Home سياسة إلّا خطأ الحراك المضلل تحت شعار المعارضة

خطأ الحراك المضلل تحت شعار المعارضة

by admin

حزيران/يونيو 2015

hqdefault

ميسـاء المصري
باحثة في الشؤون السياسيـة ومستشارة إعلاميـة
عمان – الأردن

 

    تعرضت سوريا في سنيّها التي تلت ثورتها المشار إليها بالبنان من بين ثورات الربيع العربي بأنها الأعنف والأكثر التحاماً على طريق التغيير الديمقراطي كما في شعار هذه الثورة، إلى أقسى ما يمكن تسميته معاناة أو قريبا من الكارثة في مرحلة ما بعد الحربين العالميتين.

    فبعد مرور أربع سنوات من عمر الثورة السورية، بقيت ساحاتها مسرحا لمعاناة رهيبة وقدر هائل من الوحشية والبطش، حتى بدا لسان الحال في داخل البلاد وخارجها هل بات حلا قريبا لما يجري في سوريا؟ في ظل حالة الضبابية العائمة في البلاد والتي تحولت إلى أزمة سياسية ألقت بظلالها على الساحتين الإقليمية والدولية، وفتحت الباب واسعا أمام القوى الخارجية الطامعة والمتمصلحة بلعب أدوار مشبوهة تارة وربما تأزيمية في كرة أخرى، كمن صب الزيت على النار أو كمن بنى قصرا وهدم مصرا، وذلك هو الحال في سوريا اليوم.

    فمنذ أن بدأت الأزمة تشق طريقها نحو الساحة السورية واستنفار النظام قواته وزبانيته في الداخل واستعداء تحالفاته في الخارج للدفاع عن الشرف العربي والممانعة العربية تحت شعار المؤامرة التي تحاك دوليا وإقليميا للوقيعة بالبلاد كما وقع العراق من قبل، هذا ما استمسك به النظام السوري في رؤيته للحراك الذي جاب الشوارع مطالبا بالحرية والتغيير، بل وقلّده وسام التضليل والخيانة.

    لا يعلو في سوريا اليوم غير صوت الرصاص وحمى البراميل المتفجرة وحمحمت القذائف التي لا تميز بين البشر والحجر وحتى الحيوان، فكل شيء في سوريا بات مستهدفا للصراع العسكري المدوي بين نظام باطش يسعى للبقاء ومعارضة طائشة تسعى للحكم والسلطة. وبين الرايتين شعب كامل ضاع أمله في حاضره وتاه طموحه في مستقبله، ليس من صراع دامٍ عرف هذا الاستعصاء عن الحل المزمن المثقل بالضحايا والخراب والمهجرين طواعية وقسراً كالصراع السوري، وليس من شعبٍ وصلت مأساته بسرعة قياسية إلى هذا العمق والاتساع من الانسداد كما الشعب السوري، وليس من وقت فارقٍ لحت فيه الحاجة لكلمة الخارج في استنقاذ ما بقي من أمل لدى السوريين أكثر من الوقت الراهن، وأي فصل من فصول الأزمة يلزمنا أن نعتاشه حقيقة لبلوغ لاستقدام دور أممي فاعل يوقف الجرح النازف والدم السائل أو يضع حداً لهذا البطش المفرط في بلد كسوريا التي طابت لها العرب والعجم كما في معاجم البلدان والشعوب.

    عن الأزمة السورية أتحدث، وأي ثورة هي تلك التي صوتها الرصاص الصاخب ولونها الدم المراق ومشربها التطييف القاتم، حتى انقسم الشعب إلى فسطاطين متناحرين، الأول يذود عن حمى الوطن ومكانتها في النظام العربي تحت شعار احتواء المؤامرة، والثاني يلوذ إلى شظف المنصب وشغف السياسة تحت شعار المعارضة والحراك نحو التغيير. لما كانت المعارضة هي البادئة بتحريك المياه السورية الراكدة على هبة رياح الربيع التونسي، فهي أكثر الأطراف جدارة بالتوقف عند وضعيتها لإعداد كشف حساب على صعيد حراكها الداعي للتغيير لجهة تقييم مكاسبها وخسائرها طوال أربعة سنوات مضت على الثورة، إذ أن صاحب المبادأة هو الأحرى بامتلاك أهداف محددة ومشروع واضح يسعى لتحقيقه، فالحراك جاء عن عمد وسبق إصرار وليس بطريق الاضطرار.

