Home لـوثـة إلّاأدب التداوليّة والنقد الأدبيّ – جون ديوي – نموذجاً

التداوليّة والنقد الأدبيّ – جون ديوي – نموذجاً

by رئيس التحرير

** حنّا عبود / شاعر وباحث وناقد سوري – حمص

كلمة البراغماتيّة pragmatism تعود إلى كلمة “براغما، أي “فعل“. بعضهم تركها معرَّبة بلفظها، وبعضهم أطلَق عليها اسم “الفعليّة، وأحياناً “العمليّة” وآخرون “النفعيّة” وغيرهم “الذرائعيّة” وسواهم “الواقعيّة“… وعندما دخل المصطلح مجال اللّغة والأدب والنقد استُخدِمتْ كلمة pragmatics، فمالَت غالبيّة الكتّاب والمفكّرين العرب إلى استخدام كلمة “التداوليّة” مع أنّ باقي المفردات التي ذكرناها، لا يزال بعضهم يستخدمها.

أمّا تاريخ هذا المصطلح، فبعضهم يلصقه بجون ديوي، وبعضهم يعزوه إلى الفيلسوف شارل ساندرز بيرسوقد كثرت النتائج بكثرة التحرّيات؛ لكنّ استخدام الفيلسوف كانط لهذه الكلمة “براغما” اليونانية، لفت نظر الباحثين، وإن لم يولِ بعضهم اهتماماً بها

نتيجة بحث الصور عن جون ديوي

جون ديوي – فيلسوف وأكاديمي أميركي

وحتّى نوضح المصطلح الكانطي، سنقدِّم الأمثلة من الحياة العامّة، فحين أمشي أو أحيّي أو أصافح أو أتمتّع بمنظرٍ طبيعيّ خلّاب… إلى آخره، فإنّما أقوم بفعل (براغماولكنّني لا أقوم بعملأنا أتصرّف وأسلك وفقاً لأعرافٍ أو تقاليد أو دافعٍ أخلاقيّ، ولكنّني لا أعمل، فالعمل ينجم عنه إنتاجٌ ما.ولكن حين أرسم لوحة أو أصنع كرسيّاً للعجزة أو ابتكر مقلاة لقلي الباذنجان… إلى آخره.

فأنا أعمل.. فهناك فرق– في العُرف الكانطي بين صفة pragmatical وصفة practical، فالأولى تخصّ الأعمال السلوكية، بينما “العمليّ” هو “إنتاج” فنّي، سواء أنتجتُ ركوةً للقهوة أم رسمتُ صورةً لفوهة الجحيم، أم لوحةً لصديقي الراحل… لكن لا يُمكن أن أنحّي العمل الذي هو إنتاج مادّي، عن الفعل الذي تتراكم فيه القيَم السلوكية والمعنوية، وهذا التداخل المُتفاعل لم تغفل عنه التداوليّة، بل يشكِّل حجر الزاوية.

نتيجة بحث الصور عن كانط

إيمانويل كانط – فيلسوف ألماني عاش في القرن الثامن عشر – أهم المؤثرين في الثقافة الأوربية 

في ثلاثينيّات القرن العشرين، اتّخذت الكلمة منحىً فلسفياً تجلّت في الفلسفة الأميركيّة أكثر من أيّ فلسفة أخرى، وانتقلت إلى برامج التربية والتعليم، فكلّ ما لا ينفع، لا يُدرَس ولا يُعلَّم؛ فما الفائدة– على رأي ديوي– من لوحةٍ لا يُقبل عليها الناس ولا تفيدني في شيء؟ وما قيمة المادّة الدراسية، إن لم تعُد عليّ بفائدة؟

لكن قبل نهاية القرن العشرين عادت إلينا البراغماتية بعدما نضب الوقود الدافع للحداثة والماركسية والفرويديّة والبنيويّة وعِلم الدلالة… إلى درجة أنّ أصحاب هذه المذاهب اضطرّوا إلى إضافة كلمة “ما بعد” إلى مذاهبهم، فقفزت إلى السطح تحت عناوين: “ما بعد الحداثة” وما بعد الماركسيّة“… وهكذا ممّا يشير إلى الإقرار بعجز تلك المذاهب عن مُتابعة العمل بالأدوات التي اعتادت عليها، فهناك أشياء كثيرة استجدّت، في أعقاب نتائج الثورة الثالثة، إنّها الثورة التي فجرّتها النظريّة النسبيّة، فصارت مفاعيل الذرّة المُكتشَفة أبعد من الخيال الأدبيّ القديم والحديث، فالتفتَ النقّاد إلى لغة النقد والمذاهب النقديّة يعيدون فيها النظرولمّا رأى “التداوليّون” ما آلت إليه البنيويّة وبقيّة المذاهب… أدلوا بدلوهم، فظهرت التداوليّة باعتبارها النظريّة الأقرب إلى شموليّة فهم النصّ الأدبي، وردّت على التفكيكيّة والتناصيّة وسوى ذلك من المذاهب النقديّة الأخرى.

