Home لـوثـة إلّاأدب قِيامُ الكلمة في مَقامها

قِيامُ الكلمة في مَقامها

by رئيس التحرير

 

د. عبد الله السمطي / شاعر وناقد مصري – المملكة العربية السعودية

الكلماتُ في الشعر، غيرها في أيّ فن آخر. في الشعر الكلمة طاقة مشعّة لها حضورها المستقل أولا ككينونة لفظية دلالية، وثانيا ككينونة إيقاعية بحروفها وصوتياتها وفونيماتها ومقاطعها، وثالثا ككينونة دالة على معنى ما سواء كان معناها الحقيقي أم معناها المجازي أو الاستعاري أو الرمزي أو الإشاري. الكلمة كذلك من وجهة تشكيلية بصرية بمثابة الأيقونة التي يوزعها الشاعر في قصيدته ويتأمل بها العالم.

.. والكلمات في الشعر كذلك، تتغير وتنحرف عبر سياقاتها المختلفة. وتتجدد وتحيا خاصة حين يُمِيتُ الشاعر معانيها الأولى. هذه المعاني الأولى لا تموت وإنما تتماوتُ، وتظلّ في الخلفية الإدراكية القارئة. الكلمات تتولد وتنبثق عبر سياقاتها الجديدة. والكلمة تولد من جديد في كل سياق جديد. تتغير بالمعنى الذي يطرحه السياق نفسه، والشاعر المبدع مولّد كلمات فضلا عن كونه مولّد سياقات.

… والكلماتُ في الشعر لا تأتي عبثًا. ولا تحومُ حول ذهنية الشاعر بشكل مسبق، لكنها تباغته، ويباغتها ، وهو يحتشد انفعاليا وتخييليا لكتابة قصيدته. لهذا فإن الكلمات ليست مقصودة لذاتها تماما في الشعر، عكس القصة أو الرواية أو المسرحية التي تعنى بالكلمات بوصفها لغة توصيلية، وإذا قام الروائي مثلا بتشفير بعض الكلمات أو ترميزها فهذا يأتي من قبيل توشية الرواية وتوشيحها ببعض الرمزيات، لكن القصد السردي في التحليل الأخير هو قصد توصيلي للحكاية والشخوص والأحداث. في الشعر لا. كل كلمة لها طاقتها المشعة ولها دلالاتها لأن الشعر هو عمل مجازي تخييلي تصويري رمزي إشاري توصيلي في الوقت نفسه.

ومن هنا كان البلاغيون قديما يركزون على الكلمة لفظا أم معنى، وهناك من يحرص على اللفظ وجودته وسَبْكِه وملاحته وحسنه، ويأنف من إيراد الحوشي والمهجر، ويأنف من ورود المعاظلة، وهناك من يفتح الأبواب بطلاقة لكل الكلمات بحسب ما يجيش به المعنى وما تنسرب عبره الدلالات.

… والكلماتُ في الشعر هي كلمات مصطفاة بعناية ودقة. لأن الشاعر المبدع يحرص بدأب شديد على أن تكون الكلمة بمثابة قصيدة مركزة جدا، داخل الجملة الشعرية من جهة، وداخل السياق من جهة ثانية، وداخل القصيدة من جهة ثالثة.

الكلماتُ في القصيدة يتم انتقاؤها لأن الشاعر لا يستجيب لكل ما يرد على ذهنه، أو مخيلته من كلمات، هو يقوم بعملية فلترة دائمة بقصد أو من دون قصد، والشاعر الخبير يفلتر الكلمات في ذهنه، ووعيه قبل أن تكتب، وهي عملية تتم بشكل تلقائي طبيعي عند الشعراء الخلاقين.

حين يقول الشاعر محمود درويش:

صورة ذات صلة

الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش

” رائحة البن جغرافيا ”

يركب جملة من المعاني في وقت معا. لقد استدعى من البن رائحته فقط، لم يستدع عناصره كلها، طعمه، لونه، مسحوقه، شكله، صناعته، طحنه، زراعته، اختار من البن الرائحة، وهي رائحة مميزة بالتأكيد لمن يدمنون القهوة، ويعرفون ويشتهون رائحتها، وقد غير المعاني القريبة كلها حين وضع كلمة” رائحة ” في سياق مغاير تماما، فهو لم يقل: رائحة البن جميلة، أو رائحة البن مشتهاة. لكنه حولها من صيغتها الحسية الشمية، إلى صيغة زمكانية : جغرافيا . كأنه يستعيد أرضه ووطنه عبر الحنين إلى الرائحة.

اقتران الرائحة ، رائحة البن بالجغرافيا عند محمود درويش هو اقتران شعري فاتن، هو أولا: اقتران بين الصغير الحسي غير المقبوض عليه، والكبير البعيد النائي المحتل: الأرض الفلسطينية. وهو اقتران في المطلق بين الرائحة والجغرافيا، وهو ربما يكون كذلك صناعة جغرافيا مصغرة مكثفة للرائحة. كأنها تحيط بالحواس من كل جانب . وتعمل الكلمات في هذا الاقتران المفاجئ بكامل طاقتها. لأن الكلمات في السياقات الصادمة تصرخ وتحترق وتتناسل معنويا كأنها خلقت للتو، أما في السياقات القريبة المألوفة فهي كلمة عادية باردة تشعر بفصولها المعتادة التي لا تتغير .

