في ظلالِ الرجال

صدرت رواية في ظلال الرجال للكاتبة المقدسيّة نادية حرحش، عن دار ابن رشد – القاهرة في 165 صفحة من القطع المتوسط صيف 2016

في مقدمة الرواية تبدأ الكاتبة بالقول ان: “هذه القصة خياليّة، ولاتمتّ للواقع بصلة، وكل الشخصيات فيها وهمية “. من هنا وضعتني الكاتبة كقارىء، أمام خيار واحد فقط وهو وهمية شخوصها، ثم أردفتْ قائلة: “وإن اقتربت إلى الواقع أو الاسماء والأماكن والظروف .” هنا أدركت بأن هنالك شيئا ما، إما هروبا من شيءٍ ما، أو خلط الواقع بالخيال، كجنس أدبي موجود لدى الخياليين الروائيين في العالم كله .

قالت لها : اكتبي….

فعل أمر جازم بالعربية. إذاً هنالك من أمر الكاتبة أن تكتب، ربما لنا، وربما لها.. بالحالتين أنا كقارىء سأتابع لأخر كلمة، ربما أحببتُ ماتصوّر هذه الكاتبة، بالرغم من تحفّظي على العنوان والمقدمة كرجلٍ شرقي، يعتبر نفسه متحرراً من كل القيود المجتمعيّة والفكرية والدينية… لكنّني أيضا ابن هذه المنظومة المجتمعاتية، فالانسان ابن بيئته في نهاية الامر .

بين أيدينا رواية بأربعين فصلا، تسرد الكاتبة حرحش بواقعية سحرية تارة، وتذهب بنا إلى بحث في سيكولوجية علم مجتمع الاسرة، وخاصّة سيكولوجية الطفولة والأمومة تارة أخرى. وتارة تكون أمامنا المرافعة الحقوقية، ونحن القضاة القُساة.. إلا أنك لا تستطيع كقارىء إلا وأن تشكّل معها كفاعل “شفافية بيضاء “.

في ظلال الرجال عمل يفكك كل شي، ويحاول إعادة البناء حول لعبة الحياة الأبدية ” الذكر والانثى ” . هذه الأحجية المعقدة والسهلة معا.. قد تشكّل جرأة الطرح جزء من فكّ شيفرة هذه الأحجية.

تحمل الكاتبة القاريء إلى مكانين لطالما انتمت إليهما، تذكرهما بوجدانية، وتذكّرنا كقرّاء مرةً أخرى إلى جانب خاصّية القداسة، بأهمية إنسانية : أريحا – مدينة القمر ، والقدس .

ذهبت كقاريء أبعد مما ذكرت عن هاتين المدينتين ووجدتني أبحثُ ، فأريحا مهمّة لباحثي الآثار، و مصنّفة على لائحة التراث العالمي الامادي ” كأول أثر لتجمّع بشري منذ 8000 سنة قبل الميلاد أو أكثر. مذكورة في سفر يشوع أصحاح 6 ، هي مقدّسة للمسيحيّة وملعونة لليهودية، عدا عن مكانتها الجغرافية والزراعية وانخفاضها المسجّل على كوكب الأرض “نامت أريحا تحت نخلتها – لم أجد أحد يهزّ سريرها – هدأت قوافلهم فنامي” محمود درويش. والقدس ، تحتاج إلى ملايين الكلمات . فكما قال درويش “فإن الأنبياء هناك يقتسمون – تاريخ المقدس “..

بطلة الرواية……..

( إذا ما أمكن أن نسميها رواية) تحبّ أريحا في بردها وحرّها ” وشجيرة المجنونة ” التي تقول أنها تشبهها، في تعبير مجازي، ربما ستربط به جلّ تفاصيلها ولدت بالقدس العتيقة…

هنا….وأنا كسوري ،أنتقل في نوستولوجيا مع فيروز، وأسمع من بعيد القدس العتيقة وأعيش بشوارعها وأرى كل شي بالقدس، ثم أجول مع الكاتبة وأسمع كل تفصيلة منها كواقع ” الرواية ”

ولدت في شهر آب، شهر الشمس، ربما حرارة الطرح أتت من هنا، من الشمس – الضوء، النور، العلم والمعرفة، الاله رَعْ، البحث عن الذات، في ظل مجتمع ذكوري أصيل.. توقفتُ وتساءلتُ في منتصف القراءة :

وهل هنالك مجتمع ذكوري مزيف؟؟ عندما تكلّمت عن قدوم الأخ للعائلة، ولقد جاء الولد والسند.. تذكرتُ المثل السوري : ” الحمد لله عالسلامة وشفنا الحمامة ” كناية عن الذكورة .

