Home إلّا ليس دفاعاً عن “شارل أيوب “

ليس دفاعاً عن “شارل أيوب “

by رئيس التحرير

غادا فؤاد السمان/ شاعرة وكاتبة سورية- ورئيس تحرير مجلّة إلّا – بيروت

 

لا أملك إجازة في القانون، وليس لدي أيّة وجاهة قضائيّة، وما من مصلحة تجمعني بأحد، ليستجيب لرأي أو ليتبنّى وساطتي..

لا أملك سوى حفنة من الأبجدية ووابلاً من المشاعر، يحرّكني وفق مزاجيّة طاغية بَرْمَجَتْها الأيام بتوقيت “المواقف”..

وعلى الرغم من كلّ التبلّد الذي أصابني بعد خراب سورية، وخراب اللُحْمَة العربية، وخراب الذائقة البشرية، وخراب المنظومة الفكرية، وخراب المنظر الاجتماعي والجوهر الثقافي، وخراب الثوابت العقائديّة والمسلّمات الدينية، وخراب العلاقات الإنسانية والأخلاقيات البديهية، وعلى الرغم من استسلامي التام لعدم الإكتراث، وجدتني عنوة أسحب بقايا همّتي المهلهلة من صميم النعاس واللامبالاة، وأستجمع قواي لأقرأ بالصدفة مقال “شارل أيوب ” المنشور في افتتاحية الديار لصباح هذا اليوم الأربعاء بتاريخ 30/5/2018 وقبل أن أرمي الشاشة الصغيرة من يدي، وأدير ظهري عن كلّ ما يحدث في هذا العالم البغيض القائم على الأحقاد والضغائن والغلّ، وجدتُ ذاكرتي تفيضُ عبر الجهات الأربع وتتدفّق حبراً قاتماً وحروفاً مضيئة، وأردّد مشافهة تحرّك أصابعي المتكلّسة، “شارل أيوب ” يا “شارل أيوب “، يا صاحب الاسم الإشكالي بامتياز، وصاحب الذِكر الذي يختلف عليه الجميع، وينافق لأجله الجميع، وينتفض بغيابه الجميع، ويهمد في وجهه الجميع، هو الطفل المُدلل الجميل، واليافع المتمرّد، والشاب المندفع، والطيّار الفذّ الذي تجرّأ على المواجهة بطائرته مع التعدي الجوّي الإسرائيلي، متجاوزاً تحذيرات قائده “الجنرال عون ” في حينها، معتبراً أن هذا التجاوز شرف للجيش وللبنان وله في الإعتبار الثالث، وما إن هدأت الحرب اللبنانية في أوائل التسعينات حتى سارع لجعل المستحيل ممكناً حين استبدل البندقية بالقلم، وبلسم الدماء الراعفه والمهدورة بالحبر، وحمل فكر أنطون سعادة كنمط تفكير ومبدأ حياة، جاهداً في نفض الغبار الرطب المتراكم، عن كتب الزعيم المحفوظة لدى القيادات المتعاقبة عن ظهر قلب، مستمدّاً من الزعيم الكثير من الأضواء التي تنطفىء تباعاً في دروب طويلة وعميقة وبعيدة وشاقّة، لم يعد يسلكها غير المخلصين في المناطق النائية عن بيروت وعن الحصص والمصالح والمكائد والألقاب والمناصب والرتب والصلاحيات، ومنذ ذلك الحين حين واجه الطيار الإسرائيلي بالتحدّي، وواجه القيادة القومية بالطموح، وواجه الواقع المزري بالكلمة، وهو يواصل مواجهاته حتى صباح هذا اليوم.