سلّة المهملات

سنتحدّث عن “سلّة المهملات” في التداوليّة قبل الحديث عن الاتّجاه العامّ لهذا المصطلحوالمقصود بسلّة المهملات تلك، النصوص التي انسحبت من التداوُلفهنا على الناقد أن يبحث عن السببالأسباب التي رمت بهذه النصوص في سلّة المهملات، فإذا عادت هذه النصوص إلى التداول، كان عليه أن يعود إلى الأسباب التي جعلتها تعودوبغير ذلك، لا يُمكن التعامل معها ولا يُمكن فهمهالنفرض أنّ حكايات الغول عادت إلى التداول من جديد، أو أنّ حكايات إيسوب صارت مُتداوَلة، فإنّ هذا يدفعنا إلى البحث عن الأسباب، وإذا جهلناها نكون جاهلين السياق العامّ لظروفها القديمة، ولظروف استدعائها معاًولا بدّ أن نتقصّى سبب العودة، هل هو الإفلاس في ابتكار الجديد؟ أم أنّ ذلك متفرّد بوظيفته، بحيث ليس هناك من بديلٍ يقوم بالمهمّة ذاتها؟ثمّ هل بالإمكان أن يتفرّد شكل واحد، أو مذهب واحد، أو تعبير واحد، من دون أن يكون إلى جانبه ما يماثله أو يناقضه أو يجاريه، أو يتفوّق عليه… إلى آخره؟!

نتيجة بحث الصور عن سقراط

سقراط – فيلسوف وحكيم يوناني – عاش قبل الميلاد لا أثر أدبي له إلا في حوارات أفلاطون

لكن من الجدير القول إنّ تمييز المُهمَل من المُستخدَم ليس بالأمر السهل، فقد تكون هناك مفردات أو جمل أو موضوعات أو فلسفة أو ما شئت… يجري تداولها، على الرّغم من وجودها في الخوابي القديمة المعتَّقة، وإلّا كيف يعيش بيننا سقراط ونتداول نصوص أرسطو؟!

نتيجة بحث الصور عن أرسطو

أَرِسْطُوطَالِيس أو أرسطاطاليس وهو فيلسوف يوناني، تلميذ أفلاطون ومعلم الإسكندر الأكبر، وواحد من عظماء المفكرين.

التحليلات التداوليّة

سندَع مجالات التداوليّة كلّها، من اجتماع وفلسفة وفنّ وعمل وعِلم نفس، ونكتفي بالمجال الأدبيّ، أو لنقُلْ النصّ المكتوب، الذي خضع لكثير من النظريّات البنيويّة والماركسيّة والنفسيّة والتفكيكيّة والتأويليّة… إلى درجة “موت المؤلّف” وموت الأدب” وموت المعنى، بحيث ينحصر الإبداع في الكتابة “في درجة الصفر“. والنصّ بيَد التفكيكيّة سوف يكون مجموعة تناقضات وتنافرات وخواء وفراغ وصدام بين العناصر، بحيث لا يقف القارئ – إذا اتّبع هذه الطريقة – على حقيقة ولا يتحفّز لعمل.

التداوليّة شيء آخر، فهي مقتنعة بأنّ ما يجري تداوله يُمكن فهمه، وإلّا كيف يدخل دورة التداول؟ وما لا يجري تداوله تلتهمه سلّة المهملات، وقد سبق للسينما أن عالجت موضوع البحث عن الكنز الخائب، العظيم حجماً، لكن لا يُصرف في التداولوفي مسرحية توفيق الحكيم “أهل الكهف” يذهب الراعي إلى المدينة ليشتري طعاماً لصحبه، فلا يعرف أحداً فيها ولا يعرفه أحد

