Home إلّا “شايلوك” يختلف في الجنسية لكنه يتطابق في النفسية

“شايلوك” يختلف في الجنسية لكنه يتطابق في النفسية

by رئيس التحرير

غادا فؤاد السمان / كاتبة وشاعرة سورية – بيروت

في طريق العودة البارحة من منطقة الحمرا إلى بيتي الذي تتوسط المسافة إليه والتي لا تزيد عن كيلو متر حديقة الصنايع، الحديقة الأجمل في لبنان والتي لا تزال تحظى بعناية ملحوظة من بلدية بيروت بناء على توصية “حريرية” سابقة منذ عهد الأب رحمه الله والتي استكملها “دولة” السعد حفظه الله وحماه مهما ابتعد عن السياسة أو دنا منها..
المهم وأنا في هذا الطريق لفتني بناء فخم بجميع المقاييس اقتربت من مظاهره المترفه البوابة الكهربائية، الكاميرات، الانترفون، المدخل الرخامي، الواجهة الزجاجية النظيفة، على غير العادة، مجموعة تفاصيل صغيرة مغرية جداً، للتفكير بجديّة البحث عن شقّة للإيجار في هذا المبنى الفاخر..

لم أتردد في قرع جرس “الكونسييرج” وشعرت أن الشقة في أيّ دور كان من هذه العمارة الراقية جداّ، هي بانتظاري أنا شخصياً، والأهم أن الجوار القريب لهذا المبنى هو فرع من فروع “مؤسسةأبوغزاله” العالميّة أصحاب العلامة العالمية- العربية الرائدة في عالم التميّز والريادة وقلت في سريرتي ستكون المؤسسة ومن فيها “جيران الرضا “، وما يعنيه وجود هذه المؤسسة كبارقة أمل للمضيّ قُدُماً، لما لهذه المؤسسة من أبعاد خيّرة وأيادٍ بيضاء تُعنى، بالدعم الفكري والتطوير المعرفي والمساندة العلميّة للمجتمع، وللأجيال التي تعاقبت وتتعاقب عليه، ناهيك عن مفهوم حسن الجوار لمؤسسة “يزاحم” العالم أجمع للتقرب من أركانها، فكيف وأن أصبح على مرمى نظر منها، وفي العين الثانية تطالعني حديقة الصنايع بكل جمالها وخضرتها الفردوسيّة الغنّاء، حيث وضعتُ في برنامجي الصباحي رياضة يومية تعيد لي رونق النشاط والحيوية والشباب، بالخروج من شرنقة الكسل الذي يحاصرني بحكم الإحباطات التي لا تنتهي..

المهم استقبلني في المبنى الراقي المسؤول عن “الريسبشن” بوجهٍ باشٍّ لطيف، وسألني عن المطلوب

بكل ثقة بالنفس، وبالوقت، وبالأحقية، وبالمواطنية، وبالذات، وبالشخصية الأنويّة، أجبته: أريد شقة للأجار عقد شقتي الكائنة بمنطقة قريبة من هنا على انتهاء في غضون بضعة أشهر، على الفور أكد لي عبد الله وجود 3 شقق شاغرة في الاول والثالث والرابع، وفضلتُ البدء بالطابق الرابع، تشدّني الأعالي في كل شيء..

دخلت الشقة.. فغمرني شعور بالانتعاش والغبطة والسرور حيث المساحة، والإكساء الراقي، والشرفة العريضة، والتفاصيل البراقة، وافقتُ بكل جوارحي، وخاصة أن الهدوء في المبنى يفوق حاجتي لهذا الهدوء حرفيّاً ل”حرفتي” كمتفرّغة للكتابة، شرط أن يكون وسط بيروت، فكوني وحيدة يعزّ علي التطرّف في السكن، ابتسمتُ وشعرتُ أن قامتي ازدادت طولا ووجاهة لاتساع الشقة وفخامتها، شعرت بترف بعيدا عن الجوار الفوضوي المؤذي الذي يوتّرني على مدار اليوم، شعرت بعفوية الطفلة التي تجيد طقوس الحلم والتباسها مع الواقع..، التفتُّ وابتسامة عريضة تملأ وجهي وبصوت واضح قلت نعم “حبيت”.. عبد الله واضح هذه الشقه بانتظاري، اريد معرفة من يملكها..؟!!!

