غارقٌ ظافر الحجري في شطريّ القصيدة الشطر الأول ينتمي إلى ينابيع النبل، والثاني ينتمي إلى مصبّات الحزن، ومن كليهما يصنع لنفسه ضفّة ثالثة، بل رئة ثالة يتنفّس منها متيسّر للبقاء، بعدما طوّقه الطوفان حدّ الاختناق، هو المعني بالإنسان، بأوجاعه، بأزماته بإشكالياته الحياتية المتفاقمة، وكأنه مكلّف بإنقاذ البشرية من انهياراتها المتعاقبة، ليس من السهل الحوار معي، أو الإصغاء إليه لأنه حينها سيزجّ بك إلى تلافيف روحه وأفكارها التي تشدّك إلى المجهول، وإلى الأعماق التي تأسرك ويعزّ عليك النجاة من مناخاتها الفلسفية، واللسوداوية بشكل أو بآخر، ليس من الضروري تقديم ظافر الحجري على غرار غيره من الشعراء لتكون المقدمة تمهيداً لكل نقص أو ثغرة لدى الشاعر المحتفى به حوارياً فحديثه يغني عن جميع المقدمات، بكل مافيه من قيم ومبادىء، نخشى عليها جميعنا من الإندثاء، لولا شاعر كهذا معني بكل ما للكلمة من معنى وغيره لا ريب لا يزال يحاول لكنهم قلّة هؤلاء المعنيين بهموم الغير لأنهم من العيسر جداً أن يتجاوزوا ذواتهم بخطوة واحدة،وهنا يعلو صوت الحجري ويوثّق مواقفه قصيدة قصيدة.
حاوره : رواد زكور – استنبول
1- ظافر الحجري.. من هو ببساطة ؟.
ببساطه؛ هل تعلم أخي الكريم أن البسيط مُعقد مَخفي. يُشبه قطرة الماء وَ الشَرقه . هو بَشري طبيعي ، استيقظ يوماً في غرفته بعد أن كان يُغني ، وأزاح ذراع أمه من تحت رأسه ، فوجد نافذة عالية قد نبتت في غُرفته ، وَظل يَصرخ فسمعه المارة ، فبدأ يتساقط منه قطعة قطعة . ولدت عند بنت الغيمات النماص في الجنوب فاحتضنتني بتلات ورود الشمال تبوك ، ونمت أذرعي باتجاه الشَرق تارة و باتجاه الغرب تاره، فأصبحتُ بين النور والظل . هل رأيت ؛ ألم أقل لك : أن البسيط مُعقد . سأستعير فلسفة سيدنا أحمد مطر وَ ذاك البسيط ( جبر ) : ( هنا ولد جبر ، من بطن أمه القبر ).
2- تلقّب نفسك “سيّد الجياع”، فمن هم الجياع، وهل الجياع بحاجة إلى سيّد أم نصير ؟.
فِكرة الجوع هي شهوة الأحياء وَ خُلاصة الأموات ، هنا يَسكن الجياع ، أما وأن الجياع كانوا مِحاريث الأرض وَ لم يتذوقوا قَمحها ولا شَعيرها ، وما قَصدت في السيادة هنا ليست مَشرب العبودية يا صديقي ، بل أجوعهم وأشد جوعاً ، إن شَبع جائع صَليت له و رحلت ، بل أشد في المسير وَ أبحث عن جائع أخر أُحصن جوعه من تلوث الشبع والتُخمة وَ أصلي عنده أن يُلهمني جوعاً أنقى . الجوع شهوة كُل شئ و لذة كل شئ ، لذا هو كافرٌ حين يأتي لا يعرفك و تعرفة وتسقط عند قدميه كل الأشياء الرخيصة و الثمينة معاً ، هل رأيتَ القسوة التي أحملها من الجوع . 3- جُرِح جوعاً فتلذّذ حدّ السكين ومن دمه شبع.. هذه قصة قصيرة جداً وثورية بامتياز، إنها ثورة دموية، فلم تشبع بلادنا دمنا ؟، ما هي ثورتك التي ترجو ؟. الدم الجاري بداخلنا يسري ليخبرك أنك حي . وحين يَخرج أنتَ تجوع وتعطش ، يَجعلونكَ جائعاً ثم يُهدون لك سكيناً لتشرب من دم عنقك ومن لحمة لسانك ، ثم تهديهم جلدك ، لا يريدونه إلا جافاً من الدم . الثورة التي أنشدها أن تُبقي دماء جمجمتك و قلبك لك .
4- حجر وماء.. ديوانك الوحيد حتى الآن.. الماء لديك يمثل البساطة والبصر والملكوت والحياة، والحجر هو كدينامو محرك، لماذا دائماً القساوة محرّك لأحداث هذه الحياة ؟.