نتيجة بحث الصور عن شارل أيوب

شارل أيوب / شخص يختصر تاريخه الطويل بإسم

أمضيت يومي بقليل من المشاورات، حاولت استنهاض ما يمكن استنهاضه، ممن عرفوا شارل أيوب، ليكون لهم وقفة للتاريخ، بصرف النظر، عن أصابع الإتّهام الجاهزة والمرفوعة لإدانة شارل أيوب قضائياً، فوجئت بحجم الإدانات اجتماعياً، فالجميع يشجب ويستنكر ويعيب على شارل أيوب خروج لسانه من الضبط والدوزان، وأتساءل ضمناً وعلناً ومتى كان اللبناني عند الغضب أو حتى عند البهجة يتحفّظ عن إطلاق العنان باستحضار كامل الأعضاء التناسلية في عباراته، وهذه أزمة وجودية أعانيها أنا شخصيّاً مع ابني وصديقي الأغلى “جهار ” الذي يوظّف جميع المفردات لسدّ فراغ الجملة بطلاقة لا يجيدها أكثر الجهابذة للتعبير عن تلافيف عباراتهم المنمّقة، وعندما أعنّفه كأمّ يتهمني بالرجعية والتخلف وعدم مواكبة العصر، ناهيك عن اتهامي بالقصور عن فهم المجتمع اللبناني الحديث كوني دمشقية قديمة، فهل حقّاً ثمّة رفض لطبيعة الخطاب اللبناني المتبادل، الذي شهدناه مراراً على شاشات التلفزة داخل المجلس النيابي وداخل المؤسسات والدوائر والوزارات والاستديوهات التي لطالما عاث ضيوفها الفوضى قولاً وفعلاً بمنتهى البذاءة الممكنة، فلماذا لم نسمع عن هذا استنكاراً ولذلك إدانة، ولماذا هذه المرّة أصبحنا فاضلين، نقيم في مدينة فاضلة، يسودها العدل والوئام والتناغم والإنسجام بين السياسيين والمثقفين والإقتصاديين والإداريين وكبار وصغار الكسبة..؟

اللعبة السياسية في لبنان باتت مفضوحة وليست مكشوفة وحسب والمكاسب الخرافية من جيوب المال العام والخاص والدولي والمشبوه أكثر من أن تُحصى، وشارل أيوب صحافي يصارع بصمت لإبقاء  باب الديار مشرّعاً على الضوء، في وقت لملم غيره كراكيبه فور غياب القذافي وغياب صدّام وغياب صالح ربّما، وحاول الاستجداء بطريقة أنيقة لشهر كامل عبر الشاشة الصغيرة، علماً أن الملايين وفوائدها الباهظة لم تنضب أبداً، تلك التي تقاضاها من الخزينة العراقية والليبية باسم القضايا الكبيرة العالقة على مشاجب الوقت والمصالح والأحلام، الفارق بين الذي استجدى بلباقة خارقة وبين شارل أيوب، أن ذاك قد عاد لحجمه كمواطن يدّعي التجريد من سلاح المال، وشارل أيوب حين يريد المال يطلبه كفارس وشريك وشاهد ومسؤول ومعني و ندّ و قبضاي و ابن بلد وابن بيت وابن تجربة وصاحب حقّ، لهذا لا يخفض صوته، ولا يطأطأ رأسه، ولا يماحك جمهوره، ولا يستعطف أسياد المال أو اسياد المراحل، له من كبريائه الشيء الكثير، وله من ذاته الشيء الأكبر.

