Home إلّا في مثل هذا اليوم من غير يوم

في مثل هذا اليوم من غير يوم

by رئيس التحرير

غادا فؤاد السمّان / شاعرة وكاتبة سورية – بيروت


13/7/2006 تاريخ الله لا يرده
عشته لحظة بلحظة وغارة بغارة ورعب برعب رفضت ان أخرج من بيروت التي عشتها بسرائي لم يكن من النبل أن أهجرها بضرّائها، كتبت في حينه مقالات عدة نشرت في جريدة الوطن اللبنانية وجريدة إيلاف الالكترونية وجريدة الزمان اللندنية وغيرهم وقتها فلحت بأمر واحد فقط، أن أزرع مفهوم الشهادة في رأس ابني “جهار” ابن الثمان سنوات، وزيّنت له الرعب بمشاهد خلابة من الفردوس الموعود، واكثر ما آلمني حين كانت تحلق الMK الاسرائيلية وتضرب بكل رعونه وصفاقه وخسٍّه وأشاهد القصف الذي كان يهطل على الضاحية الجنوبية من شرفة منزلي عندما صرخ ابني وهو بحالة ذعر وقد سقط على الارض من هول الصدمات الكثيفة قائلا ماما “ماعاد فيي اوقف ” حاولت وانا أتمزق ان اوحي بالثقة وأن أدّعي الروح الرياضية بالقول: “والاو ع علمي بتحب الفرقيع.. “، وحاولت انهاضه ولكنه وقع ثانية وثالثة وعاشرة وكل محاولاتي باءت بالفشل، وتضاعف خوفي ليس من هول القصف بل ان يكون ابني أصيب لا قدر الله بالشلل، وقتها الطرقات مقطوعة وأعصابي متلفة لا استطيع تحريك سيارتي، وقتها ظهرت بكل أنحاء جسدي لطع حمراء نافرة اي لمسة لها تنفر منها الدماء وتمكنت بمساعدة جارتي من نقل ابني الى أقرب مشفى و تم تشخيص حالته ارتخاء أعصاب، وحالتي على انها فورة كبد لا يمكن حلها بغير الكورتيزون بدوز عالي لأن هجمة الكبد كانت خطيرة جدا فتقرر برنامج حقن يومي بمعدل 4 جرعات من الكورتيزون لمدة 7 ايام كما ذكر لي الطبيب وقتها بتهد جمل كل ابرة على حده منها فكيف ب 4 إبر يوميا واعتذر بشدة لانها الحل الوحيد، وابني بقي في المشفى لثلاثة ايام كان يتلقى فيها العلاج النفسي والجسدي المكثف وبفضل الله عاد ليمشي ربما إكراما لدموعي التي لم تجف طيلة الايام الثلاثة، وكان الإجماع من أجل جهار ومن أجلي ضرورة الخروج من بيروت بأي طريقة، وقد مضى على الحرب 6 ايام خرج فيها قرابة ربع مليون لبناني الى دمشق وكان ابني الاكبر يواصل الاتصال وهو يبكي على الهاتف بشكل غاضب وهستيري ويقول امي كل لبنان صار بدمشق انت ماذا تفعلين وحدك في بيروت، أجيبه بكلمة واحدة ماما الحياة مبدأ والمبدأ موقف والموقف قرار وأنا اتخذته وانتهى النقاش بيروت احتضنتني منذ 13 عام لن أهجرها في محنتها فهذا عار لن أترك له أي سبيل لذاكرتي، في اليوم السابع والحرب بدأت تشتد وتستعر ولم يبق في المبنى سواي بعدما تقرر ضرب جسر سليم سلام ولم اكن اعلم بالأمر كوني لم استلم المنشور المرمي على البلكون والذي يحذر اهالي المنطقة من البقاء في منازلهم بعدما حدد السادسة توقيت القصف كانت وقتها الساعة السادسة الا ربع فتحت النوافذ بجميع الاتجاهات والطيران الاسرائيلي يحلق كجوقة من الذئاب وجدت الحي كاملا بلا حسّ او أنس اتصلت بصديقتي حسانه وسألتها برأيك لماذا المنطقة كلها وبنايتي برمتها لم يعد فيها أحد سألتني أين انت اخبرتها انني في منزلي صرخت بي