حين يقول شاعر ما مثلا:

الساحل مبلل بالمياه، أو الموج يمر على الصخور .

لم يأت بجديد، ولم يولد كلماته، بل إنه يتركها ناعسة على معانيها المألوفة، فالساحل بالفعل مبلل بالمياه، والموج يمر على الصخور بالفعل. ربما هذا هو القصد النثري التوصيلي للكلمات، والشعر لا يقصد هذا التوصيل، ففي الشعر اللغة ليست إخبارية ولكنها لغة داخل لغة، وخيال داخل أخيلة، ومجازات داخل مجازات. لهذا لو غير الشاعر كلماته وصدم الآلية المتوقعة للجملة وقال مثلا: الساحل مغمور بالبروق ، أو الموج يمر على طريق الحريق .. هنا تتبدل دنيا الكلمات وتتوسع دنيا معانيها.

الشاعر يكسر الحساسية المتأصلة في أذواق القراء، ويذهب بكلماته بعيدا، وكلما مارس هذا الذهاب فهو يمارس جملة من الغوايات ، ويمارس خصاما جميلا مع اللغة .

حين يقول الشاعر شوقي بزيع:

صورة ذات صلة

الشاعر اللبناني شوقي بزيع

طافحًا كالسفن الغرقى بأعضائي

وملتفًّا بعريي كالتماثيل .

( من قصيدة :” كل مجدي أنني حاولت/ ديوان قمصان يوسف/ دار الآداب، بيروت، ط3 – 2008 ص 8)

يذهب بعيدا بالكلمات. هو يريد للأعضاء أن تكون أكثر هشاشة، أو انكسارا، أو ضياعا، يرسم صورتها هكذا، لكنه لم يذهب لهذا التعبير القريب، ذهب هناك، وصنع أفقا شعريا، أو لنقل سياقا شعريا بحريا للجسد المتشظي. فاقترب من صورة السفن الغرقى الطافحة التي ربما تتكسر، أو تتحول إلى بقايا بفعل الزمن. يمكن للقارئ هنا أن يؤول ما يشاء في هذه الصورة فالسفينة هي الجسد والزمان هو البحر، وأن تطفح السفينة فتغرق فهي تحصل على موتها المباغت ، هي صورة ربما تكون كذلك من وجهة ثانية أكثر مقاومة للموت، فلم يقل الشاعر:” مترسبًا” في القاع، لكنه قال: ” طافحًا” كأنه يقاوم حتى اللحظات الأخيرة من الغرق. كأن الذات الشاعرة هي الأرقى والأعلى فلا تغمرها مياه الزمن.

طافحًا كالسفن الغرقى بأعضائي

جملة تتشكل من أربع كلمات، ليس بينها جملة فعلية أو حتى جملة اسمية مكتملة ، ولكن شبه جملة بفعل الحال والصفة والجار والمجرور . لكن صناعة الجملة هنا فضلا عن كونها صناعة تلعب على الوتر النحوي في تغييب بعض الكلمات الأخرى، وعلى الضمائر المستترة، وعلى الأفعال الناسخة خاصة فعل (كان) :” كنت طافحا بأعضائي كالسفن الغرقى” وفضلا عن التقديم والتأخير. فإن لعبة الإيقاع بتفعيلة الرمل” فاعلاتن” لها دورها المؤكد في صياغة الجملة على هذا النحو. ربما لولا هذه اللعبة السحرية الكيميائة التلقائية ما وردت الجملة بهذه الصيغة، فالوزن يعطي للجملة صيغتها المختلفة، يشحنها ويغذيها بطاقة إيقاعية متميزة، فضلا عن التدخل في صياغتها وإعطائها هويتها النحوية والصرفية والأسلوبية واللغوية بوجه عام.

من اليقيني قد يكون الالتفاف والغطاء بشيء معين، كساء، أو ثوب، أو أوراق، أو أية مادة تصلح للتدثر والغطاء، لكنه الشعر يذهب في تجريده وتأمله، ويذهب بعيدا إلى كثافته فيغير من دلالات الكلمات ومن معانيها، ويجعلها تنصب من جديد كقامة تعبيرية لها أثرها الباذخ، ولها طاقتها المشحونة برمزية ما، كما أشرنا سابقا، الشاعر شوقي بزيع يقول:” وملتفًّا بعريي كالتماثيل” .. التماثيل عارية، من جهتين: قد تكون عارية كالتماثيل الرومانية تماما بلا أردية أو أغطية، وهنا يتجرد الجسم المنحوت تماما، أو هي عارية كمادة خام، كحجر ، لا غطاء عليه. والعري هنا بطرفيه يتحول إلى عري تجريدي أبدي ديمومي، لأنه لن يتغير في الصورة لأن التماثيل ملتفة به.