سيتاءل الجميع دون استثناء، شو جاب “السمّان ” لهذا “الأيوب “، حتى تكتبَ ما كتبَتْ، ودون مواربة سأجيب، أولاً أيوب كاسم يذكّرني بصبري على أدقّ التفاصيل التي تحاصر أنفاسي منذ 1997 في بيروت وحتى اليوم، ثانياً شارل أيوب ليس غريباً عنّي كصاحب مطبوعة، أذكر في منتصف العام 1993 أني التقيته لمدة نصف ساعه كنت وقتها حديثة الإقامة في بيروت، وكانت اندفاعاتي في اختيار الألفاظ وتركيب الجمل في عزّ لؤمها ولغمها وتوتّرها وتمرّدها، أصغى جيداً لاحق نظره ذراعيّ التي تصاحب لغتي المتناثرة رشّاً ودراكاً، وسألني سؤالاً واحداً، متى بوسعك أن تباشري العمل في الديار أخبرته متى تفتح الديار بابها، قال غداً أنت موظّفة رسمية في الديار، كتبتُ كل ما يحلو لي في الديار، فلم يوفّر عن قلمي أيّة مساحة اخترتها، من افتتاحية إلى زاوية إلى صفحة، إلى الأخيرة، وبراتب مرموق جدّاً في حينها، بضمان اجتماعي وتأمين صحّي منذ أول شهر ولم أعرفه في أيّة مؤسسة أخرى عملت فيها أو معها أو لأجلها، على العكس كان ثمّة استحالة من جميع المؤسسات التي عملتُ فيها فيما بعد أن أحصل على قسيمة ممهورة بختم المؤسسة لقرض من البنك أو حتى لتقسيط  مروحه.. وهكذا لا زلت أعيش بذاكرة الاستقرار الأولى في لبنان والتي تعينني على مكابدة كل ما أعانيه من ظروف راهنة تتكالب تباعاً أجزم أنه لن يصمد في وجهها رجل وخاصّة أنني ممن يقبضون على الجمر إيماناً واحتساباً، وأقبض على سيف الحق الذي يقطّعني امتيازاً تلو الآخر.. وأبيع ما تبقى من أنفاسي إكراماً لموقف حقّ وشهادة حقّ وكلمة حقّ.. وللأمانة الأدبية لا بدّ من الإشارة أنني حين غادرت الديار بعد أربع سنوات كسكرتير تحرير القسم الثقافي، غادرتها بكامل التعويض وبمكافأة تفوق توقعي، وهذا الأمر للعلم لم يكن استثناء لي شخصياً بل لكل موظف دخل الديار أو خرج منها، وأذكر فيما أذكر، أن الكثيرين ممن دخلوا الديار ولم يكونوا في حينه قد غادروها، كيف كانوا يثرثرون حول شارل أيوب، وكأنهم يتحدثون عن “دونكيشوت”، أو عن “أرلسيلوبان ” أو “سيزيف ” لا شكّ كان يحتلّ تفكيرهم وجلساتهم ونميمتهم ومقاهيهم وانتقاداتهم وغيرتهم وثرثراتهم، وكنت أتصادم بذات اليمين وذات الشمال وخاصّة مع أولئك الذين يدّعون الانتماء والتعصّب الحزبي للقومي الاجتماعي ويكيلون الانتقادات الفادحة وعندما أسألهم لماذا تحتملون مزاجيته وجنوحاته ومواقفه وقناعاته ولا تغادرون مؤسسة وتكون الحجّة كما لدى كلّ الذين يعيشون الإزدواجية منذ بدء التداول النقدي حتى اليوم أنها لقمة العيش.. وشارل أيوب كان بعيداً عن التواصل بل يحرص كل الحرص على اللقاءات النصف شهرية أو أقل، وأحياناً تؤجّل للقاءات الشهرية، المهم كان يملك القدرة الهائلة على غرس المفاهيم الثورية ومفاهيم الحريّة ومفاهيم المسؤولية قبل كلّ شيء وتجاه كلّ شيء وأي شيء، يحمي استقلال لبنان واستقراره، ناهيك وهذا الأهم أنه لم يكن يوماً يميل التعصّب لطائفة أو لمذهب أو يعرف العنصرية لجنسية أو للون أو لشخص، كان عقله منفتحاً مرناً واثقاً طموحاً وجموحاً ووثاباً، وكان دائماً هو نفسه بسخطه بمرحه سواء توفر لديه منحة من الحريري رحمه الله لدفع الرواتب أو دعماً من الفاضل النبيل عصام فارس حليف الإعلام والصحافة، وإذا كان ثمّة من يتّهمه بالضغط على هذا أو ذاك ليدفع لاستمرار الصحيفة، فكان الأمر إذاً متّفق عليه بين الطرفين، كون الصحافة مرآة السلطة، والسلطة لولا الصحافة والإعلام وتسليط الضوء لنهشت نفسها اختناقاً من فائض الصلاحيات وضجراً من غيض المال.

