Home لـوثـة إلّاأدب لبنان كما عرفته ( ٧ )

لبنان كما عرفته ( ٧ )

by رئيس التحرير

شوقي بغدادي / شاعر وكاتب سوري – دمشق

في هذه المرة كان المكان الذي دُعيتُ إليه كشاعر، مكاناً بعيداً خارقاً لتوقعاتي، مكاناً دراميّاً إذا صحّ التعبر.. إذ كان يقعُ على الحدود اللبنانيّة الإسرائيليّة الجنوبيّة في بلدةِ “بنتِ جبيل “، على ما أذكر ومن قِبَل رئيس البلدية فيها ولمناسبة دينيّة تشبه مناسبة النبطيّة، وكانت بنت جبيل قد سمعت بحفلة النبطيّة، وأرادت أن تستضيف الشاعر نفسه الذي نشّط الجوّ هناك، كي يلقي القصيدة نفسها ذات العنوان المثير للذكرى التاريخيّة الدينيّة عن الإمام “عليّ بن أبي طالب ” رضي الله عنه.

صاحب الخطبة الشقشقيّة الشهيرة التي قالها تعليقاً على تأخّر الصحابة في اختياره خليفةّ أو أميراً للمؤمنين المسلمين.. وبهذه المناسبة أعترف أنّني من المعجبين جدّاً بشخصيّة هذا الفتى الاسطوري، الذي كان أول فتى في مقتبل العمر يؤمن بالدعوة الإسلامية، ويعرّض نفسه لخطر الموت حين رقد في فراش ابن عمّه “محمد بن عبد الله “، صلوات الله عليه.. حامل الرسالة، والداعي إلى الأسلام حين هاجر قريبه، والنبي الذي يؤمن به ليلا مع رفيقه أبي بكر إلى يثرب أو المدينة بعد الأخطار التي هدّدت الداعية إلى الإسلام…

هكذا انتظرت السيّارة الخاصّة التي قيل لي أنها قادمة إلى قرب داري في دمشق.. وبالفعل وصلت سيارة مرسيدس بيضاء اللون قديمة بعض الشيء وليس فيها سوى سائقها.. الذي مضى بي سريعاً وأنا وحدي، فاجتزنا الطريق الجبلي المعروف، وفي الذروة منه، انحرف السائق إلى اليسار في إتجاهٍ لا أعرفه، وسألته عنه.. فقال: أنه الطريق الخاصّ بالمنطقة الجنوبيّة الشرقيّة، عبر السهول الخضراء الرائعة، والقرى الجميلة، التي لا أعرفها، إلى أن وصلنا إلى بلدةٍ قريبةٍ من الحدود، لم أعد أذكر اسمها، وهناك توقّفنا ونزلنا، وطلب مني السائق أن احتفظ بحقيبتي معي، وصعد بي درجاً في بنايةٍ قريبةٍ، إلى أحد الطوابق، ودخلنا إلى منزل بدا لي كمكتب للعمل والإقامة، وفيها موظفون ثمّ إلى غرفة فيها طاولة عريضة وراءها رجل جالس نهض لاستقبالي ودعاني للاستراحة مؤقتاً، بانتظار سيارة أخرى ستصل قريباً هي التي سأتابع فيها سفري إلى مدينة بنت جبيل ..

قدّموا لي القهوة، ومن خلال ملاحظتي للأعلام المنتشرة في داخل البناء، وعلى طاولة المكتب، عرفتُ أنّ المكان تابع ل”حزب الله “، وأنّ السيارة التي جئت بها تابعة للحزب المذكور، الذي تطوّع للمساعدة في استحضاري من دمشق إلى تلك البلدة القريبة من بنت جبيل على الحدود..

وبعد نصف ساعة تقريبا وصلت السيارة التي سأتابع فبها سفري فودّعت الموجودين، وكان الجالس خلف المكتب لطيفا جداً، حين نهض من مكانه، وودّعني إلى خارج الغرفة، وسلّمني لسائق السيارة التي وصلتْ، وهكذا تابعتُ سفرتي التي لم تكن طويلة نسبيّاً، ودخلنا بلدة كبيرة، كما بدا لي، وأمام إحدى البنايات توقّفنا، وعلى الفور لاحظتُ شخصين يهرعان لاستقبالي، كان رئيس البلدية واحدا منهما واذكر اسمه “رياض شرارة “…. وأرجو ألا أكون مخطئاً في تذكّر اسمه بعد هذه السنين.. لأنه كان خير مضيف لي في هذه الرحلة…

ما إن جلسنا حتى شرعوا يسألونني باهتمام شديد عن رحلتي، متمنين بلهفةٍ ألا تكون مُتعِبَة، وتشعّبَ الحديث في موضوعات متعدّدة، وطالت الجلسة إلى ما يقارب الساعتين، لأننا وصلنا مبكرين، وعند الظهر تحرّكوا، وطَلَبَ مني رئيس البلدية أن أترك حقيبة ملابسي في مكتبه، لأننا سنذهب إلى المطعم، لتناول وجبة الغذاء، ثم نعود إلى هنا.. كان المطعم كما بدا لي يقع في مكان مرتفع إذ راحت السيارة تصعد بنا إلى أن وصلنا إلى بناء واسع الأرجاء وحديث الطراز ..

