Home إلّا نخب الغياب..

نخب الغياب..

by رئيس التحرير

 

غادا فؤاد السمّان/ شاعرة وكاتبة دمشقية – بيروت

لا أخفي أني قد استسلمتُ لفعل الصاعقة التي شقّت طريقها ذاك الصباح عبر الهاتف ومزّقتْني، لتبشّرني بالنكبة المتجدّدة كالعادة بكل منعطف، الرسالة المقتضبة كانت من الزميل “فادي “.. الأستاذ … يعتذر عن المتابعة معك، فالأمور المالية في الجريدة لا تُطمئن، صحوتُ على وقع صوته “المُبْرِح ” رغماً عني، صحوت بتحفّظٍ كبير وصمتٍ أكبر، إذ أني لا أحبّ الجدل في هذه الأمور وفي العادة أكتفي بالقول: “شكراً “، وشكراً هذه المرّة تختلف عن مراتٍ كثيرةٍ كنت أقولها لأحدٍ من باب التبجّح واللؤم، بل قلتها في تلكَ اللحظة وأنا بكامل الوعي والشعور والإحساس، قلتها من باب “الإمتنان ” تحديداً، لصحيفة فتحت لي أبوابها كغرفة إنعاش، في زمن القتل، وزمن الحقد، وزمن التشفّي، وزمن السعادة لشقاء الآخر، زمن التشرّد والتشتّت وموت الأشقّاء، زمن الضياع والإنصياع والتبعيّة ودمار الجوار، زمن الرداءة والبذاءة وتحطّم المبادىء، زمن القيامة والخراب واقتلاع القِيَم، زمن الشحوب والنضوب وتلاشي الأخلاق، زمن الغدر وتدمير المعايير، زمن الفساد وانهيار الأسس، زمن العهر وانقلاب الأصول رأساً على عَقِبْ.

شكراً إذاً هذه المرّة أعنيها، بكامل بقاياي، وبكل ما تيسّر لي من أنفاس ألملمها من صميم الإحتضار..

شكراً هذه المرّة كانت عزائي وعكازي، استندتُ إليها أنا.. وجميع الجُمَل المُتظاهرة في أعماقي، والمُعتصمة في لُدن البال، وهي تنتظر اللحظة الحاسمة ليكتمل نِصابها فوق السطر كما فعلت هذا الصباح، لتتقدّم منك أنت وحدك، وتدلو بدلوها لكَ وحدك، وتخاطبك بدون مقدمات لتتوجّه إليك وحدك ..

فأنت الفارس سليل الجرأة، أصيل الروح، نبيل الطباع، ذكيّ السلوك، عفويّ المشاعر، طيّب النَفْس، كريم الخصال، كريم المزايا، كريم اليد، كريم الإحساس، كريم الإعتزاز، والإعتداد، والأنا، والإنسانية، والمزاج البهيّ.. الناصع.. الجميل.

كم أرثي الأبجدية التي تتعرّى كشجرة خريفيّة في يوم عاصف ماطر كهذا الصباح، وسط صحراء عربيّة قاحلة، رحل منها الكبار، مع الذين أسّسوا لجدرانٍ شاهقةٍ تستند إليها الأجيال القادمة، وتنهار تباعاً كأحجار الدومينو، وأنا مهما صمدتُ في وجه المكائد، والحسد، وضيق العين، والضغائن، والغلّ، فلم يعد يستوقفني شيء، ولم أعد أكترث لأيّة تفاصيل.. لكنّ السؤال العالق داخل حلقي لايزال يؤلمني حتى اللحظة كسنارة صيد.. “إنو لماذا “؟!

لماذا.. وأنا الفارسة التي راهنتْ الجميع، وتحدّتْ الجميع، وعارضتْ الجميع، ودحضتْ مزاعم الجميع، وتعلم تمام العلم في غيابك المتواصل، كيف يتبجّح الجميع، حتى الأكثر قرباً منك، ما إن يصير على مسافة منك، كيف يتحوّل إلى متشدّق من الطراز النمّام بامتياز، وكم راقني دور الرادعة، الذي نصّبتُ نفسي به للقاصي قبل الداني، وأنتَ سيرة مفتوحة في كلّ مفترق ومنعطف وملتقى، وأنت قضية قيد التداول المستمرّ والمتواصل والملحّ..