أعلم أني بهذا الاسترسال والسرد، أثقل على ذاكرتي “المنبوشة ” أكثر مما أثقل على القارىء نفسه، لكن هذا الكلام “توثيق ” لإنسان عرفته لصحافي سمعت عنه في دمشق قبل أن أستقرّ في بيروت، لمشاغب، لمشاكس، لصاحب مواقف، على الأقل أنا شاهدتها، ففي العام 2012، قدّمت مادة طويلة جداً بما يزيد عن 2000 كلمة، عن الأزمة السورية والوضع الكارثي الذي وصلت إليه البلاد ولم يكن في ذهني غير جريدة البناء، هذه الجريده المدعومة سورياً والموالية سورياً وكلّي ثقة ويقين أنّ مادتي غير قابلة للتأخير فور استلامها، لأفاجأ بعد أسبوع من المماطلة برفض النصّ من رئيس تحرير الصدفه ربيع الدبس الذي صنعته المزادات والمزايدات، وكان لديّ الإصرار على الإتصال به شخصياً، لمعرفة سبب رفض نشر النصّ وهو أشبه بضماد شاش ضروري لفلفة الشارع السوري وتضميد الشرايين المتقطعة، وما إن سألته د. ربيع هل قرأت من النصّ على الأقل على الأقل الأسطر الثلاث الأولى، ولم أكن أتوقع أنه من فصيلة الألغام الموقوتة لينفجر بهذيان لم يسبق لي أن أصغيت بهذا الصمت دون مقاطعة وذاك الذهول، وعندما أعربتُ عن دهشتي المفرطة لهذا الأسلوب الهستيري الذي قوبلتُ به دون وجه حق أمام إحدى الصديقات وتذمّري الشديد مما حصل من ردّ فعل خارج عن الإتزان والمنطق، وهو يشككني في أسلوبي الكتابي وصحّة لغتي وسليقتي وسجيتي ومفرداتي، أصبحت أزمتي مباشرة مع نفسي، وصار غضبي أكبر من أن أتمالكه، وإذا بصديقتي تعطيني رقم هاتف وقالت اتصلي على الفور بصاحبة هذا الرقم، هي حتماً ستساعدك على ردّ اعتبارك أمام نفسك، ولم أتأخّر وبادرت الاتصال وإذا بي من سكرتيرة إلى سكرتيرة حتى فزت بصوت صاحبة الجلالة شخصياً، وشرحت لها الموقف وبدون مقدّمات حدّدت لي موعد لمناقشة التفاصيل، وصلت على غير العادة في الوقت المناسب، كانت المرّة الأولى التي أتعرّف إلى السيدة “سمر الحاج ” شخصياً، إذ لطالما شاهدتها على المحطات التلفزيونية تُدلي وتصرّح وتشدّ الأنظار وتجاهد في سبيل العدالة والإنصاف، وفرحت جدّاً أنني وصلت وها أنا بأيادٍ أمينة وأنّ العدل والإنصاف الذي تطالب بهم السيدة الحاج ستكون أوّل من يهبهم لي، كانت تسألني وهي تلاعب أحفادها وترد على الهواتف وتناقش مع مديرة مكتبها بعض المستجدات وراىحة الطبخ تعمّ المكان، والعاملة ذات البشرة الداكنة تخبرها عن أحوال الحِلَل، وأخبرتني في حينه أنها تحضّر لخطبة عصماء عن العدالة والحرية في أكثر من مكان، وعن زيارات مكوكية إلى دمشق، وعن وعن وأنا أشعر بحرج مضاعف من نفسي، وكلما شعرت بصمتي استجرتني للبداية واستنتجت أنها ستحاول التدخل للصلح بيني وبين الدبس، أخبرتها في حينه لا يهمني الدبس ولا حتى الطحينه، كل ما يهمني أنني صاحبة حقّ ومقالة ينبغي أن تنشر لا من أجل اسمي، ولا شأني، وليس فقط من أجل سورية التي تنزف عبر جميع أبنائها، بل من أجل تعبي وأنا أنحتها لليالٍ ثلاث على التوالي، وكنت أستشيط غضباً، لكنّ فنجان القهوة بين يديّ كان يلزمني الهدوء والإتزان، استكملته على عجل، قبل أن أنفجر في خضمّ الكرنفال الذي حضرته بأقل من نصف ساعه، ووعدت وقتها السيدة سمر أن المقال سينشر في غضون اليومين القادمين، ومرّ يومين ثم أيام وتوقفت عن انتظار الإتصال من السيدة الحاج وقدّرت أن لديها لفيف شاسع على الشاشات والإذاعات والإعتصامات في حينه..

