Home إلّا بعض النقاط الهاربة من جبهة الصمت

بعض النقاط الهاربة من جبهة الصمت

by رئيس التحرير

غادا فؤاد السمان / كاتبة وشاعرة سورية – بيروت

لستُ الأم “تريزا ” كما يلقبني ابني الأصغر * جهار * كلما رصدَ مني أيّة بادرة أو لهفة أو تدخل طارىء، وأبتسم راضية لا معارضة للقبي الجديد لأني أدركُ مدى رهافته وهو الموهوب الفنان المثقف الصامت والثائر بحملات يشنّها على نفسه أولاً فتمتدّ إلى روحي بشكل أو بآخر.

لستُ الأخت “رابعة ” كما يناديني صديقي وحليفي المزمن الأديب الكبير “إلياس العطروني ” كلّما تشاركنا الحديث ووضعت المبادىء والقيم أول السطر وآثرت أن أختم بها كما بدأت فيستطرد ويستأنف ويسترسل يا أخت رابعة وأضحك راضية لا معارضة عما يطيب لصديقي أن يخاطبني به.

لستُ “المثلية ” التي بوسعها أن تدعم شكوك شاعر القصيدة المحكية الأجمل “عصام العبد الله “، وهو يتحسّر سرّاً وعلانية دوماً على شبابي الراحل دون رفيق درب يؤنس وحدته، في معرضِ أيّ لقاء يجمعنا، ولم يتوانَ في كل مرّة أن يلقي باللائمة عليّ كوني لم أتمكّن من إقناع رجل ب”احتمالي ” على مرأى “مصاطب ” المثقفين بمشهديّة أرفض تكريسها خارج الأطر التقليدية للعلاقة بين المرأة والرجل، فقد آثرت القبض على الجمر في زمن “الرخص ” الشديد والابتذال المريع، في العلاقات المشوّهة والمشبوهة بين الرجل والمرأة، ولا أنكر أنه ليس من السهل الوقوف على قدم واحدة لا مرأة وحيدة في مهبّ الغربة الفاحشة وقد ربطتْ قدمها الأخرى بالأعراف والقوانين خشية الانزلاق، في وحل الخطايا التي لم ترقْها حتى في خضمّ بركان المشاعر وطوفانات الحب.

ولست “الحجّة ” غادا كما يخاطبني الشاعر الساخر الجريء المشاكس والمستفزّ بامتياز “بلال شرارة ” ولا أعلم لمَ يسوق هذا اللقب لمخاطبتي كلّما تيسّر، ولا أستنكر، فله من السلاسة والعذوبة في رمي نرده ما تمنعك أن تتحسّس من أضرار الرمي أكانت مباشرة أم كانتْ عن بعد.

