Home إلّا مبحثٌ إشكاليّ هل “السنّة قاضية على القرآن وناسخة له “

مبحثٌ إشكاليّ هل “السنّة قاضية على القرآن وناسخة له “

by رئيس التحرير

رشيد أيلال/ كاتب وصحفي وباحث مغربي – مراكش

 

“السنّة قاضية على القرآن ” من يقرأ هذا العنوان سيصاب بالدهشة  في أول وهلة، حيث أن المنطق يقول: إذا كان القرآن هو أول أصل من أصول التشريع بالاتفاق، وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من مخلفه، فكيف ساغ لهؤلاء القول بأن السنّة قاضية على الكتاب؟ !

وفي هذا روى الدارمي في سننه عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: “السنّة قاضية على القرآن، وليس القرآن بقاض على السنّة “.

قال الزركشي في كتابه البحر المحيط: (مسألة [حاجة الكتاب إلى السنّة] قال الأوزاعي: الكتاب أحوج إلى السنّة من السنّة إلى الكتاب. قال أبو عمر: يريد أنها تقضي عليه، وتبين المراد منه، وقال يحيى بن أبي كثير: السنّة قاضية على الكتاب).

إذن من خلال هذه النقول نجد أن هؤلاء الشيوخ اعتبروا المرويات المأثورة عن النبي، وهي في غالبها العام ظنيّة الثبوت، قاضية وحاكمة على القرآن القطعي الثبوت، وهذا كلام فيه خبء معناه ليست لنا عقول، فمن يتجرّأ على هذا القول بهذا الشكل، وبدون أن يرفّ له جفن، سأشكّ في عقله إن لم أشكّ في إيمانه، لذلك  فقد ورد في كتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر أن  الإمام أحمد بن حنبل  لما سئل عن القول بأن السنة قاضية على الكتاب قال: “ما أجسر على هذا  أن أقوله بل أقول أن السنّة تفسّر القرآن وتبيّنه “.

ولا زال في عصرنا هذا من يرفع الحديث إلى مرتبة أعلى من القرآن، وإن كان يردّد كالببّغاء مقولة أن القرآن هو الأصل الأول للتشريع، لأنه عمليّا يكذّبها بجعله السنّة قاضية على القرآن، بمعنى أنه إذا وجدت نصّاً في الحديث يتعارض جملة وتفصيلاً مع القرآن فالحديث هنا قاضٍ على القرآن، وهذا ما يفسّر اتباع العديد من الشيوخ ما ورد في الأحاديث، ضاربين بعرض الحائط كل الآيات والأحكام الواضحة الواردة في القرآن، ويمكن أن نضرب العديد من الأمثلة لذلك .

عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى رواه البخاري ومسلم .

هذا الحديث يخالف جملة وتفصيلا قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّ‌شْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ‌ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْ‌وَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ سورة البقرة آية 256. ، وقوله تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا﴾ سورة الكهف الآية 29. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) يونس : 99.

لكن هؤلاء يضربون بهاته الآيات عرض الحائط ويقولون لك بكل وقاحة وجرأة على الله، السنّة قاضية على الكتاب، ويبقى حكم الحديث هو النافذ، ويتجلّى في قتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله …. الحديث، أما أنا فأقول وقلبي مطمئن بأن هذا الكلام ليس من كلام رسول الله الذي كان خلقه القرآن، والذي قال عنه الله تعالى في محكم تنزيله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء:107

عن عائشةَ رضي الله عنها؛ أنها قالت: “كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن. ثم نسخن: بخمس معلومات. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ فيما يقرأ من القرآن”.( صحيح مسلم:كتاب الرضاع؛ باب التحريم بخمس رضعات.

فهذا الحديث المنسوب إلى أمّنا عائشة يتّهم القرآن بالتحريف والتزوير رغم أن الله تعالى يقول في محكم كتابه: ) إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:10، فهي تقول حسب نص هذا الحديث أنّ رسول الله مات وآية التحريم بخمس رضعات مما يُتلى من القرآن، وأيّ دارس يمكنه التأكّد أنه لا توجد آية قرآنية واحدة في كتاب الله بهذا المعنى، وبهاته الدلالة، لكن المرويات الغريبة كهاته والقادحة في صدقية القرآن لا مجال لمناقشتها من طرف هؤلاء مع كامل الأسف، ويمكننا أن نأتي بعشرات بل مئات الأحاديث التي تعارض القرآن جملة وتفصيلا، بل تُسيء أيضا إلى مقام الألوهية والرسالة معا، والماتحة من مستنقع الخرافة، والمصادمة للعلم والعقل، من كتب الحديث بما فيها صحيح البخاري، لكن اكتفينا بهذين المثالين ليعرف القارئ ماذا نقصد.

