Home إلّا ثلجُ باريس.. وحرائقُ الشرق

ثلجُ باريس.. وحرائقُ الشرق

by رئيس التحرير

سامي كليب / إعلامي وصحافي لبناني – قناة الميادين – بيروت

وصلت إلى باريس صباح اليوم في طريقي الى الدار البيضاء بالمملكة المغربية للمشاركة في معرض الكتاب العريق.جذبني إلى عاصمة الانوار اليوم ثلجها الذي ندر هطوله في العقود الماضية هنا. لا تحتاج باريس لفستان عرسها الأبيض كي تبدو عروسا فاتنة . ثمة مدن حباها الله بطبيعة خلابة ووهبها ساسة ومهندسين عرفوا كيف يبنون بيوتها وشوارعها وجسورها وتماثيلها، ويقيمون فيها المتاحف والمسارح ودور الأزياء والمحال المنظمة المرتبة فتصبح ثاني اكثر عواصم العالم جذبا للسيّاح بعد اسبانيا بحيث تستقبل سنويا أكثر من ٣٢ مليون سائح .

عرف الساسة والمثقفون المبدعون في باريس كيف يصنعون من الثقافة والإبداع فيها عوامل جذب. وعرف الشعّ الفرنسي كيف يحفظ لمبدعيه جميلهم، فترى أمام المؤسسات وفوق الجسور وفي الحدائق العامة الخضراء تماثيل الكتاب والمفكرين والفلاسفة والمبدعين، وليس تماثيل ساسة أو رؤوساء، أو حكام ( خلافا للحال عندنا حيث تكثر التماثيل وتقلّ الكرامة وينتشر القهر والفساد) .

التمجيد هنا يكون لكاتب بحجم فيكتور هوغو، أو موليير، أو روسو، وغيرهم أو يكون لجنود مجهولين قاوموا الاحتلال ولم تُلصَق بهم تهمة الإرهاب وإنما صاروا أوسمة على صدور الناس والطبيعة والجمال .

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏سماء‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏

برج إيفل ونهر السين بعدسة سامي كليب الشخصية

يعلن قائد الطائرة استعداده للهبوط في باريس . أنظر من النافذة صوب السهول الشاسعة والغابات الكثيفة والبيوت القرميدية، فإذا هي مكللة بتاج من ثلج ناصع، كأنما الله رمى على المدينة وطبيعتها شالا من صفاء اللون والروح ..أشعر بشيء من قشعريرة البرد بمجرد النظر، لكن الدخان المتصاعد من مرافئ البيوت القرميدية العتيقة يعيد إليّ الدفء والفرح ..

كنت في رحلتي من بيروت أجاور إلى يساري شابّاً لبنانيا وزوجته. يبدوان سعيدين بالرحلة من على ثلاثين أعوامهما. تعارفنا سريعا ففهمت أنهما ذاهبان إلى باريس لقضاء إجازتهما الأولى بعد أن بلغ مولودهما الستة أشهر. يبدوان لطيفين لكن على غرار كل اللبنانيين هذه الايام، يشكوان من قرف السياسة ومن الفساد والقهر ومن بلوغ التلوث درجة مضاعفة السرطان ٣ مرات ..تمنينا نحن الثلاثة ألّا “يصوّت ” اللبنانيون قريباً لمن يقتلهم.

أما على يساري فكان رجل دمشقي سبعيني العمر يبتسم لي. سألته عن وجهته فقال كندا . هو يعيش هناك منذ ٢٠ عاما، لكنه لم يقطع زياراته إلى سوريا رغم كل ما حصل، كان يخشى أن لا يعود المهاجرون الذي غادروا سوريا بسبب الحرب، كان يبدو قلقا على وطنه وحزينا على ما آلت إليه أوضاعه…كان جالسا شبه متعب على كرسيه. يتّكيء قليلا على عكازه الخشبي الاسود، سألته إن كان مريضا أو بحاجة لأيّة مساعدة.. ابتسم شاكراً وقال: لا أحتاج إلى شيء الحمدلله، عندي فقط بعض الألم في ظهري، وحضرتك تعرف المجتمعات الغربية حين يرون معك عكازاً في المطار أو وسائل النقل العام يهرعون لمساعدتك وفتح الطريق لك..، سألته هل يفكّر بالعودة للعيش في سوريا؟.. برقت عيناه بما يشبه الدمع، وقال: يا حسرتي على سوريا، أنا ابن دمشق، أحمل بلدي في قلبي ودمي وشراييني وأبحث كل يوم عن بصيص أمل كي أعود… لن تجد يا أخي سامي سورياً واحداً، يحبّ أن يعيش في غير سوريا، لكن لعنة الله على من أوصلنا إلى هنا …إنها مؤامرة لتدمير بلدنا الغالي …ثمّ صمت ونام طيلة الرحلة وأنا انظر إلى شعره الأبيض وجسده المتعب فوق السمنة الزائدة، وأدعو له بأن يستطيع العودة يوما ما ويساهم في إعادة بناء النفوس قبل الحجر …

