Home إلّا منتدى التكامل الإقليمي.. ضرورة حضاريّة لدرءِ الحروب والأزمات

منتدى التكامل الإقليمي.. ضرورة حضاريّة لدرءِ الحروب والأزمات

by رئيس التحرير

قاسم قصير / كاتب ومحلل سياسي لبناني – بيروت

تواجه منطقتنا العربية والاسلامية في هذه المرحلة سلسلة حروب وصراعات ذات أبعاد سياسية ومذهبية وعرقية، وقد أدت هذه الصراعات الى تدمير دول وسقوط مئات الألوف من الضحايا وخسارة مئات مليارات الدولارات، والخوف الأكبر أن تستمر هذه الصراعات لثلاثين سنة مقبلة كما أعلن بعض المسؤولين الاميركيين.

ولأجل مواجهة هذه الحروب ينشط بعض الباحثين والإعلاميين والمثقّفين العرب لطرح مشروع جديد يفتح الباب أمامهم للحوار والتعاون الإقليمي ولا سيما بين العالم العربي وإيران وتركيا، ويجري التواصل أيضا مع شخصيات تركية وإيرانية وكردية لدعم هذا المشروع والذي سيتم إطلاقه خلال الشهر المقبل من العام الحالي.

وهنا أبرز ما ورد في الرؤية الفكرية والسياسية لهذا المشروع والتي يتمّ الحوار حولها بين المشاركين في الإطار التأسيسي للمنتدى: الأشباح والأوهام إن الحروب الأهلية الراهنة، أو حرب الثلاثين عاماً التي يجري الحديث عنها لن يكون فيها منتصر ومهزوم: لا الشيعة سينجحون في تشييع مليار و200 مليون سنّي، ولا السنّة سيتمكنون من تحقيق ما عجز عنه تاريخ عمره 1300 سنة: “تسنين ” الشيعة أو إعادتهم إلى مربع الحرمان والاضطهاد.

وماينطبق على الشيعة والسنّة يسحب نفسه على كل الصراعات الإيديولوجية الصفرية الأخرى بين الاخوان المسلمين، والوهابيين والسلفيين، والاسلاميين الليبراليين والعلمانيين، والأباضيين، والدروز والاسماعيليين والعلويين، وكذلك بين التيارات الصفوية والمهدوية والليبرالية العلوية الشيعية.

كل هذه الصراعات عبثية لأنها في الواقع لا تُخاض في الزمن الحاضر ولا حتى تسعى “للعودة إلى المستقبل”، بل هي تعمل على مستوى اللاوعي الغرائزي الجمعي، فيعتقد البعض أنه يمكن إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، فيما يريد البعض الآخر بعث الماضي كما هو في الحاضر، كأن شيئاً لم يتغيّر البتة منذ 14 قرنا.

إنها حروب الأشباح والأوهام والظلال. الحروب المستحيلة لإحياء الاموات. حروب الوعي الزائف، واللاعقلاني، ونكاد نقول اللا إسلامي لدى الأطراف التي تتخانق الآن حول الطريقة التي يريد أن يتجلى الله فيها في العالم.

لكن، ولأن هذه الحروب عبثية ولن يكون من ورائها طائل البتة سوى القتل الجماعي الدمار والانحلال، كما أثبتت بجلاء الصراعات الأهلية السنيّة- الشيعية طيلة أكثر من ألف سنة، وكما أثبتت حروب العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، سيكون مُحتّماً في لحظة ما أن يصل الجميع إلى القناعة بأن الحوار هو المنقذ الوحيد من ضلال الانتحار الجماعي، تماماً كما اكتشف البروتستانت والكاثوليك الأوروبيون في القرن السابع عشر حين يمّموا وجههم نحو وستفاليا طلباً للنجاة المشتركة بدل الهلاك المشترك، ولكن بعد ن قتلوا نحو ثلث سكان أوروبا ودمّروا معظم القارة.

بيد أنّ هذه لحظة يجب العمل، كما أسلفنا، على استيلادها لا انتظار ولادتها، لأن التدخّلات الدولية الكثيفة في مجرى الصراع المشرقي، ستعمل دوماً على إيقاد نيرانه كلما بدا أنه بدأ يخمد، وعلى تقوية الطرف الضعيف لدفعه إلى مواصلة الحرب ضد الطرف الأقوى (جورج بوش مع الشيعة ضد السنّة، ترامب ضد الشيعة مع السنّة، وأوباما في لعبة التوازن بين السنّة والشيعة وتوجيه وتغذية الصراع بينهم).

لكن، ما السبيل إلى توفير ولادة سلمية وصحيّة لهذه اللحظة؟ ولا شكّ أنّ  الحاجة هنا ماسة إلى ثلاثة أنموذجات(paradigm ) متقاطعة :

الأول: إحلال أنموذج التعاون والتكامل الأمني والاقتصادي الإقليمي مكان حروب الدول- الأمم الراهنة، سواء اتّخذ ذلك الشكل الكونفيدرالي بين الأمم الأربع المكوّنة للمشرق المتوسطي، أو مجرد المُجمّع التنسيقي.