    لم يخلو الأمر من مجازفة خطيرة وقعت فيها المعارضة في تبني الحراك الثوري على هذه الشاكلة، لأن صدى الحراك الذي نسف ثورة حماة السورية في ثمانينات القرن الماضي لم يزل حاضرا في ذهن النظام الحاكم، فيما لم يكترث له العالم الخارجي الذي وقف داعما ومؤيدا لحراك المعارضة تحت ذريعة الديمقراطية والتغيير نحو الأفضل، كيف تستوي هذه الرؤية مع العسكرة التي اتجهت لها المعارضة بإيعاز دولي وتواطؤ إقليمي لجهة تكريس الأزمة وتأزيم الموقف، فتدمير سوريا اليوم كان دويه عكسيا، إذ يقف المجتمع الدولي كله متفرجا، إزاء مأساة إنسانية لم تسبق في التاريخ المعاصر، وربما كانت المفارقة كاشفة عن شيء آخر، فضلا عن متغيرات اتجاهات الريح السياسية بطبيعة الحال، وهو ما يتمثل في ازدواجية مفهومي الثروة والمؤامرة اجتمعا في بلد كسوريا التي لها ثقلها السياسي ووزنها العسكري في منطقة قُدر لها أن ترتبط بسياسات الخارج وصراعاته الدائمة.

    لقد تحولت الثورة في سوريا إلى درس ومثال تتكئ عليه الأطراف التي لا تريد الثورة، وتلك التي تتخوف منها، فالنظم بدورها باتت تنذر بأن كل ثورة مآلها ما وصلت إليه الأوضاع في سوريا من دمار وخراب وتهجير، ولهذا تحذّر شعوبها من مجرد التفكير في الثورة، وعلى النقيض من يدافعون عن النظم يشيرون أيضا إلى الأزمة السورية وما انزلقت إليه البلاد إلى مجازر مهولة، ولذا لا يرغبون في استمرار الثورة ويطلبون تحقق المسار السلمي الديمقراطي كنهاية لكل ثورة في هذا العصر.

    الصراع الذي لا زال قائما في سوريا مستعرضا أفظع حملة قتل وتدمير في تاريخها، فحسب بيانات رسمية تصدر من مؤسسات دولية عن ضحايا الثورة وصل إلى 130 ألف قتيل ويزيد نصفهم من الأطفال والنساء، أما الجرحى فعددهم يقرب من نصف مليون مصاب، وأما التدمير فلحق آلاف الأحياء السكنية والقرى بالكامل وقد سويت بالتراب، وكان من نتيجة ذلك تشريد السكان من منازلهم هربا من القصف وحمى المواجهات، فقد بلغ النزوح السوري في داخل البلاد ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين نازح، وأما اللاجئون فهم عين المأساة السورية وصميم أزمتها، والذين يصعب تقدير عددهم في لحظة ما لأن العدد يتزايد من حين لآخر، غير أن الأمم المتحدة قد صرحت أن عدد اللاجئين السوريين في الخارج قد بلغ أربعة ملايين لاجئ خلال هذا العام، وهو الرقم الأصعب الذي تواجهه الأسرة الدولية، إذ يستدعي ذلك الوقوف عند التزامها تجاه شعب كامل يعيش ما بين نازحين ولاجئين، حتى أصبحت قضية النزوح واللجوء معادلة صعبة في ملف تسوية الأزمة السورية، على أن تلك القضية كانت مدخلا مستساغا للتدويل في هذه المعاناة الكبيرة، ولكن المفارقة القائمة في الأدوار الدولية إلى اللحظة يشوبها القصور إن لم يكن الشبهة، فالحل هنا ليس بالمساعدات الإسعافية والإغاثية على أهميتها وإلحاحها إنسانياً بل يكمن بقرار سياسي يضع حداً لصراع متفاقم يزداد آلاماً وقتامة يوما بعد يوم.

    والحال عندما يستعصي الصراع السوري على الحل أو الحسم، وتصبح لغة السلاح هي الفيصل من دون اعتبار لأرواح الضحايا والخراب الذي أصاب البلاد برمتها، وعندما يواجه المجتمع نخبة حاكمة لا تهمها سوى سلطتها وامتيازاتها وتوظف كل ما يقع تحت يدها للاستمرار في الفتك والتنكيل حتى آخر الشوط، وعندما يقف الحراك الثوري أمام معارضة سياسية مترهلة مفككة في داخلها ومشتتة في أجندتها لم تستطع بعد مخاض طويل وفداحة ما قدم من تضحيات أن تنال ثقة هذا الشعب المضحي، وقد غلب على وجهها المدني والسياسي منطق القوة والمبارزة،وتخترقها جماعات متطرفة تحاول فرض أفكارها وأيديولوجيتها في المشهد ولو أحرقت كل شيء لصالح اختراقها، بل وتهديد حياة الآخر المختلف وفكرة المشروع الديمقراطي برمته، وأخيراً عندما تقف البلاد على مشارف المزيد من التدهور والهلاك إلى أن أصبحت دولة فاشلة بامتياز وإلى وطن مستباح تتنازعه باستخفاف قوى إقليمية ودولية هي أبعد ما تكون عن مصالح الشعب السوري ومشروعه الوطني، عندها يمكن أن نفسر حالة التسليم والرضا لدى كتلة مهمة من السوريين بالمخرج الدولي لمعالجة ما صارت إليه أوضاعهم، وأن نتفهم مشروعية حضور رأي جمعي بات يجد الدور الأممي مفتاح الإنقاذ الوحيد للبلاد من أتون هذا الفتك والدمار، عندما يسوغ في أذهاننا ذلك يصبح حينها فن الممكن السياسي أبعد إلينا من النجم في رابعة السماء.