فجأة صعد اسم الديار إلى رأسي، وقرّرت الاتصال دون تردّد وكلّي يقين بخيبة جديدة تحدّثت إلى السيدة نجوى مارون، طالبة منها الإيميل لإرسال المقال، ورجوتها النشر بأسرع وقت ممكن، وعدتني أن تحاول لكن لو تعذّر النشر فهي غير مسؤولة، قلت لها لا بأس، لي الله، وبدأتُ الرهان الصعب على ذاتي هل يعقل أنني فعلاً لا أجيد الكتابة كما أخبرني ذاك الجهبذ، هل يعقل أنني فقدتُ أسلوبي وملُكتي وإمكانياتي، وأن جميع منشوراتي لربع قرن مضى بأهم الصحف العربية كلها كانت مجرد وهم، كنت قلقة ومحبطة وشبه مدمّرة، وإذا بذات الليلة يأتيني اتصالا من السيدة نجوى مارون، مهلّلة، غادا أبشري الاستاذ شارل أيوب شخصيّاً حين قرأ مقالك صرخ بنا، وقال كيف تأخّرون هذه المقالة، احذفوا أي موضوع ووفروا مساحة الربع من الصفحة الأولى لعدد الصباح، واستكملوا النصّ بداخل الصفحات، أخبرتني بالتفصيل الممتع يومها، ولم أستطع لحظتها أن أنبس بكلمة، ونابت دموعي للإجابة عنّي، ودمعتي ليست من الصنف السخي، بل هي أشهر من بخلاء الجاحظ نفسه، وأعتبر دمعتي من مكوّنات مواثيق الشرف والكبرياء والكرامة والإعتداد والتركيبة الشخصية المعقدّة جدّاً، لكن يومها شعرتُ أن الدمعة أبلغ ردّ لنفسي ولذاك الذي بثّ سمومه بمسامعي، شكرتها بحرارة بالغة، وكأنه المقال الأوّل في حياتي، وكأنّ جعبتي ليس فيها مئات المقالات المنشورة.

منذ بضعة أشهر وجدت على الفيسبوك، إعلاناً صغيراً يسأل الزائر فيه: هل تجيد كتابة المقالات وتجد الكفاءة بنفسك للتحرير والبحث والتدقيق، اتصل بنا على الرقم كذا وكذا للعمل بدوام كامل وبراتب شهري لا يقل عن 2500$ / يومها قلت: حتماً هذا الإعلان ساقه القدر لي، لي وحدي، وهذا الإعلان قدري، وللمرة الأولى أكترث بإعلان وأتصل، بل أواظب على الإتصال عدّة مرات.. الرقم الأول، لا أحد.. لابأس تابعت المحاولة على الرقم الثاني، ردّ صوت رخيم وقور هادىء، وكما طلّاب اللجوء المتدافعين للنجاة داخل “البالم ” عبر مياه المتوسطّ المتلاطمة لابتلاعهم، كنت أزاحم بعضي للحديث مع صاحب الرقم، لأقنعه أن الإعلان يخصّني جدّاً بل يخصّني وحدي، وبعشوائية تامّة، بدأت أقدّم نفسي، دون ذكر الاسم، ودون أن أعلم وجهة هذه الأرقام أو بوصلتها، وعندما شعرت أنه ثمّة مفاضلة بين المتقدمين وثمّة انتظار، وثمّة وثمّة، صرخت أرجوك، أنا محتاجة للعمل، عندي التزامات شهرية توازي الراتب المُترح، وأحتاجه فعلاً لأتابع صمودي، لم يتابع الحديث قال تحتاجين للمبلغ، قال سأعطي الهاتف الآن لمرافق معي وهو يقول لكِ ما تفعلين، بكل لطف ولباقة، تحدّث الشاب، قال اكتبي عندك هذا الرقم اتصلي به الآن واتّفقي على موعد مع صاحبة الرقم لسيدة اسمها نجوى، وغداً تقصدينها في مكتبها بمنطقة اللويزة تجدين مغلّفاً وفيه مبلغ ال2500$/ عزّت علّي نفسي، وقاطعته: “حبيبي أنا اتصلت بحثاً عن عمل لا أريد صدقة فأنا كاتبة لي اسمي وقلمي ولست متسوّلة، رغم أنّ التسوّل ميزة العصر، وإذا بصوت عن بعد يخاطبني: “السبيكر ” مفتوح وأنا أسمع اعتبريه راتب مسبق الدفع، وإذا لم تستلمينه لا وظيفه لكِ، قاطعته بدهشة، هل المتحدّث الاستاذ شارل أيوب..؟ أجاب: نعم أنا شارل أيوب، مجدداً يدهشني ويدمعني ويفاجئني، قلت له كيف تلتهف بهذه السرعة لإنسانة لا تعرفها ولا تعلم إن كانت تصلح للعمل أم لا، قال: ما يهمني الآن أنك اتصلت ويجب أن أفعل شيء ريثما يحين موعد التحديث الجديد في الجريدة، قلت له: أنا غادا، قال: أياً تكونين، غداً بانتظارك نجوى اتفقي معها على موعد يناسبكما، وبمزيد من الإصرار.. قلت أنا غادا فؤاد السمّان، بكل لباقة ووداعة، ردّد اسمي غادا فؤاد السمان، عرفتك كنت تكتبين في الديار، أجبته كنت أكبر هناك، ودعته..