أجاب مالك هذا المبنى “تاج بيروت” كله يملك هذه الشقه، سألته بدهشه “تبارك الكريم العظيم المبنى كله له” قال: والمبنى في الخلف أيضا ولو شئت في المبنى الآخر يوجد شقة أصغر مفروشة يمنع فيها تغيير او تبديل او حتى تحريك الديكور، أجبته رغم أني اعتمدت على هذه لكن لا يمنع أن أطلع على الشقة الأصغر..
في المبنى الملاصق للخلفية والمسمّى “صنايع هوم” استقبلتني التفاصيل بمظهر أكثر ترفاً وأكثر حرصاً، حيث الأقفال الهدروليكية وأحسستُ أن المبنى مجهّز لأناس أقلَّ حرية مني، وأكثر حرصاً، وأكثر خوفاً على حالهم وأموالهم، وشعرت أن هذا البناء أشبه بقوقعه فولاذية رغم كل مظاهر الأناقة والترف، فما إن فتح باب الشقه، أدركت أنها بانتظار عائلة غامضة جدا تخطّط لاصطياد رزقتها كصيادي الأدغال، مكبّلين بأغلال الارتباطات المزيّفة والمنافقة والمرُهِقَة تماماً، لا شرفة لهذه الشقة بل محاطة بجدران ونوافذ غليظة كأنها زنزانة ل”مختلسي” الأموال، وسارقي الأحلام وقوت الناس، شعرت بنفور غريب وتحركتُ في لحظات قبل إتمام الجولة في الشقة، وانا أتحدّث بجزم: لا لا هذه لا يمكن، أفضّل قطعاً الشقّة الأخرى فيها ملعب شاسع للمخيلة، وهوامش عريضة للأفكار، وأرصفة نظيفة للأحلام، وشوارع شاسعة لتتجوّل أقلامي وأناملي عند الكتابة بحيوية، فيها سقف أعلى من طموحاتي، وجدران أبعد من أمزجتي.. إلخ إلخ إلخ

طبعا عبد الله لم يسبق له أن سمع هذه العبارات الفضفاضه الأشبه بالهلوسة، والأقرب إلى الهذيان بالنسبة له، وحتماً كان يشكّك بما أنا فيه من عقل وتوازن بينه وبين نفسه، المهم طلبتُ العودة ل”شقتي” التي اعتبرتها شقتي بصرف النظر عن تعقيدات الوجود، تماما كمن دخل الفردوس الأعلى ولم يجد من يطالبه بعقد الأجار والتفاصيل الممضّة..
عبد الله رغم الطقس الجميل المختلف الذي انساق فيه معي، سألني مدام هل لديك فكرة عن أجار الشقه السنوي؟!
هنا شعرت أن الفيلم انتهى وفتحتْ الأضواء وصار لابد من الخروج من الباب الخلفي للعرض، أجبته لا لا فكره لدي نوّرني..

أجاب: هذه الشقه أجارها سنوياً وليس شهرياً، وجميع النفقات مسبقة الدفع 20 ألف دولار سنوي و 4600 $  إضافية بدل خدمات للبناء والاساسنسور والدرج والكونسييرج والذي منّه ماعدا 200$ هول شهري للاشتراك بالكهرباء وكل النفقات الاضافية قابلة للزيادة حسب الظروف المستجدّة، وحضرتك أعلم كل شيء إلى زيادة بين ليلة وضحاها..
لم أكترث لكل هذه التفاصيل ما زالت ثقتي أكبر من الأرقام والحسابات والعقود والالتزامات..
قلت أريد اللقاء بصاحب المبنى من هو؟!!

