Home لـوثـة إلّاأدب علاقة نارية / الجزء الثالث

علاقة نارية / الجزء الثالث

by رئيس التحرير

محمد حسن الألفي/ كاتب وروائي مصري – القاهرة

كل الناس
قلبي يعذبني

ركنتُ سيارتي على الرصيف قبالة البرج الذي كرهت اعتياد الذهاب إليه، كما يكره الأسير الزنزانة التي شهدت انكساره، ورغم أن نسمات الليل الباردة واردة من نِيل الزمالك، كانت تنعش وجهي، وتبدّد وحشة المجهول الذي أتّجهُ اليه على غير هوى منّي، لكني على نحو ما انقلبتُ على عقبيّ، وفتحتُ باب سيارتي، واتّخذتُ مجلسي، وألقيتُ برأسي متعباً، على عجلة القيادة، ومن طرفٍ خفي كنت لاحظت بقلق أن البَواب السوهاجي يتابعني في أسى، دون أن يهمّ بالتقصّي والاستفسار، لكني رفعتُ رأسي على وقع نقرتين قويّتين لأصابعه على زجاج نافذة السيارة، وصرفته بنظرة ملأتها امتنانا وطمأنينة، واحترت، أأمشي أم أصعد إليها، وبعزّة نفسٍ متصاعدةٍ، دستُ البنزين، وصنعتُ احتكاحكا  مسموعا بالأرض، كأنني أدهس علاقتنا، وأمثّل بها تمثيلاً، واندفعتُ بضعة أمتار، حين قفز إلى أذني  صوت رسالتها في الإنبوكس، فكأنما قفزت جالسة في المقعد المجاور لي  :
– إرجع إلي، أنا باستناك  !

 

رحتُ أكتبُ وأنا سائق، وانتبهت إلى أنّ السيارة تترنّح مني،  وتحتَ هجومٍ ضوئيٍّ داهمٍ ملحٍّ  من  سيارةٍ خلفي ، انحرفتُ بسيارتي إلى جانب الطريق ، دون أن أعير صاحبها لفتة زاجرة أو مستفهمة، فقد عكفت على الردّ..

كما يلي :
“جئت إليك، وعزمت أن أصعد إلى حضن حبّك، غير أني ذكرت الشوك الكثيف لم يدع بقلبي وذاكرتي موضعا للغفران .. أنا لن أرجع إليك ” !
وأحسست بالرضا عن نفسي إحساسا غير مكتمل، فقد توقّعت الرد العاجل بالضربة القاضية : ” أنت حرّ، عشْ في العذاب، كنت هيت لك  ولسوف تندم ، أنا خارجة ”
خارجة ؟!

درتُ بالسيارة دورة جنون في مساحةٍ ضيّقةٍ جداً، وسمعتُ مارةً يسبّون ويلعنون البكوات الذين لا يهمّهم أرواح الناس، لأن فلوسهم، نحنُ يعني، من الحرام وإلى الحرام !
ولما بلغتُ قبالة البرج ، سحبتُ المفتاح من الكونتاكت حتى من قبل أن تتوقف، فكأنّما قتلتها، السيارة أقصد والله، وصفقتُ الباب، وهرولتُ في اتّجاه البواب الطيّب، الذي لبثَ مكانه، يتأمّلني وأنا طالع، ولسوف يتأمّلني وأنا نازل، وفي الحالين، وكما تعوّدت، سوف يردّد قولته الدائمة ” الحمد لله على السلامة يا باشا ” كأني عائد من حرب أو كأني كنت ذاهباً إلى قتال.
سحبتُ باب الأسانسير بثقةٍ وقوّةٍ واندفعتُ في الصندوق، وكبستُ بإصبع السبابة إلى زر الطابق العشرين، وتحركتُ في مكاني، أتفقّد ملامحي في المرآة الطولية  “من هذا الشخص الذي  أراه ؟! أهو أنا ؟! لا ليس أنا، لا أعرف هذا الرجل، هذا الرجل يسكنني، ويحرّكني ويبيعني، ويذلّني، أنا غيره تماما، أنا الكبرياء، أنا برج الأسد الحنون القوي، لكن هذا المتهافت لا أعرفه ألبتة ”  !
أوشكتُ أن أستجمع ريقي، وأجعله بصقة كبيرة، أهوي بها على الغريب الذي يتفحّصني في مرآة الأسانسير، لكني ابتلعتُ ريقي، لشدة احتياجي إلى بلل في حلقي، خفتُ أن أكون قد ضربني السكر، فقد جفَ لساني وتخشّب !
توقفتْ المركبة حيث اعتادتْ، وفتحتُ الباب لأخرجَ إلى مصيري  فنازعتني نفسي أن أهبط عائداً، غير أنّ الرجل الذي في المرآة جذبني خارجاً إلى الطرقة، فباب شقة معذّبتي.

بابٌ صلدٌ عالٍ قاتمٌ كقلبها عند الصدّ والجفاء، ضغطتُ على الجرس بطرف إصبعي، وانتظرتُ، وعدتُ وضغطتُ وانتظرتُ، وطال انتظاري، وهززتُ رأسي مستنكراً وقفتي واصطباري، وههمّمت بالعودة أدراجي، حين سمعتُ صوت مفتاحٍ داخلي يدور في فم الباب، فانفتح عنها رائعة ملونة متهلّلة في ملابس الخروج !

مدّدتُ قدمي لأدخل، لكنها أخرجتني بقدمها تخرج، وتبتسم :
عن إذنك، رايحة لصاحباتي !
تميّزت غيظاً وفكرتُ أن …
الأسبوع القادم نلتقي .

 

**عمل روائي جديد للأديب محمد حسن الألفي تفخر مجلّة – إلّا – بنشره على حلقات أسبوعية متتالية مع الشكر الجزيل لثقة الأديب الجليل.. 

You may also like