وقبل أن أتابع مراجعة المفاجأة والحدث والحديث والحوار وكل ماحصل، رنّ الهاتف: رقم جديد، سيدة تخاطبني بمنتهى العذوبة واللباقة، سيدة غادا.. أنا نجوى مارون من قبل الاستاذ شارل أيوب، أي ساعة تفضلين لقاءنا غداً، اتفقنا عند الرابعة وصلت عند الخامسة أخبرتها أكثر من مرة على الطريق وكانت تنتظر دون تذمّر علماً أن السائق الذي يقلّها إلى منزلها كان أيضاً ينتظر، وفور دخولي المكتب سلمتني ظرفاً مغلقاً وفيه راتب شهر مسبق الدفع، سأمضي ما تبقّى من عمري أسدد في تلك اللهفة التي لن أنساها، ليس لأهمية مافي الظرف الذي تبدد قبل أن أصل البيت بل لوقته في درء الظروف التي تتربّص على غريبة مثلي في هذا الكوكب.

لم يكن في نيتي تعدي ال 400 كلمة، هذا المساء، ولكن وصل الاسترسال إلى مايفوق توقعّي، فأنا اليوم أكتب عن شارل أيوب ليس دفاعاً وليس تملّقاً، فشارل أيوب ليس في أحسن أحواله أو حالاته، هو متّهم بنظر القانون، مُدان بنظر المجتمع “المثالي ” بلسانه المنفلت، هو مغامر على الخسارة والإفلاس كما يُشاع، هو كافر بالصداقة والأصدقاء، فاقد الثقة في الكثيرين ممن عرفهم، لا يطيق التواصل، ولا يحتمل المجاملات، خائب مثلي، عاتب، ساخط، غاضب، والجريدة التي آمل الانضمام إليها مجدّداً تعاني كغيرها من الجرائد اضطراباً في التمويل، يعني في اختصار، أنا لم أختر أحد الميسورين لأستثمر حبري وحروفي، فربما لو اخترت الدفاع عن ” سركيس سركيس ” كانت الكتابة صفقة رابحة لكنّ الحرف الصادق يختار دائماً من يليق به وحرفي لا يليق به أصحاب المال والنفوذ فقلّة قليلة بل ونادرة جداً هم حقيقيون والبقية جاؤوا من فراغ وأطماع وجشع، وشارل أيوب رجل وصل لمفترقٍ موحشٍ يعزّ فيه الصاحب كما يعزّ فيه الصديق، وهذا مؤكّد بعدما حاولت تعزيز دوري للتضامن اليوم، لكن كما قال الحلّاج “ما في الجبّة أحد “، لهذا عهدتُ دوري لتوثيق حقيقة هذا الرجل، ربّما تأخّرت ولكن آن الأوان، فالدنيا لم تخلُ كما يُقال، وأنا ممن يقدّسون المعروف، وأتساءل إذا كنت أنا هذا المفرد الذي حصد من شارل أيوب كل هذا النُبل، فلو أردنا التوثيق للغير فكم من الشهامة والمروءة والفروسية والإنسانية والفضائل، يسجّل في تاريخ هذا الرجل؟.. ولماذا اعتاد الجميع أن يترصّد كل هفوات ايوب، ويتغاضى كلّياً عن حسناته التي لا تُحصى، ولن ينكر حسناته إلا قليلي الأصل، وناكري المعروف.