غادا اركضي تعي متل ما انت مع جهار بدون ماتغيروا ولا تعملوا شي معك 13 دقيقه لتجي لعندي الطيران حيقصف ع الساعة 6 تعالي ركض بسرعه بسرعه خرجت من المنزل بدون اوراق وبدون نقود وبدون أي شي فقط سحبت ابني من يده وحملته نصف الدرج وركضت لايجاد وسيلة نقل الجسر كان خاويا تماما سيارة واحدة فقط كانت تقطع بسرعة الصاروخ اوقفتها بحركة هستيرية حين اعترضت طريقها جن السائق وصرخ ماذا تفعلين هنا يا مجنونه بقي 7 دقائق على موعد الضربة للجسر اخبرته لا استطيع اخرج سيارتي احدهم اغلق عليها الطريق وهرب الى الجبل وعليه ان يقلني عند صديقتي بمار الياس كان شهما جدا ومذعورا جدا قال اطلعي بسرعه لم ينتظر حتى اغلق الباب وكدت اهوي واستدركت واخذت موقعي وكل ذلك وطفلي بحالة ذهول ورعب وقلق واضطراب وانا مثله تبين اثناء الطريق ان السائق صحافي منتدب لقناة الجزيرة مر فقط ليرصد حركة المنطقة المعلن عن ضربها وبفضل الله كانت اللحظة الحاسمه مروره بالتزامن مع محاولة خروجي من المنطقة، وصلت في غضون ربع ساعة عند صديقتي حسانه، واستقبلتني استقبال الناجي من مجزرة مروّعة وجلسنا بحالة ترقب من أين سنسمع الصوت وأية شاشة ستنقل صور المأساة تبين فيما بعد التقاط انفاسي ان الحذاء في قدمي كل فرده شكل مضت الساعة السادسة والسابعة والتاسعة وتبين ان إسرائيل أكثر ذعرا منا نحن فهي لم تجرؤ على قصف بيروت بفضل الله، في اليوم الثاني وبعد جهد جهيد استطعت النوم صباح ذاك اليوم بعد ليلة صاخبة بالتحليق والقصف والغارات، صحوت ظهرا ولم اجد صديقتي في المنزل ذهبت لاستكمال اوراق السفر الذي تقرر في اليوم التالي اذ ان أعصابها لم تعد تحتمل عندما علمت بقرار سفرها شعرت بغربتي التامة في بيروت وقررت السفر الى دمشق في اليوم العاشر للحرب وقتها أصبح الخروج برا من بيروت ضرب من ضروب الجنون ولم يعد ثمة سائق يقبل المغامرة بالسفر بعد قصف الجسر الدولي المحلق وتدميره بالكامل ناهيك عن استهداف اي حركة على طريق الشام بحجة ان اية سيارة هي ناقلة اسلحة من دمشق وصلت قيمة الطلب بين بيروت ودمشق ل3000$ ولم يكن امامي سوى قبول الامر الواقع، ومتابعة تفاصيل الحرب البشعة على لبنان، وقتها تبرع احد تجار المنطقة بفتح المستودع وهو بعمق 3 طوابق تحت الأرض، ونزلت الملجأ مع جهار وكنا قرابة 20 او 25 شخص توزعنا على مساحة واسعة لا تقل عن 300 متر كان المستودع مهمل جدا والحمام بحالة يرثى لها، وبدأ الجميع يتذمر، وبدل التذمر طالبت الجميع بتوضيب المكان ليكون افضل كل واحدة تنصلت من مسؤوليتها جمعت 4 صبايا وشبين واخبرتهم انه بوسعنا تنظيف المكان لأجلنا واننا في اليوم الثاني سنشتري كل المنطفات اللازمة وسطلين دهان لطرش الجدران والعديد من عبوات الفلاش لاعادة اللون لبورسلين الحمام الذي اختفى منه البياض تماما وحل محله السواد المقزز، وقتها جارتي أم طارق اعترضت وقالت الدنيا حرب وهذه المصاريف انت وابنك أحق بها حرام عليك، قلت لها لا نعلم كم سنبقى هنا وبالكاد نطلع لمنازلنا ومعظم الوقت نحن والجرذان والاوساخ هنا، بدل ان تسمي ما أفعله بالحرام