خرجت من المطار متحمّساً لرؤية ثلج باريس.. مذّ كنت طالباً هنا قبل أكثر من ربع قرن لم أر هذه الكثافة من الحلّة البيضاء، ركبت سيارة تاكسي. كان السائق عشريني العمر، يبدو من أبناء الضواحي الفرنسية، قلت له مقصدي، ثم اضفت : ” رائعة باريس بهذا الثلج”، سوّى قليلا المرآة الأمامية كي يستطيع رؤيتي جيدا.. ثم قال : ” ليست رائعة ولا جميلة، نحن لسنا معتادين على الثلج هنا، ولا نعرف كيف نسير في الشوارع، وكثير من الناس أمس لم يصلوا إلى بيوتهم”، ضحكت وقلت له: ” يا سيدي العزيز. انتم الفرنسيون دائمو التأفّف، وهبكم الله أجمل ما عنده ولا تعرفون التمتع بهذه النعمة”. ابتسم على غير عادة الباريسيين في هكذا حوارات.. وقال: ” ربّما معك حقّ، فأنتم في بلادكم تعيشون حروباً، ونحن هنا لو نزل المطر نتأفّف ولو ارتفعت الحرارة نتأفّف”. ثم ضحكنا وما عدنا حكينا شيئاً حتى وصلت إلى المنزل ..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏ثلج‏، و‏‏سماء‏، و‏سيارة‏‏‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏

طغيان الثلج على طرقات وشوارع باريس وإرباك واضح على حركة السير

تعبتُ قليلا من رحلة الفجر، تنازعني شعوران، هل أنامُ قليلا، ثمّ أصحو بعد الظهر للتمتع بجمال الثلج في باريس وحول برج إيفل الشهير؟

أم أذهب الآن للسير والتمتّع بالشمس التي اخترقت الغيوم وجاءت بدفئها المناقض تماما للثلوج.؟..كان راديو السيارة قبل ترجّلي منها ينذر بمزيد من الثلج الليلة.

فاخترت أن انتهز فرصة الشمس المؤقّتة، وأن أحمل كاميرتي لأنقل لكم بعضاً مما رأيت.. وما رأيته كان بهيّاً وباعثاً على راحة النفس ..
وها أنيّ أعودُ الآن إلى المنزل، بعد أن كحّلت عيني بهذه العروس البيضاء الساحرة .. أعود وفي ذهني وقلبي حكمة واحدة.. فعلاً “ثمّة ما يستحقّ الحياة على هذه الأرض ” كما قال درويش،..

لكن متى يصبح عندنا ساسة ومثقفين ومبدعين يهتمون بشعوبهم ومدنهم لا بعروشهم وجشعهم. في بلادنا جمال كثير وخيرات وافرة، وكل ما بنقصنا هو بعض ضمير وصدق وكرامة……

غدا تبدأ رحلتي إلى المملكة المغربية، العريقة، ،الجميلة، والحاضنة تاريخاً قديماً من الحضارة والسحر والجمال …وفيها سألتقي طبعاً بالناس الطيبين المحبيّن الذين أعتزّ بهم…

يا لها من رحلة مرتقبة غداً من باريس البيضاء إلى الدار البيضاء، هذا إذا لم يَحُل الثلج من ركوب الطائرة ….

 

من صفحة الإعلامي د. سامي كليب على ال facebook

You may also like