حجر وماء ديوان أحمق ، لكني سأكمل يا صديقي .. يقول أحد المفكرين ، نسيت اسمه وعذراً : ( أن تتألم يعني أن تنتج المعرفة ) هل تسمح لي أن أجيبك بِسؤال ؛ هل رأيت ماءاً يَسكن معنا أنقى من أن ينام في جوف حجر .. ؟! المخبأ قسوة ، الجدار قسوة . حين سقطت من أحشاء أمك كنت صَلباً قاسياً في ماء ، وحين خرجت إرتطمت بالأرض ، و القطرة الحُرة من السماء … الي الأرض . القسوة هي كوكبنا و الكوكب هو الأرض .. أن تَكون حياً هي قسوة تحتاج عُمرك كله حتى تُلطفها ثم تنام ، هناك السلام .
5- هل نعتبر نتاجك شعراً ؟، إذ يلتبس ذلك بالنسبة للقارئ، هل هي خواطر مفعمة بالأفكار، أم حكم، أم قطب مخفية في تلافيفنا، فلماذا تمّ تصنيف كتابك على أنه “شعر” ؟.
لا تتّهمني بالشعر، ولستُ من فَعل ، يوماً لم أحرص أن أُخرج كتاباً. ذاك أنني مازلت أؤمن أن أفخم الأشياء وَ أصدقها لم يُكتب بعد . فقط الأمر برمته ، أنهم فضلا ً أخذوا ما أثرثر به وجمعوه و صنفوه و نشروه . هل أقول لك شئ ، دوماً وَ أبداً أنا بين علامتين فيما يُسمى شِعراً : بين أوراق أستاذنا الفاخر وديع سعادة التي مزقها خلف فناء حديقته
و صرخ : ( الشعر حُر الشعر حُر ) ، وبين أن الشعراء لابد أن يُقام لهم صلبٌ فاخر وحتى يبقوا كثيراً ، لأنهم وحدهم مَن يُشيدون لنا قبوراً في الغايات . لستُ بشاعر ولكنني حيٌ وَ أشعر ، هل انتبهت نحن كُلنا شُعراء .. بؤس مُعلق يا أخي.
6 – الشاعر يشرب من عينيه، ونعلم أن العيون تسكن المحاجر “حجر وماء”، ما هو المحجر الآمن والنظيف للشاعر ؟.
العيون كثيرة يا أخي ، لكن ليست كُلها تشرب ، تَجربة وقوفك مع النهر ، كيف تجعل النهر يقف بسريانه عند عينيك ، ( لا ادعى ذلك) ، عابرٌ أنا لم أقف ، و لكن هناك من استطاع ، فصار نبوءة شعر ، هل أذكر الدرويش والفيتوري و وديع سعاده و محمد الثبيتي والألمعي والكثير الكثير … أن توقف النهر وتتفحصه بعينيك شئ قاسي و مؤلم و اللعنه أنه مُلهم جداً .
7- تقول: شيء لا يحتمل أن تستحمّ الحرية بالعطر. بم ستستحم إذاً ؟.
الحُرية للأسف في نَعشها ، قلته يوماً عنها : سقطت ناقصة هي الحُرية و حين سقطنا بين أقدام أُمهاتنا … الحُرية ليست مبحث ندوة أو أقصوصة صالون أدبي وليست قُطرة حبر تُرش على ورقة عمياء ، الحُرية عِطرها عَرق يُسكب على الأرصفة ، الحُرية إعتراضك على وجودك ، الحُرية أن الطفلة التي ترقص في المطر وهي عَمياء ، الحرية قطرة دم لم تتكبد … الحُرية ليست عطراً .
8- تقول بأن العدالة والحرية يجب أن تكونا بلا صوت أو قدم، من صوت العدالة، ومن قدم الحرية ؟.
أذكر ذات مَره مع مجموعة من الأصدقاء ، تناولنا ذلك بتأويلاتنا المسكينة ، فقلت : الحرية و العدل والمساواة ، تشبه قطع لعبة التراكيب الملونة ، متشابهة وتنتهي بنماذج مختلفة . لا وجود لها نحن نُحاول إنعاشها بصلواتنا المُبتذله . وأعنى فيما سبق من سؤالك عما كتبت ، أن القدم قيد بالخطوة والعدل هباء في الصراخ . لو كُنت حُراً لم أسجن في وجودي ولو كان عدلا ً لم أصرخ بوجودي.
9- في زمن التديّن تحفظ دينك في صدرك. ألا تجد صعوبة في تقبّل مجتمعك لهذه الفكرة حيث غزت المظاهر الدينية حياتنا ونصّبنا أنفسنا أرباباً على بعضنا البعض ؟.
