Home لـوثـة إلّاأدب لماذا تجاهل النقّاد ريادة “نزار قباني ” للشعر الحرّ..؟!

لماذا تجاهل النقّاد ريادة “نزار قباني ” للشعر الحرّ..؟!

by رئيس التحرير

د. عبدالله السمطي / كاتب وباحث وناقد مصري – الرياض

 

لا نازك ولا السياب ولا باكثير

        تشكل تحولات البنى الفنية هاجسًا جوهريًّا في فضاء الشعرية العربية، فهذه التحولات لا تتم إلا عبر مراحل مديدة زمنيّا، ولا تنبثق إلا بعد ظهور إرهاصات أولية لها، تتمدد شيئًا فشيئًا وبشكل تدريجي حتى تشكل تجربة جددية وظاهرة عامة.

وإذا نظرنا لتحولات شعرنا العربي سنجد أنه تطور وتغير عصرًا بعد عصر، سواء على المستوى الفني أو الدلالي، على الرغم من بقاء وحدة الشكل الجوهرية له حتى اليوم التي تتشكل من بنية الأبيات والأوزان والقوافي، بيد أن الانبثاقات الجانبية له صنعت آفاقها المجاورة كالموشحات الأندلسية، ثم قصيدة التفعيلة ( الشعر الحر أو الحديث) وقصيدة النثر.

في ظل هذا الوعي حين نقارب ظاهرة شعرية جديدة متحولة، نقاربها كي تتعزز في مجال تاريخ الأدب، وفي مجال الانبثاق الشعري فنيا، لأنها تؤسس إرهاصة أو انبثاقة لوعي جديد ورؤية جديدة.

وفي أفق الشعر العربي المعاصر انبثقت قصيدة التفعيلة أو ( الشعر الحر) بعد إرهاصات كثيفة متعددة، تشكلت أولا في العام 1863 مع ترجمة الإنجيل للعربية، ومع ترجمات الإلياذة، وبعض فصولها من دون قافية على يد بطرس البستاني ، وفي ترجمة سفر أيوب، وفي بعض النتاجات الشعرية البسيطة في مجلة الهلال، وفي بعض الكتابات الشعرية التي شكلتها مدرسة الديوان ثم دعوة خليل مطران للشعر العصري الطليق، ثم بعض كتابات ناجي وأحمد زكي أبو شادي وبشر فارس، ثم ترجمة علي أحمد باكثير لمسرحية ( روميو وجولييت) سنة 1936 ثم نشرها سنة 1946، كما كتب مسرحية ( أخناتون ونفرتيتي) عبر ما دعا إليه بالشعر المرسل. مع دعوات أطلقها لويس عوض وشاذل طاقة، وبلند الحيدري لتحرير الشعر من قوافيه وإيقاعاته الموروثة.

نتيجة بحث الصور عن علي أحمد باكثير

علي أحمد باكثير مؤلّف وباحث ومترجم

كل هذه الأمور التي أسردها بإيجاز شغلت هاجس الشعراء ثم النقاد في تحديد الأرضية التي انبثقت منها قصيدة الشعر الحر التفعيلي . لكن من هو أول من كتب قصيدة معاصرة في الشكل التفعيلي؟

سؤال التأسيس:

لا تتبدى المسألة هنا كنوع من الصراع، كما كان لدى جيل الشعر الحرّ ونقاده، لكن أطرحها كنوع من استشفاف الحقيقة الفنية لا أكثر، ويمكن القول هنا، بعد قراءة مختلف النماذج الشعرية أن أول من كتب قصيدة في هذا الشكل هو الشاعر “نزار قباني “.

لقد كان الصراع على أشدّه بين نقّاد رواد الشعر الحرّ ( التفعيلي)، بل وبين الشعراء أنفسهم، ودارت رحى المعارك الأدبية والمقالات الثقافية، والنقدية حول أسبقية هذا الشاعر أو ذاك، وحول من كان له قصب السبق في كتابة القصيدة الحديثة.

