملية تحضير القهوة البطيئة والمقصودة، غالبًا على موقد غاز صغير خلال انقطاع الكهرباء، لحظة من الهدوء والاستمرارية , فكانت القهوة وسيلة للحفاظ على النسيج الاجتماعي والروابط الإنسانية. كانت المقاهي والتجمعات العائلية في المنازل حاسمة للحفاظ على الروابط الاجتماعية. حتى عندما كان تأمين وجبة كاملة أمرًا صعبًا، كان تشارُك فنجان قهوة مع العائلة والجيران عادة متجذرة قدمت شعورًا بالمجتمع والتضامن. كان تقديم القهوة للضيف، حتى مع الموارد المحدودة، تعبيرًا قويًا عن الضيافة وإعادة تأكيد للروابط الاجتماعية التي حاولت الحرب كسرها. علاوة على ذلك، كانت القهوة أداة للتواصل وحتى المقاومة. فبالنسبة للصحافيين والمثقفين، كانت المقاهي مكاتب غير رسمية وأماكن اجتماعات حيث يمكنهم مناقشة الأحداث وتنظيم الجهود بعيدًا عن أعين الميليشيات.
وفي خضم هذا كله، يقف المعنى الفلسفي للقهوة في تناقض حاد مع ثقافة العصر الحديث المتمثلة في السرعة و ثقافة القهوة السريعة أو تيك أواي. هذا الاتجاه الذي تُغذّيه الرأسمالية وتركيزها على السرعة، يُحاكي الأنظمة القمعية التي تُقدّر الأفراد كتروس في آلة. هذا هو جوهر ما وصفه ميلان كونديرا في “البطء”، عندما لاحظ أن “درجة السرعة تتناسب طرديًا مع كثافة النسيان”. إن العالم المهووس بالسرعة لا يترك مجالًا للهدوء المطلوب للتأمل أو التذكّر، مما يُبيد قدسية اللحظة.
وختامًا، تظل القهوة رمزًا للتمرد والبطء في عالم يسوده السرعة. القهوة شهادة على كيف يمكن لمشروب بسيط أن يغذي ليس فقط الجسد، بل العقل والروح أيضًا، ويُصبح رمزًا قويًا للتمرد وبداية يوم جديد. في عالمنا المليء بالوجبات السريعة والتواصل السريع، يكمن التمرد الحقيقي في احتضان البطء (la lenteur) – أي الفعل البطيء والمقصود لتحضير، وشمّ، وتذوّق فنجان قهوة جيد. فكما قال درويش: ” القهوة لا تُشرب على عجل، القهوة أخت الوقت تُحْتَسى على مهل”. ودون هذا التأمل في الذكريات، فإننا نخاطر بالذوبان في دائرة السرعة المفرغة والموت المفاجئ، مع سكون أجوف فيما بينهما.

خاص – إلّا

Share this content:

مجلّة - إلّا - الألكترونية/ مجلة هادفة ذات مستوى ومحتوى سواء بما يساهم به أقلام الكتاب العرب المعروفه والمنتشرة بأهم المنابر العربية، أو بما يتمّ اختياره أحياناً من الصحف الزميلة بتدقيق وعناية فائقة، وحرصاً من مجلّة - إلّا - بإسهام المزيد من الأقلام الواعدة يُرجى مراسلتها على البريد الألكتروني / ghada2samman@gmail.com

إرسال التعليق