سأهمس لك : ( أنت هنا ذكي ) . جميل أنك اخترت مكانه ياأخي الكريم ، ظل كاتبنا الجميل عبدالرزاق جبران يحكي لنا كيف ساء الأمر و خرج الإله من الصدور و سَكن المَعابد . وهو في الصدر أقرب وَ أقرب . قلته يوماً : الدين؛ حجم المعبد في الإله .
10- هل تلقي باللائمة على سلطة الدين أم على الرعية ؟.
لا أعلم كيف أجيبك ، لكنني سأقترب قليلاً لأحكي لك ، الأديان نوع من الحضارات البشرية التي أخرجت البؤس البشري وعلاقاته مع الإله ،ومنذ تعدد الألهة ووصولاً الي الموحدين الي الي … ما أعرفه أنه لا يجب أن تكون للدين سُلطه ، لأنه بُنيت فكرته في داخل الوجود البشري كأمثولة وجدانية و ملمس رحمة ، ومنذ بدايات حضارات بلاد النهرين ومروراً الي الأغريق واليونان و وصولها الي آطالس الشام و مصر و الي الجزيرة العربية ، مرت بمراحل اكتسبت سُلطتها المطلقة وأبرزت جوانبها السلبية والإيجابية ، ولكن ما أُجيد أن أخبرك به ، هو أن السُلطة في أي شئ سلب مُزعج و مُرهق وَ مؤلم .
11- في تأكيدك على أن الحب فعل تقول: من أعطى الحب كلمة عبد نجس… كيف يكون فعل الحب حراً ؟.
نعم؛ الحُب حُر، وحتى تراه لابد أن يَسكنُك وأنت حُر ، هو لا يؤمن بالمكان ولا الزمان ولا العلامات ، حتى تكون حُباً لابد أن تكون قوياً وشرساً مثله ، لا عبداً تُدخله داخل سراديب عبودية الممنوع والمحرم ، ليس له كلمة هو كلمته ، أما من يصنع له كلمة ، فهو أشبه بمن يستجدي الطير أن يُهديه جناحه . الحُب يُشبه أن يُغني راعي لأغنامه، فيُحرم ذبحها و لحمها عليه . أتذكر مقولة في رواية حجر الصبر تقول : الذين لا يمارسون الحُب ، لا يُجيدون الإ الحرب.
12- نجدك زاهداً في الحب وراثياً له، فهل هو أصلاً ضمن أولويات أدبيات سيّد الجياع ؟، أ ما زال الحب حراماً في بعض مجتمعاتنا، بحيث الكلام عن الحرية والعدالة والدين بات أكثر أماناً ؟.
الزهد أن يكون الكثير ممكن، فيكفيك القليل . حتماً هناك بداخلي ذلك القليل وأحرص على بقاءه وحتى أصبح صالحاً ما أمكن في هذه الحياة ، التي تَسلب الحُب وكل إبناء. أما ما تبقى من سؤالك فأظنني أشبعته فيما سبق .
13- كيف يكثر الشعراء في زمن اللاشعور ؟.
في زمن لا نَشعر فيه بدفء أنفاسنا إلا على وجه زجاج شاشة أجهزتنا ، حتما سيُجهض هذا المسخ التقني مسوخاً ، يبصقون أجنة مشوهة تُسمى كلمات. في زمن تكون الكلمة ورقة عُملة و سرير مُرفه و وطنية مُباعة و ليل
برائحة عفنة و عَصبية جماعة و آناوات مُتسخة و صور بلا ملامح … أنه زمن اللاشعور .
14- متى تكاد أظافرك أن تلتهم لحم وجهك ؟.
يقول أميل سيوران : ( لم نعد راغبين في تحمل تبعات “الحقائق ) ، وَ قُلت يوماً : لا بُد أن أصفعك؛ حتى تَشعر بِخدك . حين يَكون الصدق حقيقة مؤذية وَ الحقير سفير للكثير وَ الفريسة تتعضل في جماعة و الطائر يغرد في قفص والبحر يستمرئ الملح والسماء صماء وأقرب من السقف و الأرض هوية ورقة بآلية و الوجود محنط في وجودك … هنا إلتهم وجهك .
15- من ملاهيك: في زمن الجياع، تقام حفلة كعك لتوقيع رواية “الخبز”.. عبارة موجعة، كأن نقول لدينا حفلة تنكرية لتوقيع رواية “الحقيقة”. في زمن النفاق الصارخ كيف يأكل الجياع خبزهم ؟.
في شُرفات التُخمة ، كيف تَتحدث عن كعكتك وقد أحرقت قمح الجياع في موقدك لتنضج كعكتك .. لا خُبز للجياع حين تُصنع الكعكات يا أخي .