نتيجة بحث الصور عن نازك الملائكة

نازك الملايكة – شاعرة عراقية – عاشت في القاهرة من الرعيل الأول لكتّاب قصيدة التفعيلة

وقد استقر المقام على ريادة  نازك الملائكة ( 23 أغسطس 1923 –  20 يونيو 2007) وبدر شاكر السياب (25 ديسمبر 1926 – 24 ديسمبر 1964) ، حيث نشر كلا منهما نصا شعريا تفعيليا في العام  1947 قبيل صدور الديوان الأول لكل منهما. وظهرت أول قصيدة لنازك في هذا اللون سنة 1947 بعنوان «الكوليرا»، وفي نفس التوقيت تقريباً ظهرت قصيدة «هل كان حبا » للسياب.

نتيجة بحث الصور عن بدر شاكر السياب

بدر شاكر السيّاب الشاعر العراقي الأشهر في تاريخ الحداثة الشعرية

يقول بدر شاكر السياب في مقدمة ديوانه «أساطير»، إن أول تجربة له من هذا القبيل كانت في قصيدة «هل كان حياً» من ديوان أزهار ذابلة، وقد صادف هذا النوع من الموسيقى قبولاً عند كثير من الشعراء الشباب، وتقول نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر: إن بداية حركة الشعر الحر 1947 في العراق، بل من بغداد، وكانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر هي قصيدتي «الكوليرا» وقد نشرت في بيروت، ووصلت نسخها إلى بغداد في أول ديسمبر/‏‏كانون الأول 1947، وفي النصف الثاني من الشهر نفسه صدر في بغداد ديوان بدر شاكر السياب «أزهار ذابلة» وفيه قصيدة حرة الوزن.

صورة ذات صلة

النصب التذكاري للشاعر العراقي بدر شاكر السياب الأشهر في تاريخ الحداثة الشعرية

“تقول نازك في كتابها:” لمحات من سيرة حياتي وثقافتي” : في يوم الجمعة 27 أكتوبر 1947 أفقت من النوم، وتكاسلت في الفراش أستمع إلى المذيع وهو يذكر أن عدد الموتى بلغ ألفًا في مصر عقب انتشار مرض الكوليرا، فاستولى علي حزن بالغ، وانفعال شديد، فقفزت من الفراش، وحملت دفترًا، وغادرت منزلنا الذي يموج بالحركة، والضجيج ، وكان إلى جوارنا بيت شاهق يبنى…وكان خاليًا لأنه يوم عطلة العمل، فجلست على سياج واطئ، وبدأت أنظم قصيدتي المعروفة الآن “الكوليرا” وكنت قد سمعت في الإذاعة أن جثث الموتى كانت تحمل في الريف المصري مكدسة في عربات تجرها الخيول”.

لكن مع كثرة البحث، والحب الفضولي لدى بعض النقاد للحضور أو الكشف أو البحث النقدي، تم تداول عدة أسماء أخرى من بينها : علي أحمد باكثير وبشر فارس، لكن لم يذهب أحد لذكر الشاعر نزار قباني على الإطلاق، وخلا هذا الذكر حتى من الكتب النقدية الرائدة التي احتضنت ووثقت لتجارب الشعر التفعيلي، مثل كتاب نازك الملائكة:” قضايا الشعر المعاصر” وكتاب إحسان عباس وكتاب عزّ الدين إسماعيل.

فهل قدم نزار قباني قصيدة في الشعر التفعيلي سبق بها الجميع؟

قصيدة اندفاع وقالت لي السمراء:

لو تأملنا في الديوان الأول لنزار قباني :” قالت لي السمراء” الصادر في في طبعته الأولى في سبتمبر 1944 لوجدنا قصيدة تفعيلية بازغة، بعنوان:” اندفاع” ولا أدري لماذا لم ينتبه لها النقاد ولم يدرجوها ضمن محاوراتهم ونقاشاتهم ومعاركهم الأدبية ؟ مع أنها تحمل كل شروط الشعر التفعيلي وربما تتفوق فنيا على قصيدتي نازك والسياب.