نتيجة بحث الصور عن توفيق الحكيم

توفيق الحكيم كاتب مسرحى و روائى مصرى من أكبر كتاب مصر

يُبرز عملته فيقولون له إنّها عملة قديمة باطلة… فالتداوليّة تقف ضدّ العبثيّة التي توصّلت إليها النظريّات السابقة كالتفكيكيّة، وضدّ الجبريّة أو القضاء والقدر، كما أعلنت البنيويّة، وضدّ الأنماط التي تظلّ كما هي إلى الأبد، كما في النقد الأسطوريإلى آخرهوكلمة ضدّ، لا تعني قطع الصلة بهذه النظريّات، بل تصحيح ما تراه من انحرافٍ فيها عن الواقع العَملي الذي يعيشه الناسفالنصّ ليس عبثاً، وليس قضاءً وقدراً، بحيث يجمد إلى الأبدإنّ النصّ جانب من كتلة بشريّة يشكّلها الناس ويعبّر عن جوّها الكتّاب والأدباءولهذا السبب خرقت التداوليّة كلّ جدار وضعته النظريّات السابقة، أو كلّ تشبّث وقفت عنده، فليس الأدب لغة مجرّدة، تقوم على قواعد ثابتة وحدها؛ إنّها تعبيرٌ بشريّ يحمل المتداول بين البشر، وبخاصّة الأفكار والمشاعر والعواطفإلى آخرهولكن كيف نتفاعل مع النصّ؟ هل نحصره باللّسانيات ونكتفي بالمُسند والمُسند إليه وما شابه ذلك؟ أم نكتفي بتفكيكه للوصول إلى خواء العالَم؟ أم نحصره بالعِقَد التي تحدّث عنها فرويد؟ أم نجعله رجع صدىً لأفكارِ الماركسيّة؟

نتيجة بحث الصور عن فرويد

سيجموند فرويد طبيب نمساوي من اصل يهودي- مؤسس مدرسة التحليل النفسي وصاحب الأفكار المثيرة للجدل

إنّ التداوليّة أبعد من ذلك بكثير، فهي ترى أنّ المُتداوَل يشتمل على كَونٍ من العلاقات لا يُمكن لفقه اللّغة وقواعدها ولا لأيّ نظريّة من النظريّات أو عِلم من العلوم استيعابهاإنّ المُتداول بحاجة إلى معرفة اللّغة والأدب والفنّ والفلسفة وعِلم الاجتماع وعِلم النفس، بل أيضاً لا بدّ من معرفة عِلم اللّاهوت، فلا تزال أركان اللّاهوت قائمة ومطروحة في التداولكما أنّ التداوليّة ضدّ الشيئيّة، أي ضدّ أن تكون الكلمة معبِّرة عن شيء مادّي، حتّى نتعامل معهافهناك كلمات غير مادّية مثل الله والشيطان والملاك والروح والنفس والحلم والخيال.. أشياء وأشياء كثيرة جدّاً لا وجود مادّياً لها، ولكنّها مُتداوَلة ويفهمها الناس تماماً، مثل أيّ شيء مادّي آخر، يتداوله الناسفهناك “علاقة” تشتمل على كلّ مجالات التفاهمقد يقال إنّ هناك قصوراً لغويّاً، فاللّغة، أيّ لغة، لا تنقل الفكر نقلاً كاملاً أو دقيقاً كلّ الدقّة… صحيح، ولكن هذا يكشفه التحليل التداوليّ للعلاقةلنفرض أنّنا قرأنا كلمة “آه” في إحدى الروايات أو القصائدإنّها مُبهَمة ولا شكّ، ولكن عندما تكشف التداوليّة عن العلاقة في السياق، فمن المُمكن تقريبها إلى حدٍّ بعيدإنّ التداوليّة رفضت سياسة الأبواب المُغلقة.

أمّا البؤرة والحصر والإشارة والمحور والنداء والاستلزام والتأدّب والكياسة والتواصل والسياق وباقي الأدوات الكاشفة للمغاليق، فلا مكان لها في هذه الفسحة الضيّقة.

المصدر : مجلّة – أفق – الألكترونية الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي

**الباحث والناقد السوري “حنا عبود ” من مواليد 1937 تتضمن مؤلفاته أكثـر من مئة وثلاثين كتاباً, حاز على أكثر من جائزة، منها جائزة اتحاد الكتاب العرب التقديرية في النقد الأدبي، جائزة التكريم الثقافي من مجلس مدينة حمص، جائزة الدولة التقديرية في الدراسات والأدب من وزارة الثقافة العام 2012.. عمل في تحرير مجلة “الآداب الأجنبية” ومجلة “الموقف الأدبي” الصادرتين عن اتحاد الكتاب العرب/ دمشق.. حاضر وشارك في العديد من الندوات والمؤتمرات الأدبية والفكرية في سورية ولبنان وتونس وليبيا والسعودية والإمارات العربية ويوغوسلافيا.

 

 

You may also like