اعتبريه حلالا يليق بنا وبإقامتنا في هذا المكان ورد جميل لصاحبه لأنه ببساطه كان بوسعه ان يبقيه مغلقا الى ماشاء الله، الشباب والصبايا وانا بمقدمة الورشة نسينا امر الحرب ورتبنا الملجأ على اكمل وجه، تغيرت جميع ملامحه بقليل من الجهد وكثير من الثقة بضرورة ما افعل، امضينا 23 يوم لم نعد نسمع متى تضرب الMk ولا متى تحلق واصبحت اشبه بزعيمة الملجأ أفصح بنظريات واتشدق بمواعظ والكل متحلق حولي ومسلم زمامه لرؤيتي وقناعاتي في تلك المرحلة كان الليل طويلا حينها وكان لابد من اطلاق العنان للمحاضرات الهادفة ولم أعلم انني على هذا القدر من الخطابية إلا في حينه، في الليل لم اكن أستطع النوم كان ثمة جرذ يتجوّل بحرية في الممرات الموازية كالطيران الاسرائيلي واكاد أرصد حركته بالكامل ناهيك عن الشخير المتصاعد من جميع الزوايا، في النهار كانت إسرائيل تعطي مدة ساعتين او ثلاث لنمارس بعض الامور الحياتية على عجل فكنت انتهز الفرصة للنوم في منزلي انا وصغيري وضبط المنبه حتى لا نصحو على ذعر القصف، في اليوم 33 للحرب اعلن وقف اطلاق النار وانتهاء الحرب رايت بعض اللقاءات من الضاحية الجنوبية لبيروت ومقدار القصف والدمار الرهيب واذا بهم يسلطون الكاميرا على منطقة اعرفها تماما وقد زرتها لاكثر من شهر عندما كان يتم التحضير لإصدار كتابي “اسرائيليات بأقلام عربية ” في دار الهادي تركت التلفاز يتابع التقرير وخرجت من المنزل كالمجنونة واخذت تاكسي عاجل الى الضاحية بالمبلغ الذي يشاءه السائق المهم أريد الاطمئنان على دار الهادي، حين وصلت هناك لم يكن متبقى من المبنى المؤلف من 12 طابق سوى جدار واحد من القبو الارضي كتبت عليه بخط رقعي كبير سورة الكرسي وقتها بكيت وبكيت بشدة وكل عابر او عابرة سبيل تهدأ من روعي وتقول لي بملء الفم بكرا السيد بعوضك ما تزعلي لا أعلم كم نسخة احترقت من كتابي وقتها من مستودع عامر بالكتب والعناوين تزيد عن 750 عنوان اتصلت بنائب رئيس مجلس ادارة الدار واذا به يحضر على الفور وبدأ يواسيني وكلي ثقة انني مكلومة مثلهم تماما فكتابي كان منه آلاف النسخ التي لا نعلم ماذا صمد منها تحت الانقاض وماذا احترق او إهترأ تحت الردم.. عدت لمنزلي وضبت حقيبتي ووقتها شعرت انني بوسعي مغادرة بيروت بعدما اطمأنيت انها عادت الى سلامها وهدوئها وأمانها… وفور وصولي دمشق استضافني التلفزيون السوري في ندوة خاصة عن يوميات حرب تموز وعن معاناتي في الحرب وقتها كانت الاعلامية “ناهد عرقسوسي” تؤكد لي انهم في سوريا عاشوا الحرب معنا بكامل تفاصيلها وقلقها، ولكني أخبرتها ان متابعة الحرب في الواقع تختلف تمام الاختلاف عن الحرب على الشاشة التي يمكن اخمادها بالريموت كونترول، بينما الحرب بالواقع تتحكم هي بمصيرنا وبأنفاسنا بالريموت كونترول، كان من الصعب ان يفهم احد من الناس عندما كنت أحدثهم عن الحرب وفظاعتها معنى الحرب، وقتها كانت سوريا اكثر بلد آمن في القارات ال خمس… لعن الله الحرب اينما كانت وحفظ الله بلادنا من ذكرها وذكراها ولا اعادها الله على احد.

المصدر : facebook

You may also like