نتيجة بحث الصور عن نزار قباني

نزار قباني – شاعر دمشقي – عمل في السلك الدبلوماسي ممثلاً سوريا في أكثر من عاصمة عربية وأوربية

كما لا أدري لماذا تم تجاهل هذا السبق النزاري حتى في مختلف الكتابات التي تؤرخ لريادة الشعر الحر.

تقول القصيدة :

أريدكِ

أعرفُ أني أريد المحالْ

وأنك فوق ادعاء الخيالْ

وفوق الحيازة فوق النوالْ

وأطيبُ ما في الطيوب

وأجملُ ما في الجمالْ

أريدكِ

أعرفُ أنكِ لا شيء غير احتمالْ

وغير افتراض

وغير سؤال ينادي سؤالْ

ووعدٍ ببال العناقيد

بال الدوالْ

أريدكِ

أعرف أن النجومْ

أرومْ

ودون هوانا تقومْ

تخومْ

طوال طوال

كلون المحالْ

كرجع المواويل بين الجبالْ

ولكن على الرغم مما هوَ

وأسطورة الجاه والمستوى

أجوب عليك الذرى والتلالْ

وأفتح عنكِ عيون الكوى

وأمشي .. لعليَ ذات زوالْ

أراك.. على شقرة الملتوى

ويوم تلوحين لي

على لوحة المغرب المخملي

تباشير شالْ

يجر نجوما

يجر كروما

يجر غلالْ

سأعرفُ أنك أصبحتِ لي

وأني لمستُ حدود المحالْ .

القصيدة من بحر المتقارب ، الذي لو جاء في شكله العمودي سيكون عبر ثماني تفعيلات أربع في كل شطر، هكذا:

فعولن فعولن فعولن فعولن.. فعولن فعولن فعولن فعولنْ

وقد تدخل العلل والزحافات فيحذف سبب خفيف ( لن) من تفعيلتي العروض والضرب، وقد يصبح مجزوءا بالكتابة عبر أربع تفعيلات فقط، وهناك من الشعراء من يكتب في ست تفعيلات وهكذا.

في الشعر الحر لا تنتظم هذه البنى تماما، ولا تلزم، لأن الشاعر يعتمد على السطر الشعري لا على البيت الشعري.

وكل الجهد الإيقاعي الذي قدمه الشعراء التفعيليون يتمثل في الانتقال من البيت إلى السطر، وتوزيع التفعيلات حسب ما تجود به القريحة والمخيلة وقت الكتابة، مع الإبقاء على القافية أو عدم الإبقاء عليها.

نزار قباني في هذه القصيدة يكتب أسطرا شعرية لا أبياتا شعرية، فهو يوزع التفعيلات بالشكل الحر لا بالشكل العمودي.

نتيجة بحث الصور عن نزار قباني

تتشكل القصيدة من  ثلاثة مقاطع، المقطع الأول يتكون من 6 أسطر شعرية ، الأول جاء في كلمة والبقية ما بين ثلاث أو أربع كلمات، وما يعنينا هنا عدد التفعيلات في كل سطر، ففي السطر الأول تفعيلة ( فعولن + حرف الكاف) ومع التدوير يصبح السطر التالي مكونا من ( 4 تفعيلات) ثم الثالث والرابع من أربع تفعيلات، ثم الخامس والسادس من ثلاث تفعيلات.

في المقطع الثاني تتبدى صورة الشعر الحر تماما ، حيث تتوزع الأسطر ما بين تفعيلة ثم أربع تفعيلات، ثم تفعيلتين، ثم أربع فثلاث فاثنتين.

كما يتجلى ذلك أيضا في المقطع الثالث من القصيدة حيث تتوزع الأسطر الشعرية على شكل تفعيلات متتابعة ما بين واحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع.

من هنا يتبدى تماما لنا أن نزار قباني قدم نموذجا شعريا في فضاء الشعر الحر بشكل مبكر، وربما تكون هذه القصيدة نشرت من قبل في العام 1943 أو في العام نفسه الذي صدر به الديوان ( صدر في سبتمبر 1944) وهو الأمر الذي يؤكد أسبقية نزار قباني في كتابة الشعر الحر وريادته له.