    بل وأكثر من ذلك، فإن الدور السلبي جدا للمعارضة، كان يضر الثورة ويربكها، ويسهم بما أرادته السلطة في تأزيم الموقف الثوري، لجهة تحويل الثورة إلى لعنة على الثائرين تحت مبررأسلمة الحراك وعسكرته، وهي الورطة التي وقعت في شباكها المعارضة بأصابع خفية، وهذا ما فتح الباب لتدخل أطراف إقليمية ودولية ليس من أجل الثورة بالتأكيد، بل من أجل إما دعم السلطة كما في حالة إيران وروسيا والصين، أو من أجل تشويه الثورة ودفعها للأسلمة والعسكرة كما تريد السلطة، للوصول إلى احتوائها وتصفيتها، وهو ما يعني أن أطراف إقليمية عملت على شيطنة الحراك الثوري المضلل، فتحولت الثورة إلى مجزرة، وانقلبت الساحة إلى تكوين اصطفافات يستقطب فيها الطرفين الرجال والعتاد والسلاح إما للاستثارة أو للردع وفي كلتا الحالتين الدمار لسوريا والسوريين. لقد انعكس هذا الأداء السلبي للمعارضة على مجمل الأزمة السورية، التي بدأت حراكا ثوريا ثم انقلب إلى مكاسرة عسكرية مع السلطة، فتحول إلى صراع سياسي مدوي، فدخلت على خط الأزمة المجموعات الأصولية التي انبثقت عن الكتائب المسلحة المنسلخة عن الجيش، وهنا تحولت الثورة من صراع سياسي ضد السلطة إلى صراع طائفي وحرب عبثية لا هوادة فيها، ولم يعد الأمر مرتبط بإجهاض الثورة أو اخمادها كما في أول عهدها، بل تلبية لنداء الواجب الطائفي الذي توسمت به الأزمة وتداعت لها المنطقة برمتها إقليميا ودوليا.

    هذا ولم تكتف مكونات المعارضة بالقفز إلى عربة “قيادة” الثورة، بل بدأت بالاشتباك مع بعضها بعضاً من الخطوة الأولى لتحركها بالتوازي مع انطلاق الثورة الشعبية على خلفية تشكيل هيئات مؤسسية تؤطر عملها، فقد قفزت أساليبها القديمة في التعاطي مع الاستحقاقات إلى السطح، فانكشف ظهرها على حين غرة وبان عورها وغيابها الفاضح لحس المسؤولية عن مآسي الشعب من الثورة، وبين هذا وذاك افتقدت قيادتها لأي رؤية استراتيجية أو تكتيكية للعمل الوطني المعارض سواء على صعيد المواجهة أو التمثيل للشعب والحراك، واكتفت بالاعتراف الدولي والاستضافة الخارجية لها حتى أوسمها البعض بمعارضة المعارفة والفنادق.

    لا يزال غياب المشروع السياسي ذي المعالم الواضحة هو السمة الغالبة على الحراك الثوري الذي تقوده المعارضة السورية، وهو ما ينعكس سلبا على عموم الأداء لحراك الثورة بالضرورة إلى تداعياته على صعيد التوجه الخارجي للثورة، فلا الشعب وحده المسؤول عن حراك ضلله فيه نخبة مأجندة استمالها الخارج لتلحق بركب السابقين من الثائرين على النظم، ولولا أنه تصدر له هذا الشعب حاملا عبئا ثقيلا مضافا إلى حمله ذو المسار الطويل من الألم والمعاناة، والحق أنه ينبغي في ظل واقع المأساة الطاغية على المشهد السوري أن تقف المعارضة برهة للاعتبار وتحديق النظر في وضعيتها التي أرغمت الدولة أن تلبس لباس الحرب لمواجهة شعبها.

انتهى

ميساء المصري

باحثة في الشؤون السياسية ومستشارة إعلامية

You may also like