لكن العري هنا ليس للتماثيل، فالتماثيل هي المشبه به، والكاف اللصيقة بها لا تدثرها أو تأخذها بعيدا بل هي لصيقة بالمشبه ، والمشبه هنا هو:” الأنا” الكامنة بياء الملكية الملتصقة بكلمة :” عري” الذات تلتف بعريها . والعري هنا عري رمزي يومئ إلى عذابات الروح التي تشعر بعرائها من جهة وعراء العالم من قيمه من جهة ثانية. لما أصبحت الذات طافحة بأعضائها، ولما أصبحت ملتفة بعريها، ولماذا جاء التشبيهان بالسفن الغرقى؟ وبالتماثيل؟

تتنزّلُ خصوبةُ الشعريّ (البويطيقي) في أفق جمالي يصوغه الشاعر عبر الكلمات. الكلماتُ تتحول إلى نسيج مغاير في نص مختلف قد تتلاقى فيه لأول مرة، هذا التلاقي يصنعه الاختلاف الذي يمارسه الشاعر المبدع، ويصنعه التجاوز الإبداعي الذي يمرق إليه. والصورة المثلى التي تتجلى حيالنا هي صورة الكلمات متعالقة مع بعضها البعض، منسربة السياقات، متماهية المعاني الجزئية والكلية.

ولا تتأدى الكلمات في القصيدة كما تتأدى خارجها. كل كلام خارج القصيدة هو مقصود لمعنى ما إخباري أو إنشائي أو حتى رمزي. لكن القصيدة بمثابة جوهر آخر للكلام. يصبح نص القصيدة بمثابة شفرات توصيل في التأويل الأولي القارئ له، لكنه في التأويلات التالية يصبح مكمن خصوبة لغوية، وتصويرية، ورمزية، وإيقاعية ودلالية.

نحن في الشعر لا نقرأ الكلمات التي تتجسد تلقاءنا وحدها، ولا نعيدها لأمها اللغة وحدها، ربما هذه هي القراءة البسيطة الأولية، بل نعيدها أيضا إلى خبراتنا ومعارفنا، إلى الميتا – لغة الكامنة في أذهاننا وتصوراتنا، إلى العناصر السسيو- ثقافية والأسطورية، إلى عمل ال META متجسدًا في مختلف المعارف، لأن القصيدة في التحليل الأخير هي طاقة كثافة، ووعينا الأركيولوجي بها لابد أن يستقصي أكثر ويمعن أكثر في استشرافها ليصل إلى كنهها وجوهرها.

لذا فإن الشاعر لا يقدم لنا منظومة خواطر، أو جملة من التعبيرات النثرية التي يقدها من تفاصيل الحياة الخبرية، أو يسرد لنا حكاية نكتة أو حكاية قصة، أو يقدم لنا وصفًا مسطّحًا للأشياء، أو يقتطف مشاهد حسية من هنا أو من هناك، لكنه يعيد جوهرة الحياة من جديد، أن يركزها أكثر ليصل إلى خصوبته المتميزة ويكون سليل الشعرية بحق، أن يوسع من أفق العالم وأفق الرؤية/ الرؤيا، وألا يدير ظهره للسلالة الجمالية حتى يستطيع ترويضها وإبداعها من جديد.

لم تعد القصيدة تحفل كثيرا بمباشرتها أو بساطتها. كنزُ القصيدة المعرفي هو كنز كامن، يتجوهر هناك في أخيلة الكلمات البعيدة. القصيدة ليست كلاما تماما. ما يريد الشاعر قوله مباشرة يقوله خارج القصيدة بكلامه النثري التقريري الإخباري العادي. لكن هو في القصيدة كائن آخر، مملكته الكلمات والصور والمعاني القصية، تقوده إلى اللا منتظر. إنها منظومة مكثفة من الاساطير والمتاهات والأحلام والوعي والفكر . والشاعرية تتبدى حين يقبض الشاعر على كلماته ويستطيع أن يصمد حيال ما تبديه له من سفور وتعرٍّ دائم. كل كلمة في القصيدة بمثابة أنثى خلقت بطزاجتها للتو، وقدرته على المقاومة والتشكيل هي قدرة فذة رائعة. والشاعر الباذخ في عاطفته يتسنى له أن يصعد بقصيدته بعيدا، وأن يتنقل بكلماته كيفما شاء، صانعا فراديسه أو جهنمه المخايلة لا فرق، فمن المهم أن يتعالى أكثر أن يتسامى بصوره ومعانيه أن يشكل أبعاده الترانسندنتالية بدأب ورؤية، أن يبتعد قليلا أو كثيرا عن الحس السينتمنتالي للكلمات أن يجرحها ويفضها ليبتكرها ويخلقها من جديد.

 

خاصّ – إلّا –

 

 

You may also like