كنّا أربعة أشخاص على ما أذكر.. وما كدنا نجلس حتى اقترح عليّ رئيس البلدية أن أنهض معه إلى جولة استطلاع للمكان الواقع على الحدود مباشرة مع إسرائيل..

قال ذلك ثمّ أضاف: ما زال هناك وقت للغداء .. تعال معي كي أُريك منظراً لن تنساه طوال حياتك…. وخرجنا وحدنا إلى طريق صاعد يؤدّي إلى هضبةٍ قريبةٍ، وما كدنا نصل حتى رأيت منظراً لن أنساه ما حييت فعلاً ….

إلى اليسار رأيت مجموعة من الأبنية الحديثة بقرميدها الأحمر، والشوارع المعبّدة السوداء تتخلّلها، ولمحتُ مجموعة بشريّة من رجلٍ زنجيّ، بثيابٍ حديثةٍ مع زوجته الزنجيّة مثله، وكل منهما يقود بيده طفلاً في الرابعة أو الخامسة من عمره، وأطفال أكبر سناً، وكلهم بثيابٍ جديدةٍ كما يبدو، وهم يسيرون في اتّجاه مكان أبعد، وكأنّهم يتنزّهون في أحد أحياء قرية حديثة، محاط بالأشجار الخضراء، ومروج العشب، وحقول نباتات خضراء تشبه حقول الذرة، وعبّاد الشمس وكلها نباتات ذات خضرة نضرة وعاليّة القامة ..

وكان هناك حاجز سميك عالٍ من الأسلاك الشائكة، يفصل هذا المنظر عن الجانب الأيمن من الأرض، وليس فيه سوى الأعشاب اليابسة والحفر الترابية.. ولا شيء سوى هذا المنظر المهمل البائس من الأرض.. قال لي السيد شرارة رئيس البلدية : ما رأيك بهذا المنظر؟..

قلت له: منظر عجيب .. فقال : معك حق.. منظر عجيب.. فيا سيدي المنظر الذي إلى يسارك هو حيث تتموضع إسرائيل في أحد مستوطناتها الحديثة لليهود من أصول إفريقيّة سوداء البشرة… أمّا المنظر الذي إلى يمينك هو لأرض لبنانيّة…. وأصحاب الأرض قد هجروا أرضهم، وأهملوها، خوفاً من عدوان إسرائيلي متكرّر، أو حرب تنشب فجأة بين العرب وإسرائيل..

قلت له: ولكن الأرض التابعة لإسرائيل غير مُهمَلِة، ولم يهجرها سكانها ويبدو عليهم مشاعر الإستقرار والطمأنينة، فقال على الفور : هكذا يا صاحبي حياتنا .. نهمل أرضنا لأننا مهددين على الدوام.. والإسرائيليون مستعدون للحرب ولا يعبؤون بما يسببونه للأهالي هنا من مشاعر الخوف والهلع للأطفال والمسنين.

هم يشعرون بالإطمئنان لأننا لا نفتري عليهم ولا نتسبب في زعزعة أمنهم مع أنهم مغتصبون لأرض لا تخصّهم … ثمَ حسم قائلاً: تعال معي الآن كي نعود.. لقد جعتَ حتماً وأنا أيضاً جعت، هيا بنا نتغدا سوا… لعلّك تكتبُ قصيدةً ذات يوم عن هذا المشهد…..

عدنا للمطعم صامتين… صارت الحفلة مساء في صالة حافلة بالحضور.. وألقيت قصيدتي نفسها التي ألقيتها في النبطيّة، ولكن بروح هشّةٍ حزينةٍ مختلفةٍ تماما عن مناخ النبطيّة… فما جدوى كل هذا الشعر أو النثر بعد هذا المنظر الذي رأيته على الحدود مع إسرائيل. وكلي أسف وحسرة وغصّة رافقتني حتى هذا اليوم، الذي لا تزال فيه إسرائيل تتمادى وتتمدّد..!

 

خاصّ – إلّا –

You may also like