Home لـوثـة إلّاأدب لبنان كما عرفته ( ٣ )

لبنان كما عرفته ( ٣ )

by رئيس التحرير

شوقي بغدادي / شاعر وكاتب سوري – دمشق

علاقتي مع لبنان علاقة محبّ، مرّت بها أطوار متنوّعة بين المتعة والخوف أروي لكم تباعاً وحصرياً في مجلّة – إلّا – الألكترونية بعضا منها، وبعدما أنجزت الحلقة الأولى والثانية أتابع نبش الذاكرة في هذه الحلقة أيضاً.

وأذكر أني شاركت لبنان مثلا في عديدٍ من احتفالاته ومناسباته الأدبيّة والوطنية كشاعرٍ أو كمواطنٍ سوريٍّ شقيق وتحضرني في هذه اللحظة ذكرى مشاركتي في الإحتفال لمناسبة “الذكرى السابعة على رحيل الزعيم الشعبي اللبناني الكبير عبد الحميد كرامي “، بقصيدة ملتهبة في حينه مؤلّفة، من اثنين وثلاثين بيتاً في طرابلس، وهي مدينة ذلك الزعيم الذي عاصرته، واجتمعت به مرة في الطريق، وكان عابراً يوزّع تحيّاته هنا وهناك، على الكثيرين من محبيه وما… أكثرهم !

أذكر يومها أنني استوقفته، وكنت ما أزال فتى من محبيه، حسب ما كان أقربائي يحدثونني عنه، فابتسم لي وصافحته فصافحني، وهو يربت على كتفي يسألني عن اسمي وبلدي.. وظلّت ذكرى عزيزة جداً على قلبي حتى الآن، وهي التي ألهمتني فيما بعد بقصيدتي.. يوم كانت العلاقات السياسيّة متوتّرة وقتئذ بين سوريا ولبنان في عام ١٩٥٧أيام كان كميل شمعون رئيسا للجمهورية، وقد أغلق لبنان وقتها حدوده لبضعة أيام ثم فتحت تحت الضغوطات المحلية والدولية..

ذهبت إذن إلى طرابلس في خريف ذلك العام ١٩٥٧ وألقيت قصيدتي في احتفال شعبي كبير برعاية ابن عبد الحميد كرامي رشيد كرامي الذي كان رئيسا للوزراء أكثر من مرّة، وذلك في صالةٍ واسعةٍ جدّاً، في الكليّة التربويّة الإسلامية حيثُ كنتُ طالباً فيها في صفّ الشهادة الإبتدائية في مطلع الأربعينات كما أذكر وحصلتُ وقتها على الشهادة التي ما أزال أحتفظ بها حتى الآن ..

كانت القاعة مكتظة بالحاضرين وكان رشيد كرامي جالسا في الصف الأمامي وأذكر أن العلاّمة المشهور عبد الله العلايلي كان مدعوّاً لإلقاء خطاب، ألقاه قبلي وكان خطاباً رائعاً بحقّ صفّق له الجمهور كثيراً..

ثمّ صعدتُ بعده وألقيتُ قصيدتي التي قوبِلَتْ أيضا بحماسٍ كبير وهذه بعض أبياتها :

أجيء بسوريا قويّاً مغرّداً

لألثم من لبنان جرحا مورداً

حملت معي الأخطار والنار والهوى

ومجد الرجال التائقين إلى الفدى،

وجئت لألقى النار حولي

كأنني هنا لم أبدّل في عيوني مشهداً

ويا ملهمي عبد الحميد إذا قسا

بعينيّ وجه الظالمين وأرعدا

تغيّرت الدنيا

فلا الأرض مثلما عهدتُ

ولا الأصحاب ظلّوا

ولا العدى

فصار صديقاً غادر بك ظالم،

وصار رهين القيد من كان سيدا

جميع كوابيس الطغاة ستنتهي

ودرب جميع الظالمين إلى مدى

إلخ…إلخ…

المهم.. أنهيتُ القصيدة، ونزلتُ عن المنبر، فنهض رشيد كرامي وعانقني وأثنى على قصيدتي وأشاد بحضوري فأكسبني ثقة كبيرة وحبّاً أكبر للشعر وللبنان وللمناسبات الشعرية.

هكذا غادرت مدرستي التي عرفتني غلاما واستقبلتني فيما بعد شاعرا …كان أقربائي ينتظرونني فذهبتُ معهم كي يحتفلوا بي على طريقتهم ونمتُ يومها في بيت خالتي في ( البلد )، بدلا من بيت جدّي “محمد ديب عرابي ” في ( المينا )، مع هذا التغيير في مكان إقامتي أنقذتُ نفسي كما علمت فيما بعد __من الإعتقال إذ أخبروني أنّ رجال الأمن داهموا يومها بيت جدي حيث قيل لهم أنّ الشاعر يقيم في بيتِ جدّه…

وحين عرفت بالخبر لم أعد لا إلى بيت خالتي ولا إلى بيت جدّي، بل ذهبتُ مع ابن خالتي، إلى بيت رشيد كرامي الذي استقبلني بحفاوة، وطمأنني أنّه لن يتخلى عني وسينقذني ولكن بعد ذلك سيكون بعد الظهر، وتغديت يومئذ عنده ثم دعا بسيارتين واحدة لي وله مع اثنين من خاصّة رجاله، وجعل السيارة الأخرى تسير أمامنا..

وهكذا ودّعنا طرابلس وانطلقنا باتجاه طرطوس الأقرب إلى طرابلس من دمشق، وفعلا مضينا في هذا الإتجاه حتى الحدود اللبنانية _ السورية حيث توقّفنا قرب مفرزة من الشرطة الذين رحّبوا بالزعيم الطرابلسي الذي قال لهم إننا ذاهبون للصيد في الأراضي السورية..

وهكذا غادرنا لبنان وظلّوا معي الى مسافة عشر كيلو مترات داخل سوريا، ثمّ ودّعني رشيد كرامي وطلب من السيارة الثانية ،التي كانت ملأى برجاله المسلّحين، أن توصلني إلى بيتي في دمشق، وهكذا نزل واحد من المرافقين وعاد مع رئيسه إلى طرابلس، وتابعنا نحن سيرنا إلى دمشق..

هكذا انقذني رشيد كرامي وودّعني، بلطفٍ بالغٍ شاكراً إياي تحمّل كلّ هذه المخاطر، كما شكرني على قصيدتي وطلبَ مني الإتصال به هاتفيا كي يطمئن على سلامتي..

وهكذا أيضا حُرمت من دخول لبنان حوالي اثني عشر عاماً، بسبب تلك المشاركة الأدبيّة في إحياء ذكرى زعيم وطني كبير . ..

يا لها من ذكرى مريرة وعزيزة علي في الوقت نفسه، وخاصّة حين اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية وتذكّرت فيها أننا تنبأنا بهذه الحرب الأهلية منذ اليوم الذي القيت فيه قصيدتي في رثاء عبد الحميد كرامي حين لاحظ الجميع وقتها ان الأحوال السياسية التي كانت تزداد اضطرابا، لأسباب سياسيّة تحوّلت على إثره إلى صراع طائفي، غطّى على الوضع السياسي، وعلا قته بالقضية الفلسطينية، وغيرها من هموم وما أكثرها حتى الآن..

 

خاصّ – إلّا –

You may also like