لن أقول أن شارل أيوب أصابَ حين كتب بتقليل الاحترام، ولكن في بلد معظم البيوت الشاهقة مبنية فيه من الزجاج، لا بدّ أن يتمتّع أصحاب هذه البيوت بروح رياضية مرنه ومتسامحة جدّاً وأشدّد على جدّاً، فأيّ تصعيد ليس في صالح الزجاج، فهو هشّ وكاشف وقابل للكسر، وخاصّة أننا في زمن فقد حصانته فيه الكبير قبل الصغير، فلا المال، ولا الجاه، ولا السلطة، كفيلة بحصانة أبدية لأحد، فمن يعلم ما ينتظر كل واحد من أولئك أو هؤلاء، ومن يعلم ما ينتظره عبر طريق الحياة من خفايا وخبايا ومفاجآت، وما أحوج لبنان إلى تضامن رجاله، لا تشرذمهم، وإلى تضافر، وتكاتف، مسؤوليه لا تناحرهم، لبنان في مهبّ الأعاصير التي تتربّص في المنطقة.

وهنا يطيب لي أن يكون مسك الختام بهمسة ودّ للسيّد وزير العدل سليم جريصاتي يا أعدل الناس المسامح كريم، وأن أهمس للسيد وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل التغاضي عن الخطأ فضيلة وجبران الخواطر ميزة يمكن أن تضاف لشخصيتك المميزة وشخصك الناجح، وأن أهمس للسيد وزير البيئة طارق الخطيب يامعالي الوزير البيئة ليست مجرّد تربة ومناخ وعوامل مادية مختلفة من خصب وصحراء، البيئة أيضاً رحابة صدر وسعة أفق وعمق تقدير وطول بال، القوّة لا أن تجتمعوا ثلاثتكم لإدانة واحد من سلالة البحر يثور بموجات بيضاء مهما احتدمت سرعان ماتهدأ، لا تضرّ ولكنها تحرّك الراكد وتزيد حيوية الوقت، الخوف كل الخوف من النفوس الهادئة على الدوام التي تنطوي على خبث وسواد وسموم ومتاهات، هي ساعة تخلّي وقّع فيها شارل أيوب مقاله، و”ما كان كان ” كما قال حبيب يونس، ولو كان رجائي يُجدي لما تردّدت في الترجّي، لكن أعلم أني قياساً لمعاليكم أنا مجرّد حرمة تهذي، لهذا لن أقول “كرمالي أو كرمال خاطري ” فالغرباء لا خاطر لهم، لهذا سأقول لأجل لبنان، عودوا إلى سلامكم الداخلي، بعيداً عن المحاكمات والمخاصمات، واحتكموا إلى صوت الله فيكم، فليست الحياة تستحق أن يضيع ما تبقى فيها، أكثر مما ضاع منها، في حروب كانت وحروب لا تزال، وكلّي ثقة بحكمة القاضي التمييزي عماد قبلان وحنكته في جعل الأربعة يخرجون من مجلسه الموقّر منتصرين لبعض ومنتصرين مع بعض وليسوا منتصرين على بعض.

 

خاصّ – إلّا – 

 

You may also like