إشارات:

نتيجة بحث الصور عن نازك الملائكة

قصيدة نازك الملائكة :

الكوليرا :

سكَن الليلُ

أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ

في عُمْق الظلمةِ, تحتَ الصمتِ, على الأمواتْ

صَرخَاتٌ تعلو, تضطربُ

حزنٌ يتدفقُ, يلتهبُ

يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ

في كل فؤادٍ غليانُ

في الكوخِ الساكنِ أحزانُ

في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ

في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ

هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ

الموتُ الموتُ الموتْ

يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ

طَلَع الفجرُ

أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ

في صمتِ الفجْر, أصِخْ, انظُرْ ركبَ الباكين

عشرةُ أمواتٍ, عشرونا

لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا

اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين

مَوْتَى, مَوْتَى, ضاعَ العددُ

مَوْتَى, موتَى, لم يَبْقَ غَدُ

في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ

لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ

هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ

الموتُ الموتُ الموتْ

تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ

الكوليرا

في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ

في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ

استيقظَ داءُ الكوليرا

حقْدًا يتدفّقُ موْتورا

هبطَ الوادي المرِحَ الوُضّاءْ

يصرخُ مضطربًا مجنونا

لا يسمَعُ صوتَ الباكينا

في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداءْ

في كوخ الفلاّحة في البيتْ

لا شيءَ سوى صرَخات الموتْ

الموتُ الموتُ الموتْ

في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ

الصمتُ مريرْ

لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ

حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ

الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ

الميّتُ من سيؤبّنُهُ

لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ

الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ

يبكي من قلبٍ ملتهِبِ

وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّيرْ

يا شبَحَ الهيْضة ما أبقيتْ

لا شيءَ سوى أحزانِ الموتْ

الموتُ, الموتُ, الموتْ

يا مصرُ شعوري مزَّقَهُ ما فعلَ الموتْ

 نتيجة بحث الصور عن السياب 

قصيدة السياب: هل كان حبا ؟

………..

هَلْ  تُسمّينَ الذي ألقى هياما ؟

أَمْ جنوناً بالأماني ؟ أم غراما ؟

ما يكون الحبُّ ؟ نَوْحاً وابتساما ؟

أم خُفوقَ الأضلعِ الحَرَّى ، إذا حانَ التلاقي

بين عَينينا ، فأطرقتُ ، فراراً باشتياقي

عن سماءٍ ليس تسقيني ، إذا ما ؟

جئتُها مستسقياً ، إلاّ أواما

       *  *  *

العيون الحور ، لو أصبحنَ ظِلاً في شرابي

جفّتِ الأقداحُ في أيدي صِحَابي

دون أن يَحْضَينَ حتى بالحبابِ

هيئي ، يا كأسُ ، من حافاتكِ السَّكْرَى ، مكانا

تتلاقى فيه ، يوماً ، شَفتانا

في خفوقٍ والتهابِ

وابتعادٍ شاعَ في آفاقهِ ظلُّ اقترابِ

*  *  *

كم تَمَنَّى قلْبِيَ المكلومُ لو لم تستجيبي

من بعيدٍ للهوى ، أو من قريبِ

آهِ لو لم تعرفي ، قبل التلاقي ، من حبيبِ!

أيُّ ثغرٍ مَسَّ هاتيك الشفاها

ساكباً شكواهُ آهاً … ثم آها ؟

غير أنّي جاهلٌ معنى سؤالي عن هواها ؛

أهو شيءٌ من هواها … يا هواها ؟

*  *  *

أَحْسدُ الضوءَ الطروبا

مُوشكاً ، مما يلاقي ، أن يذوبا

في رباطٍ أوسع الشَّعرَ التثاما ،

السماء البكرُ من ألوانه آناً ، وآنا

لا يُنِيلُ الطَّرْفَ إلاّ أرجوانا

ليتَ قلبي لمحةٌ من ذلك الضوءِ السجينِ ؛

أهو حُبٌّ كلُّ هذا ؟! خبّريني

 

خاصّ – إلّا – 

You may also like