 

السنّة ناسخة للقرآن

بعد أن حكموا بأن السنة قاضية على الكتاب، بمعنى أنها مبيّنة ومفسّرة وحاكمة، لم يجدوا مخرجاً لإزاحة التناقضات الواضحة للحديث في مواجهة القرآن، إلا أن يحكموا بأن السنة ناسخة للقرآن، وهم بذلك عملوا أيضا على تكريس مبدأ السيادة المطلقة للمرويات على كتاب الله، فلم يعد له أي دور في حياة الناس، إلا أن يتلى لطرد الشياطين، أو يسترقى به لدفع الأمراض، أو للقضاء المبرم على العين والحسد، أي أنهم ربطوه بالخرافة، وجعلوا منه وسيلة للاسترزاق، في حين أن كتاب الله جاء ليشكّل نبراسَ حياتنا، وهدى سبيلنا، ومنجاة لنا من الضلال، وجامعا لنا من الفرقة.

وفي هذا الخبل  بوّب الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه  ” الكفاية في علم الرواية ” (ص/23) بقوله : ” باب ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله تعالى، وحكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في وجوب العمل، ولزوم التكليف ”

وأورد تحته حديث المقدام بن معد يكرب  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال” :ألا إني أوتيت من القرآن ومثله معه.. الحديث “.

رواه الترمذي (2664) وقال : حسن غريب من هذا الوجه . وحسنه الألباني في ” السلسلة الصحيحة “2870.

وفي مناقشة هذا الحديث والتعقيب عليه للكاتب الأريب محمود أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية ما يريح النفس ويرتاح إليه العقل، أنقله عنه :

“ألا و إني أوتيت الكتاب و مثله معه ” و في رواية : ” ألا إني أوتيت القران و مثله معه “. و هذا الحديث من أغرب ما قذفته الرواية في سيلها..، لأن النبي إذا كان قد أوتى مثل “الكتاب ” أو مثل القران “، فمعنى ذلك أنه قد أوتي ذلك ليكون تماما على القرآن و إكمالا له لبيان  دينه و شريعته – و إذا كان الأمر كذلك فلمَ لَمْ يعنِ النبي بكتابة هذا المثل  في حياته، كما عنى بكتابة القرآن ؟.

ولمَ لَمْ يجعل له كتابا يقيّدونه عند نزوله، كما جعل للقرآن كتابا؟ و لمَ اقتصر في النهي عن كتابةٍ غير القران و أغفل هذا المثل فقال : ” لا تكتبوا عنّي شيئا غير القران “، و لم يقلْ  و غير ما أوتيته معه و هو “مثله !!”.

و هنا يجوز لسائل أن يسأل :

هل يصحّ أن يدع النبي نصف ما أوحاه الله إليه يغدو بين الأذهان بغير قيد، يمسكه هذا، و ينساه ذاك، و يتزيّد فيه ذلك! مما يصيب غير المدون في كتاب محفوظ؟

و هل يكون الرسول بعَمَلِهِ هذا  قد بلّغ الرسالة على وجهها وأدّى الأمانة كاملة إلى أهلها، وأين كان هذا الحديث عندما قال النبي في مرضه الأخير الذي انقلب بعده إلى ربه، و بعد أن نزلت الآية :”اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي، و رضيت لكم الإسلام دينا ”

إني و الله ما تمسكوا علي بشيء، إني لم أحلّ إلا ما أحلّ القرآن و لم أحرّم إلا ما حرّم القرآن[1]، ثمّ أين كان هذا الحديث عندما قال أبو بكر للناس: بيننا و بينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله و حرّموا حرامه !

و حين قال عمر:” عندما طلب النبي (صلى الله عليه و سلم ) و هو يحتضر أن يكتب للناس كتابا لن يضلّوا بعده : حسبنا كتاب الله !”.

و لمَ لَمْ يشفق عمر من ضياع هذا ” المثل”، و هو بزعمهم نصف ما أوحى الله به إلى النبي، فيذكره لأبي بكر عندما فزع في أن يجمع القرآن و يكتبه بعد وقعةِ اليمامة ؟ !

ثم أين كان هذا المثل عندما أجابت عائشة في خلق النبي، إذا كان عليها أن تقول كان خلقه القرآن و مثله معه ؟

و لكنها اكتفت بقولها : كان خلقه القرآن !