ربما سؤالها عن جنس الله وهي طفلة. هو سؤال أزلي ودائم للعقل البشري في عمر صغير، حيث متعة الاكتشاف . ولكن لاجواب. أو نتهرّب من السؤال ونقول للصغير : عندما تكبر ستعرف،. وعندما يكبر يسأل نفس السؤال فيقال له، لا تكن كالأطفال.. الأساطير أخبرتنا عن جنس الآلهه عشتار وجلجامش، ولكن بعد نزول الأديان أصبح الإله لا ذكرا ولا اثنى في السماء، بينما على الارض الذكر هو الإله والأنثى تابعه له .

كنتُ أنحني وأنكسر وأحلّق وأحلم.. أتلقّى الصفعات وكأنني أنا بطل الرواية . ولكنني ذكر. هكذا حدّد لي أن أكون، كما حدّد جدّها لها خطواتها واتّجاهاتها، بربطها بقطعة حديدية عندما كانت صغيرة أو ربما فيما بعد . كما قال درويش “كمذكّر يملي على الانثى – مشاعرها” . هنا نجدهها تبوح ببوح طفولي . ولربما كان ظلّ الجد هو الإله الذكر .

من أنا وإلى أين أكون.. ؟ تسأل . وأقول : نكون أو لانكون . كما قالها شكسبير في هامليت.

هذا هو السؤال البسيط العفوي، لن تجيب عنه كل الدراسات والباحثين الأكاديميين، ربما تجيب عنه الجدّه أو الأم أو أي إنسان بسيط لديه خبرة حياتية ما .

الكثير من مجتماتنا العربية لا يعرف عن فلسطين غير أنها محتلة من قبل الكيان الصهيوني الاسرائيلي، وبأن قبّة الصخرة هي كل القدس، ربما جميع السوريين أكثرهم معرفة بالقضية ليس تحيّزاً بل لارتباطها العضوي، وربما تكون هي القضية المركزية لهم، وبأنها لاتسقط بالتقادم كقضية عادلة.. كنا قد درسنا وعشنا فلسطين مع أشقاء لنا من فلسطين في عموم سوريا، ونعرف قراهم ومدنهم والتركيبة الأسرية التي تشبه كل المجتمعات العربية قاطبة، ولكن هنا الأمر مختلف فالمجتمع الفلسطيني في وطنه يعيش تحت احتلال.

البطلة أم لأربعة أولاد، تطلّقت بعد أكثر من عشر سنوات من الزواج …..

قد يبدو الفعل عادياً، فهنالك حالات طلاق بالآلاف في المجتمعات العربية وربما أكثر. ولكن هذه السيدة تعيش ضمن ثلاثية هرميّة، تشكّل حياة المجتمع الفلسطيني في الداخل 1- السلطة 2- الاحتلال 3- المجتمع ومكوناته – دين –عادات – تقاليد … إلخ ( من أنا وأين أكون ) ففكرة الطلاق تكون عادية في مجتمع سليم . أما في مجتمع يعاني أصلاً ازدواجية كوجود سلطة فلسطينية واحتلال اسرائيلي ستكون صعبة بالتأكيد.. هنا الكاتبة كسرت إيهام هذه الثلاثية أو تلك المحرّمات وقدّمت لنا نصّاً بصريّاً إنسانياً لحالتها أو حالة المحكى عنها، وصفعتنا بكل ما امتكلت من قوّة وثبات، مجتمعين ذكوراً وأناثاً، علنا نصحو ونبني لوحة حياتية لأسرة معقولة أو مقبولة وإن وصلت للمثالية فمرحبا بها .

في ظلال الرجال نشاهد الرجل الزوج الخائن والأب المثالي الحنون والابن المراهق، المتسلط، والمدير، والصحفي وظلالهم.

لكنها مازالت تبحث عن ظلّ رجل ربما يشبه جدّها أو أبوها، إنهما أنموذجان بطوليان بالنسبة لها، ولمَ لا ” فكل فتاة بأبيها معجبة ” كما يخبرنا المثل العربي .

كما تشبّه نفسها بشجر زيتون فلسطين ( نلاحظ بعد ذلك أن اختيار الكاتبة في غلاف الكتاب كان تلك الفقرة التي تصف نفسها بالزيتونة) . فالزيتون دلالة على قوّة الجذر وتحمل كل المناخات والعطش الصعاب عليها.. ” لو يذكر الزيتون غارسه – لصار الزيت دمعا. “درويش ثم نجدها تبحث عن الحبّ. أو ظلّ الحبّ. فهو الأمان تقول : “في الحب أمل . وشعور الحب نفسه لا يضاهيه شعور .” وهو حقّ إنساني.. أقول لها.

في ظلال الرجال نصّ يمتاز بأسئلة كثيرة ورؤى حالمة، والكثير من العقلانية، وطرح لعقدنا ومشاكلنا بكل رهافة .

“إن الإله فيكِ، اكتبي… فبالكتابة حياة. الكتابة ابداع. والابداع هو الوجود . عشت وعاشت فلسطين     .”

خاصّ – إلّا –