أنا ببساطة البساطة “امرأة ” صنعتني الأقدار المباغتة، التي بدأت بيتم الأب الذي رحل قبل أن ألملم خطواتي المبعثرة، ثمّ الزواج المبكّر، ثمّ الأمومة العبثيّة بين ابنة الستة عشر وطفل غارق في الحيرة والحليب، ثم الطلاق الذي لابدّ منه، ثمّ الزواج الثاني، ثمّ الانجاب الثاني، ثمّ الطلاق الملحّ هرباً من مقبرة الشغف، ونعي الثقة، وسطوة الاستفزاز، ثمّ قرابين القلق وأضاحي الأرق على شرف المنطق والعقل والروح فوق مذبح القصائد الهاربة من عتمة المجتمعات وضباب المدن، صنعتني الأوقات الضائعة بالبحث عن فرصة لضمان العيش الكريم بالحد الأدنى من الكبرياء والكرامة، صنعتني التحفظات المتواصلة لحصانة الذات من الإسفاف والإنزلاق والمساومات، صنعتني تعدديّة وجوه الأصدقاء واستطالة ألسنتهم الصفراء المتدرّجة بين الوقح والباهت، صنعتني التأجيلات المذهلة للآمال والأحلام والأمنيات حتى انتهت صلاحية الانتظار وجدواها، صنعتني نبضات الحب الزائدة التي استأصلها الحبيب بمنتهى القسوة دون أن يرفّ له جفن، فوق ميزان المفاضلة والمصالح التي تنحاز للمال والامتيازات والبهارج والمناسبات والأضواء والمساحيق والنساء والبوتكس والمرايا والمراوغات، صنعتني اللغة التي أعيش فيها، وأنتحر، وأخمد، وأرعد، وأخفق، وأنكسر، وأخيب، وأنتصر، كلّ الصناعة المذكورة أعلاه، لم تتقن إحيائي كما يمكن، لم تُوجدني كما أرغب، لم تجلعني كما أستحق، لأنّ الواقع ليس مظلماً فحسب بل ظالماً وبضراوة، فالكتابة هذه المهنة المركّبة، التي تحتاج لخزّان من الثقافة، ولعصب متين مشاكس مناور للواقع، ولموقف مستقل متمكن مؤمن مسؤول واعي حرّ، لم تعد تقوم على هذه الأوتاد الراسخة في وجدان النصّ الكتابي أدبيّا كان أم سياسيّاً، بل صارت كبقعة الزيت، تعوم على سطح الماء دون فعل أو تفاعل، اختطفتها الأقمشة الخام للحصول على أثر وإن بصورة مزرية، فالكتابة اليوم دخلت المزادات والمزايدات والبازارات والحانات والتصفية، فلا اللغة لاتزال بقواعدها، ولا القواعد على حالها، وتاه النحو في زحمة التواصل وغاب الصرف تحت الأزار الألكترونية، وصرعت البلاغة عند عتبات الدكاكين الثقافية، وانتحر الفقه تحت سقف الفتاوي الرعناء بخطابات الأوباش، ولم يبق إلا رماد المعنى وحطام الحروف وكلمات مبعثرة في مهبّ الضوء والتتويج الأجوف، بعدما أحالوا الكتابة من القرار إلى التقارير، ومن المواقف إلى الموائد، المتوفّرة فقط تحت سقوف الأستزلام، والتبعية، والرضوخ، والانسياق، وما بينهما كأن يكون الكاتب ذيلاً لفلان أو بوقاً لآخر، بكفالة التعصّب، وضمانة المذهبية، وحصانة الحزبية، والشللية، والمتنفذين… والمستجد في هذا الصدد اتساع رقعة الانتهازية من المحلية إلى الخارج فكم من شخصية نكرة حصلت على أدوات تعريفها وتشريفها وتسويقها وترويجها بفضل الإعلام المغرض الذي ساهم بخلق طفيليات متغلغلة بيننا، تنهش من أرواحنا، وترتع من أنفاسنا، وتتطاول على سمائنا وأمننا وأماننا واستقلالنا واستقرارنا وهي لاشيء لكنها قضت على كل شيء لتغنم بالتالي بأيّ شيء، وقبل أن تستجرّني المفردات إلى معاقل الصياغة والاستطرادات الموجعة، أتساءل لمن أكتب هذا النصّ في – إلّا – وقد تأخر قرابة السنة بعدما استهلكتني مطاردة الكتّاب المهمين للكتابة “مجانا ” في – إلّا – لعدم الحصول على أيّ تمويل، وبعدما استنزفتني رسائل العتب من الكتّاب الجدد للنصوص الباهتة جداً التي لا تفصح إلا عن فيض من الثرثرة والهذيانات، وبغضّ النظر عن الاستهلاك والاستنزاف للشغف والتوق والرغبة، ثمّة من يقتلني تباعاً، وبمهارة عالية، حين يصوّب سهامه السامّة المخزّنة داخل أصابع الاتّهام، فالمعارضة تراني “حليفة ” النظام  وتتهمني بالتكسّب وتُدين ترفّعي عن الشتائم وعفّتي عن الوقوع بالإسفاف لإدانة الشرعية التي ظلّت شرعية رغم جميع المحاولات البائسة لإزالتها، وأنا في ترفّعي وارتقائي لا ناقة لي ولا جمل، بل إدانة مزدوجة، في نظر النظام كما المعارضة أنني “حليلة ” الإرهاب وسليلة الثورة وربيبة المعارضة والمستفيدة من نهر الدولارات التي روى جشع وطمع وغلّ ووضاعة المستفيدين من الدمّ السوري المهدور والأرواح النافقة على شرف المخططات الدولية والمؤامرات العربية، ويعلم الله بل يشهد هو وملائكته أنني لم أتقاضَ سنتاً واحداً من أولئك أو هؤلاء، لأكتب ما أود أن أكتبه، بل أتخبّط في أوضاع يائسة وبائسة للغاية لا أشتهي فيها سوى رصاصة طائشة تداهم جمجمتي تنهي كلّ هذا الجنون والجنوح والجدال البيزنطي بالحوار والسلاح فوق الجبهات وفوق الأساطيح على حدّ سواء، والنصل القاتل والفتاك فعلاً أكثر من غيرة هو الجزم أنني قابضة ومستفيدة ومستثمرة عتيدة لكل مايجري، وهنا أوجه دعوة صريحة وعلنية، من يعلم أنني تقاضيت فلساً واحداً بهدف تأييد أحد الطرفين فليعلن بأعلى صوته ويواجهني بكل ما أوتي من حجج وبراهين، ولا أنكر أنّ حزني ليس لأني على إفلاس وديون قد تودي بي إلى الجحيم، بل لأني متّهمة زوراً وظلماً وعدواناً، فلا أعلم كيف السبيل لإخماد هذه المزاعم من هنا وهناك، ولا أعلم كيف يتجرّأ كل طرف على حده بالاتّفاق فقط لإدانتي، بدلاً من اتفاقهما لوقف نهر الدم، ووقف هذه الهستيريا الجماعية ومعالجتها، على أمل أن نخرج جميعاً من دائرة التخوين والتغرير والتخريب والتدمير والإجرام والشكّ.

 

رئيس تحرير مجلّة – إلّا – الألكترونية

You may also like

2 comments

محمد حسن الالفي 13/12/2016 - 11:18 صباحًا

من اي مناجم الذهب ومعاجم المعاني ومتاهات القلب تسحبين هذا الفيض الجارف المتدفق الكاسح من المشاعر المغذبة المستأنسة بكسر السين.
نعي ذات ما تكتبين ام رصد تحولات روح وعقل ونبض . غادة .. ان لغتك هي عصب شعورك. نقرأ فنتكهرب . واظنها اول نوع من الكهرباء ينعش ولا يصعق .

ghada 18/12/2016 - 1:53 صباحًا

الأديب الكبير محمد حسن الالفي.. لطالما كرمت illa بثقتك وكرم حرفك وبوحك فيها.. وها انت هنا تكرمني شخصيا بشهادة تضاعف مراياي وتساند حروفي وتطاول قامة روحي التي بلغت عنان السماء.. أعتز بك استاذا وصديقا وزميل حرف وحرفة.. دمت للأعالي بدرا متوهجا في عتمة ليلنا العربي الطويل.

Comments are closed.