و أين ذهبت عناية الصحابة بهذا “المثل ” فلم يكتبوه كما كتبوا القرآن في زمن أبي بكر، و عندما نسخ في عهد عثمان، ووزعت نسخة على الأمصار ؟.

ألا أنهم بإهمالهم هذا الأمر الخطير إنما يكونون قد تركوا “نصف الوحي ” بغير تدوين، و يصبحون بذلك من الآثمين.” مقتطفات من كتاب أضواء على السنّة المحمّديّة .

ومهما بحثت عن حلّ لهذا الخبل الذي يروونه وينسبونه إلى الرسول، فلن يعتدل لديك ميزان، ولن يستقيم لديك منطق، سيما إذا علمت أن الشيوخ المتقدّمين اختلفوا اختلافا كبيراً في مسألة أنّ السنّة تنسخ القرآن، لكن المتأخرين أو معظمهم يأخذون من هذا الاختلاف شمّاعة يهربون بها من كتاب الله، فيضعون فتوى الفقيه الذي يجب أن يكون في مكانه النسبي في المكان المطلق، وهنا أنقل لكم ما جاء عن الشيخ محمد صالح المنجد المشرف العام على موقع إسلامكا على هذا الرابط https://islamqa.info/ar/138742

يقول:” وأما مسألة نسخ السنّة لنصوص القرآن الكريم، فقد اختلف فيها العلماء على قولين :

القول الأول : لا يجوز نسخ السنّة الآحادية لنصوص القرآن الكريم : وهو قول جماهير الأصوليين .

بل إن الشافعي في ” الرسالة ” (ص/106-109) وأحمد رحمهما الله اختارا عدم جواز نسخ السنة المتواترة للقرآن الكريم، واختاره أيضا ابن قدامة، وابن تيمية .

يمكن مراجعة المسألة بتوسع في : ” البحر المحيط ” للزركشي الشافعي (5/262-272)

القول الثاني : يجوز نسخ السنة الآحادية لنصوص القرآن الكريم، وإليه ذهب بعض الأصوليين من الحنفيّة كما في ” (3/62)، وهو اختيار السبكي في ” جمع الجوامع ” (ص/57) حيث قال: ” والنسخ بالقرآن لقرآن وسنة، وبالسنة للقرآن، وقيل يمتنع بالآحاد، والحق لم يقع إلا بالمتواترة “.

وهو اختيار العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، حيث يقول :

” الذي يظهر لنا أنه الصواب : هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخّرها عنه، وأنه لا معارضة بينهما، لأن المتواتر حق، والسنّة الواردة بعده إنما بيّنت شيئاً جديداً لم يكن موجوداً قبل، فلا معارضة بينهما البتّة لاختلاف زمنهما .

فقوله تعالى : ( قل لا أجد في ما أوحي إليّ محرّماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهلّ لغير الله به، فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم )

يدل بدلالة المطابقة دلالة صريحة على إباحة لحوم الحُمر الأهلية، لصراحة الحصر بالنفي والإثبات في الآية بذلك .

فإذا صرح النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوم خيبر في حديث صحيح بأن لحوم الحُمر الأهلية غير مباحة، فلا معارضة البتّة بين ذلك الحديث الصحيح، وبين تلك الآية النازلة قبله بسنين، لأن الحديث دلّ على تحريم جديد، والآية ما نفت تجدّد شيء في المستقبل كما هو واضح .

فالتحقيق – إن شاء الله – هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخّرها عنه، وإن خالف فيه جمهور الأصوليين”. ” أضواء البيان ” (2/451-452)

هذا نموذج صارخ عن شيوخ اليوم الذين يميلون إلى  إقصاء القرآن والتمكين للمرويّات، وقولهم على الله ورسوله بهتانا عظيما،  فحتى بعد سرده للاختلاف الكبير بين الفقهاء في هذا الشأن، إلا أنه أظهر ميوله للنسخ معتبراً إياه الرأي السديد بعد التحقيق طبعا، وأي تحقيق !!!

وهنا أتساءل والحرقة تعتصر قلبي وتغتصب عقلي اغتصابا، إذا كان كتاب الله الذي مصدره المطلق اللانهائي، صاحب العلم الكلي، يُنسخ وتلغى أحكامه لصالح مرويات بشرية نسبيّة في كل شيء، حتى لو صحّت نسبتها إلى الرسول الكريم، فما معنى نزول هذا الكتاب إلينا، وما الفائدة منه، وهو غير قائم بذاته ويحتاج إلى غيره، مما هو أقل منه منزلة بأشواط إن صحّ التعبير، وإلا فإن كلام الله لا يقارن بغيره، تعالى الله عما يصفون.

 

خاصّ – إلا –

 

You may also like