أجاب : المهندس “بسام برغوت” قلت أريد موعدا معه أجاب: لا داعي للموعد، مكتبه في الطابق الأول وهو لطيف، ودمث، وودود جدا، ويمكن اللقاء به متى شئت..

قلت الآن هل هو متواجد الآن قال موجود نعم قلت على خيرة الله إذن، قال تفضلي في الطابق الأول موجود سكرتيره تساعدك للتواصل معه، وموجود مرافقه محمد والأمور أيسر مما تتصورين..
صرت أسمع في قلبي قرع طبول غجرية، كثيرها فرح أن صاحب هذه الشقة سيسعده أن تصير هذه الشقة مربضي، ومهبط وَحْيِ، ومرتع أفكاري، وملعب خيالاتي، وخاصّة أنها ستمتلىء بكثافتي، وقصائدي، وإصداراتي، وأرشيفي، وقصاصاتي، ومكتبتي، وفوضاي الرهيبة.. 

كنت على ثقة بأنني لن أعدم إقناعه، بل لن أحتاج حتى لإقناعه، وخاصة أن مكتبه المترف جداً يدل على انتفاخ جيوبه حدّ التورّم، التي تضمن “الشبع”، وجزمت أنه لن يناقش معي تفاصيل الأجار، ولن يدقق في أية زيادة ترهقني أو نقصان يهزّ له عقيرته..

سألتني السكرتيرة، ماذا أكتب جانب اسمك لتوضيح هدف الزيارة، أجبتها لا داعي للشرح فقط أخبريه أن الشقه في الطابق الرابع “تنتظرني”، في غضون لحظات رغم وجود زوار في مكتبه الآخر وجدته “ماثلاً” أمامي مرحّباً بحفاوة بالغة، متواضعا، دمثاً، خلوقاً، ودوداً كما وصفه عبد الله وأكثر، حاولت الاعتذار لقدومي من غير موعد مسبق، وأني قطعت عليه مجلسه، واني أخرجته من مكتبه، وأني وأني.

قال : لا داعي لأي حرج، أخبريني رأيك بالشقة، وبدأ يسرد على مسمعي الكثير من الامتيازات، كنت مقتنعه أن الأمر مكتمل تماماً، وأن المسألة مسألة بعض الوقت، لأستقر فيها بعد إرباكات النقل وتوابعه الممضّة، التي لم أنتهِ بعد من سابقتها، حين وجدت نفسي على خلاف مع صاحب الشقة التي اسكنها حالياً، بسبب الدولار وألعابه المريبة وتعدد أسعار الصرف..

المهم وقبل أن يسرح خيالي في تداعيات لا حصر لها، وبعد اللقاء الايجابي المَهُوْل، سألني السيد “برغوث” هل اطلعت على تكاليف أجار الشقه في السنة..

وهنا ما زالت الثقة تلتفّ حول قامتي العلياء، كالحزام الناسف، قلت ولكن هذه التكلفه بالتأكيد لا تطبّق عليّ شخصياً، فأنا صاحبة قلم وصاحبة، مواقف، وصاحبة مجلة، وصاحبة كلمة، وصاحبة مبدأ، وصاحبة قضية، وصاحبة رسالة، وصاحبة 7 إصدارات، وصاحبة دور، وصاحبة رأي، وصاحبة قيمة، وصاحبة اسم، وصاحبة بصمة، وأنا في غمرة هذه الاستطرادات استوقفني..

المهم هل أنتِ صاحبة رصيد في البنك أو في جعبتك الخاصة، أجبت لا لا لا رصيد ولا هم يحزنون، أعمل بجهد وبفضله تعالى بالكاد اكسب كفاف يومي، وأعيش ما تبقى لقصيدتي و…. وقبل أن تخرج الجملة اللاحقة نهض واقفاً، صرخ: محمّد.. ومحمد كان يحاول أن يزيح عبد الله ويفهمني أنّ الاتفاق معه من أجل الشقه وأن السيد “البرغوث” لن يغيّر من الدباجة المذكورة شيء..