والثاني: أنموذج لوعي جديد، وتوجهات روحانية جديدة، تمهّدان لولادة هوية مشرقية- حضارية جديدة مشتركة بين هذه الأمم، تكون هي التجسيد الحقيقي لكلٍ من الوحدة الجيو- ثقافية للإقليم ولذاكرته الجماعية المشتركة: هوية ديمقراطية وليبرالية تستند إلى النزعة التوحيدية الشاملة في الاسلام التي تقوم على الاعتراف بالأخر، والتسامح، والتعاون، وإعلاء مصلحة الجماعة بالتساوق مع إطلاق طاقات الفرد وحرياته. الإقليم، وعلى عكس الأقاليم الأخرى في العالم، قادر على استنباط وبلورة مثل هذه الهوية لأنها كانت، ولاتزال، مكوّناً رئيساً ومشتركاً لشخصية كل الأمم الأربع. وهذا مايساعد إلى حد كبير على إرساء التكامل الإقليمي الأمني والاقتصادي والاستراتيجي على أسس عميقة وراسخة.

الثالث: هو تحويل هذه التوجّهات إلى طرح عالمي يتحدّد فيه الدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه الإقليم، ومعه الشرق الآسيوي الإسلامي، في محورين إثنين: المشاركة في العمل على استيلاد النظام العالمي الجديد مُتعدّد الحضارات، ولعب دور الموازن بين الغرب وبين الشرق الآسيوي في التنافس الحتمي الذي سينشب بينهما حول طبيعة هذا النظام الدولي الجديد.

الأنموذج الأول، أي الكونفيدرالية الإقليمية، تتطلّب بروز نخب إيرانية وتركية وكردية وعربية مشتركة في كلِ من السلطة والمجتمع، مدعومة بمجتمعات مدنية حيوية، تعمل بكدّ ودأب ليس فقط على توضيح القفزات الحضارية- الاقتصادية الهائلة التي يمكن أن تحققها الأمم الأربع في حال أعادت بناء الوحدة الجيو- ثقافية والجيوسياسية والاقتصادية للإقليم، بل أيضاً على تصفية الحساب مع الانقسامات السايكولوجية التي تراكمت طيلة قرن كامل بعد انهيار الدولة العثمانية (وحتى قبل ذلك بكثير) ضد بعضها البعض.

الخيارات لتحقيق هذا الهدف عديدة: من مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي (مع وثيقة هلسنكي الختامية العام 1975)، وما تلاه من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا والاتحاد الأوروبي، إلى رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) مع ذراعها الأمني منتدى آسيان الإقليمي؛ ومعاهدة شنغهاي، مروراً بالعمل على تطوير وتوسيع كل المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي واتحاد المغرب العربي بما يؤدي إلى لم شمل كل أمم المنطقة.

بالطبع، الصعوبات أمام هذا التوجّه قد تبدو كأداء للغاية.. فالغرب، بشطريه الأميركي والأوروبي، سيقف بالمرصاد لأي خطوات توحيدية في الإقليم، خاصة وأنه يملك تصوراته وخططه الخاصة لشرق أوسطي “أوسع أو أكبر أو متوسطي” يكون حديقته الخلفية المُطواعة.

أضف إلى أنّ وجود الحركة الصهيونية في موقع القلب الجيو- استراتيجي للمنطقة بكونها حاملة الطائرات الغربية الدائمة في البحر المتوسط والامتداد الشرقي للسطوة المالية والاقتصادية اليهودية الغربية، سيكون حجراً عثرة دوماً في وجه مثل هذه الخطوات.

هذا ناهيك عن التراكمات السايكولوجية السلبية بين دول الإقليم وشعوبه على حد سواء. بيد أن كل هذه العقبات الثابتة باتت تسبح الآن في بحر هائج من التغيّرات المتلاهثة في الدواخل الغربية، والتي تشي بأن أطراف الحضارة الغربية ستكون أكثر انشغالاً بما لايقاس في عملية ترتيب بيتها الداخلي المأزوم، إضافة إلى همّها الرئيس الخاص بالتصدي إلى صعود الشرق الآسيوي المنافس، بدلاً من الالتفات إلى المشرق (كما كان يحدث منذ ألف عام وحتى الآن) والتركيز على مواصلة استلحاقه ومواصلة اخضاعه.

وهذا قد يقلّص إلى حدّ كبير (أو يُفترض ذلك) من رهان أو ارتباط القوى السياسية الرئيس في الأمم الأربع في الإقليم بالأطراف الخارجية الدولية، ويدفعها إلى البحث عن تسويات داخلية مع زميلاتها المشرقيّات. وعلى أي حال، كانت البوادر الأولى لهذا المنحى واضحة بعد أن بدأت الولايات المتحدة انحسارها التدريجي من المشرق. ثم أن نقطة البداية نحو المشروع الكونفيدرالي يمكن أن تكون متواضعة للغاية، على غرار ما فعلت دول جنوب شرق آسيا حين أسست معاهدة آسيان للصداقة والتعاون الفضفاضة للغاية في العام 1976.