فلماذا.. كسرتَ القاعدة، الفرسان لا يتخلّون عن بعضهم البعض، بل يدّخرون إخلاص المخلصين لأوقات الضرورة، وما أكثر الضرر في أيامنا هذه وما أحوجنا للضرورات لدرئه، كنت أجتهد ليس بالكلمة المنشورة فقط، لأجعل الصحيفة، صرحاً شاهقاً، منيعاً، ومحجّاً لكل عابر أثرٍ وأثير، كان النصّ مدماكي المفتوح على مرامي النظر البعيدة جداً، حيث كنتُ لا أزال أوضّبه بتأنٍّ وحذر شديدين لثقتي بالوقت المتاح المديد لسنوات قد لا يجدها عمري..!!

كم كان يطيب الحوار مع الكبار عن الديار وعنك، كم اعتدتُ وبزمنٍ قياسي قصير نسبياً أن أتلقَ الهاتف إثر الهاتف من كثر، لأسمع تحيّة على موقفٍ معلنٍ، أو فكرةٍ طارئةٍ بمقدمهم كبير الفكر، وعظيم الثقافة، وجميل الروح الإنسان الإنسان الأكبر من جميع الألقاب “جان عبيد “، أجمل من تحدّث عنك، أجمل من ناقش لأجلك حين جمعتني به الديار أوّل مرّة في مكتبه، أروع من أشاد بشخصيتك ونوّه عن خصالها المميّزة، وتوالت اللقاءات على شرف ما أنشره في الديار حصرياً، لم أعترض، ولم أدافع عن منبري الخاصّ – إلّا – أو عن بقيّة العناوين والمنابر التي تواجدت بها زمناً طويلاً، بل راقني أنّ الديار أعطتني هذا الكمّ من الإهتمام، والإكتراث، والتواصل، والحوار مع رجل الحوار، كم حقيقي هو، وكم هو مبدئي، ولمّاح، ومسؤول، وملتزم، وواعي، وكثيف، ومتواضع، وراقي هذا “الرئيس ” المؤجّل، والذي يطمح به لبنان بعمومه وخاصيّته “جان عبيد”، وكم معرفته والعلاقة به هي مربض لطموح الكثيرين، ومرتجى لأكثر مما كنتُ أتصوّر، وقد تهافتَت عليّ الاستفسارات من كلّ حدبٍ وصوب، حين نشرت في الديار “جان عبيد.. متى نراك في المكان المناسب “، لم أكن أعلم أن هذا المقال سيمنحني مفتاح القلوب كافّة، التي ناشدتني السلام والكلام والحصول على شرف التواصل مع معالي الاستاذ عبيد، وحرصت على أمانة التكليف، لكنّ غيابي عن الديار كان السبّاق لالتفاتته الكريمة، وسؤاله النبيل.. أينك في الديار، ما سرّ الغياب عن صفحاتها؟؟!

لم أترك أيّ مبرر على مسمعه الكريم، وتجاهلت عمداً ما أعلم وأدّعيت عدم المعرفة، فلا أصدّق أنّ ميزانية الديار “تغصّ ” براتبي شخصياً، وفيها الكثير من العاملين الذين حفظت كرامتهم في مجتمع عربي عام عاطل عن الكرامة، وكما أخبرت مدير التحرير السيد “ديب ” أنني على استعداد لتحمّل الأزمة الماليّة والكتابة “دون مقابل ” ريثما تمرّ الأزمة بسلام، لكنّه لم يلتزم الرد حتى اللحظة، كما وعد في حينه بأن يناقش الأمر مع صاحب الأمر وليس سواك طبعاً.

بجميع الأحوال.. لم أكتب هنا ما كتبتُ عتباً أو غضباً لا قدّر الله، بل أكتب ودّاً وصدقاً واحتراماً لن يخبُ ولن يفتر ولن يغيب، لإنسان مثلك يقارع طواحين الهواء، و طواويس المرحلة السابقة والراهنة واللاحقة، وسيظلّ شامخاً مهما تكالبت عليه الصعاب والقنافذ، وسيظل راسخاً بقلمه وكلامه ودوره ودياره إلى آخر الزمان، وسيظلّ امتناني له عمّا مضى وعما سلف، بكل ما أوتيت من لغةٍ لترسيخ اللهفة، وتوطيد الموقف قائماً إلى يوم الدين.

 

خاصّ – إلّا –

 

 

 

You may also like