لكني وبكل عناد وثقة، كنت أصرّ على لقاء المهندس “البرغوث” الذي تابع صراخه محمد وقد تبدّلت ملامحه التبدّل الجذري، وفي علو الصوت، وتقطيب الحاجبين، ظننت أنه يستنجد بمحمد ليرميني خارج المكتب الفاره المترف جدا، ولكن تبيّن أن إحدى الزوايا التي لا تزيد عن نصف سنتمتر يوجد بها بعض الغبار “اللامرئية” وبالفعل المكتب أنظف من غرف العناية في مشفى ال /CMC /..

حضر محمد ونظر السيد “البرغوث” مكفر الوجه متهدّج الصوت، كيف تترك هذه الذرات من الغبرة هنا يا محمد، انحنى محمد خجلاً وطأطأ رأسه، وهمس معتذرا حاضر استاذ كل المكتب سيعاد تنظيفه اليوم قبل المغادرة، وطبعا محمد “النازح” السوري، كان قد سقط كبريائه عند أعتاب المغادرة من وطنه، الذي لم يسلم فيه من أيادي الغدر شيء، واضطر أن يترك كرامته تحت الانقاض هناك، ليصير نازحا ولاجئاً ومغلوباً على أمره يستغله كل من يمتلك النفوذ والغطرسة..

ابتلع محمد حرجه أمامي ولم يملك غير الرضوخ لعنجهية السيد “البرغوث”، ثم التفتَ إليّ في خضمّ المشهد التراجيدي وقال سيدتي ماهي إمكاناتك للدفع سنوياً، أجبته من الآخر نصف ما ذكرت، قال يمكن ان أكارمك بإنقاص 500$ أجبته بدهشة 500$ مقابل ما يقارب 30 ألف $ في السنة أف ماهذا الكرم..

قال هذا ما يمكنني أن أتساهل به فقط، وقتها شحذتُ همّتي، وتملكتني رغبة المفاوض “عمّار شلق ” قلتُ يا سيد “برغوت” 30 الف $ لامرأة تسكن الشقة ولا تعلم من أين تحصل على سيولتها ربما بطرق مشبوهة وقبل ان أتابع.. أجاب دون تفكير : لا يهمني، استطردت وهو يقاطعني، أو ربما يسكن الشقة تاجر يدفع المبلغ بكل طيب خاطر وهو يتاجر بالممنوعات أو الأسلحة أو الأعضاء البشرية أو ما شابه وهو يردد كي يقطع علي الكلام لا يهمني ..

ثم أردفتُ قائلة: في حال أني سأدفع لك نصف ما ذكرتَ وتعلم أن بقية المطلوب يمكن أن تتقاضاه مني إصدارات وأفكار وسمعه واسم وأخلاق وقِيَم قال ولا أعلم هنا إن كان ساخراً أو ساخطاً: وأين أصرفها الاصدارات والسمعه والأخلاق والقِيَم؟!!! ..
لحظتها أدركت، أن التفاوض انتهى، وأن الكلام انتهى، وان المجتمع ب”رمّته” .. انتهى.

مشيت إلى البيت رغم قرب المسافة التي لا تتعدى ال 500 متر، شعرت أنها مسافة عمر كامل، ورغم الضوء شعرت بعتمة الطريق، ورغم ازدحام الشارع بالمارة شعرت بخواء الأرصفة، ورغم أن الجميع يسير على قائمتين كنت أشعر أنها كائنات غير التي ألفتُها كليّاً.

رفعتُ رأسي للسماء وسألت ربي متى سيكون الطريق إليك بعيداً عن هؤلاء المرابين الذين يشبهون “شايلوك” ليس كثيراً في الشكل ربما، لكن حدّ التطابق قطعاً في المضمون….

وصلتُ البيت الذي يوثّق غربتي عن هذا العالم وأنا أفكر في “شايلوك” آخر لا بد من لقائه في وقت قريب ولمقر لا بد منه.. 

خاصّ – إلا – 

You may also like