16- تقول: نحن نتعلم ممن يعلموننا إياه، وليس ما نريد أن نتعرف عليه. هل لديك المجال أو تستطيع تطبيق هذه العملية الهامة ضمن مجال عملك المهني كمدرّس لمادة الرياضيات ؟.
للأسف؛ أنا أحاول يا أخي ، أنا قناة من حِزمة ذاك الشعير . لكنني أقول دوماً لِطلابي : أبحث بعيداً عنا حتى تراك . والشئ المُحزن؛ أن المُفكر سيوران قال ذات مره : هذا العالم ” لا يستحق ” أن نعرفه .
17- في زمن الأوطان يكتب المثقفون عن سيرة الحكام. هل كلمة “المثقفون” هنا عبارة عن سخرية أم مقصودة بالفعل، خصوصاً وأن المثقف المثقف من المفترض لا يفعلها ؟
المُثقف ( ورغم تحفّظي على مُسمى هذه التفصيلة )، لابد أن يُشارك أغنيات الفرح و ألم شعوب الوجع ، وقصدتها لأن المُثقف المفترض أن يكون ناقلا ً أميناً لكل شئ وبأدواته التي قد لا يُجيدها استخدامها عامة الشعوب ، لكن المُخزي لا ينطلق من جيب قطع السكاكر في استعراض الخيول …المُثقف قد يكون راعي أغنام ويُخبرك عن تعاطيه مع الحياه بلغته وقد يكون صانعاً وقد يكون فلاحاً وقد يكون طفلاً .. أهم المهم أن تتَشارك لُغاتنا بكل ألوانها ..!
18- الوطن الآن خدعة، كيف تراه وطناً حقيقياً إذاً ؟
قلته يوماً ؛ الوطن : مَن يُهديك حُريتك وَ قبل يَعرفك . الوطنية : حجم الجوع في البطن . الوطن قيمة إنسانية ، يجب أن تتفق مع النُبل و تتجاوز الآطالس ، حتى تُخبرنا عن نكهتك …!
19- هل من إصدار مطبوع جديد يلوح في الأفق ؟.
هناك إصدران تحت المراجعة و الطباعة هما ( حيوات العدم ) و ( المؤمياء ) ولأنها لا تهمّ أحداً . لا أعلم متى سوف تخرج وليتها لا تخرج . الكتابة وباء مُدبّب ولا أدّعيه، لكنني أعبّر.
مجلّة - إلّا - الألكترونية/ مجلة هادفة ذات مستوى ومحتوى سواء بما يساهم به أقلام الكتاب العرب المعروفه والمنتشرة بأهم المنابر العربية، أو بما يتمّ اختياره أحياناً من الصحف الزميلة بتدقيق وعناية فائقة، وحرصاً من مجلّة - إلّا - بإسهام المزيد من الأقلام الواعدة يُرجى مراسلتها على البريد الألكتروني / ghada2samman@gmail.com
يبقى سيد الجياع متفردا في كل شئ
للحديث معه لذة مختلفة.
روني رعنون
حوار رائع وشيق وذكي وعميق
روحي المشرقي
أسئلة ذكية وغير نمطية وأجابات استثنائية أيضاً
حوار ممتع كلعبة البينغ بونغ
برافو رودي عرفتنا على شخصية خاصة وجميلة
hoool
الله الله على الفلسفة
وكأن الرجل خلق من طين وباقي،الناس،من النار
نسأل الله لك الهداية
التلون وتصوير الحياه بخيال زائد
ثروه السعد
ظافر الحجري ،
ببساطة شديدة جدا هو إنسان و إنسان جدا ،
لكي تصل إلى غايته في الحرف عليك أن تقرأه بقلبك و روحك متجردا من كل شيء ،
كاتب بمعنى الكلمة ،
ربما للشعر في قانون الأدباء تسميات مختلفة
لكن كثيرة هي السطور التي يكتبها ظافر
بحجم قصيدة ،،.
عمر اﻹدريسي
حوار مثير .. أضاف فهما لرؤية صديقنا المتمردة
محمد الصهلولي
سيد الجياع هو الاستثناء في كل شيء اخاف التورط في حرفه اخاف التوحد في كتاباته
كامل الصورة ولله الكمال
نكرة في عالم المعرفة يريد اللبرالية والملاحدة جعله رمزاً..
ستموت وحيداً..
وتدفن وحيداً..
وتسأل وحيداً..
وتبعث وحيداً..
فأعد لها ماشئت أن تصير إليه جنة أم نار..
رؤيا سعد
من الجمال ان نجدكتاب بهذا الحجم من الوعي وبلوغ الإدراك الحقيقي لماهية الشعر والأدب أشد على يدك صديقي وأتمنى لك مزيدا من التميز والعطاء
شكرا لك على حروفك الندية
12 comments