حين وفّرت هذه المعاهدة في البداية قدراً ضئيلاً للغاية من التعاون بين هذه الدول، وكاد يقتصر على مكافحة القرصنة والمساعدات الإنسانية والإغاثة من الكوارث. بيد أن اجتماعات الرابطة كانت تُراكم مع الوقت شعوراً بالمشاركة الاستراتيجية بين أعضائها، وما لبثت أن نقلتهم إلى التفكير المشترك حول قضايا الأمن الإقليمي.

وقد استندت هذه النجاحات إلى صيغة شبيهة بوستفاليا الأوروبية: الاحترام المتبادل لاستقلال وسيادة وتكافؤ كل الدول وسلامة أراضيها وهويتها الوطنية، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتسوية الخلافات والنزاعات بالطرق السلمية، والتخلي عن استخدام القوة أو التهديد بها.

ثم جاءت الوثيقة التأسيسية لمنتدى آسيان لتضع نهجاً تدرُجياً من ثلاث خطوات لتطوير المنتدى، تبدأ ببناء الثقة، الشروع وبعدها في الدبلوماسية الوقائية، ثم على المدى الطويل امتلاك القدرة على حل النزاعات. بيد أن المشرق المتوسطي يستطيع أن يختصر درب جلجلة آسيان الطويل والبطىء، إذا ما استلّ سلاحه السري الضخم ووضعه في خدمة مشاريعه الجيو- استراتيجية: الوحدة الجيو- ثقافية المتمحورة بالدرجة الأولى والاخيرة حول نزعة التوحيد الكونية والحضارية الإسلامية التي يمكنها، إذا ما جرت توأمتها مع الانقلابات العلمية- الفلسفية الهائلة في القرن الحادي والعشرين، أن توفّر ليس فقط إعادة بعث الهوية الحضارية المشتركة للإقليم، بل ربما تشكّل أيضاً مساهمة تاريخية كبرى لعالم يبحث هو الآخر عن هوية جديدة تنقذه من غوائل الهويات الأصولية المتطرفة القاتلة بشطريها الديني والرأسمالي، والتي تكاد الآن تودي بالحياة نفسها على كوكب الأرض.

وستفاليا الدينية أو المذهبية بين كل الألوان الإقليمية في المنطقة، قد تكون مدخلاً للخروج من أتون الحروب العبثية، لكنها لا تفي البتّة الحضارة الإسلامية لا حقّها في مجالات قيم التسامح والتعددية والتعايش والتعاون، ولا مضامينها الفلسفية العميقة التي تجعل من كل المخلوقات والموجودات كلاً واحداً لايتجزأ.

يستطيع الشيعي والسنّي والدرزي والاسماعيلي والعلوي والمسيحي واليهودي أن يفخر بمعتقده ويجاهر به من دون أن يتسبّب بحرب أهلية، إذا ما أعطى الأولوية القصوى لجوهر الحضارة الإسلامية المُطلق: التوحيد والواحد ووحدة الكائنات والوجود.

وحين يفعل ذلك على إيقاع ما فعل ابن عربي، لن يحل فقط أزمة هويته الخاصة، بل ستكون له حينذاك رسالة روحانية- أخلاقية عالمية يقتحم بها كل أسوار العالم. وإذا كان البعض يعتقد أن الضعيف والفقير لايستطيع أن يطرح على القوي والغني أفكاراً لتغيير العالم، فليتذكّر أن البدوي الفقير “محمد “، قوّض أعظم امبراطورتين عُظميين في عصرهما بفكرة التوحيد، وأن الامبراطورية الرومانية العالمية ركعت لدعوة الراعي المُعدم السيد المسيح إلى الحبّ والمحبّة، وأن بوذا الأمير المتقاعد من السلطة والمال، غزا بروحانيته التوحيدية قارة آسيوية ضخمة عجزت كل جيوش التاريخ الجرارة عن إخضاعها.

أجل.. ثمّة دور يبحث عن بطل في العالم، وثمّة عالم يبحث عن هويّة حضاريّة جديدة وحقيقيّة ومُتجاوزة تقود إلى حضارة عالميّة جديدة تعترف بالاختلافات كما بالتشابهات، وتسعى إلى نظام عالمي وفق قيم وأسس مُصمّمة بوضوح لضمان مشاركة متساوية لكلٍ من الحضارات الرئيسة في العالم، أي الديمقراطية الكوزموبوليتية والحوكمة الكوزموبولوتية.. والحضارة الإسلامية أحد المرشحين للمساهمة في حيّز أساسي من هذا الدور.

 

خاصّ – إلّا –

You may also like