Home إلّا صديق – إلّا – وكاتبها الأمين عصام الغازي تحيّة حبّ ووفاء لذكراك التي لن تغيب

صديق – إلّا – وكاتبها الأمين عصام الغازي تحيّة حبّ ووفاء لذكراك التي لن تغيب

by رئيس التحرير
561809_170

عصام الغازي ستظلّ – إلّا – وفيّة لكَ كما عهدتك وفيّاً لها

يفتح الملفات المسكوت عنها في الواقع العربي
الشـاعر عصام الغازي: المجتمع العربي مريض بفقدان المناعة المكتَسَبة

يتردّد في الروح نبضاً ألا ننسى قاماتنا ولا رجالاتنا ولا ثوراتنا الحقيقية التي حمل ثوارها زادهم من مؤونة بيوتهم ومن غلال حقولهم في البقاع والحسكة وحوران والغوطة والدلتا والصعيد ليشتروا بعض «الفشك» للحاق بركب الثورة وجيش الإنقاذ.. ليكون إنقاذ!

يُشهر وجدانه سجل تاريخ مصري نابض.. حتى ليتساءل أحدنا هل ما زال عبد الناصر يخطب في المنشية أو مازال يخط أولى مذكراته خلال حصار الفالوجة بفلسطين، وما زالت لم ترتكب بعد حكومة لبنان جريمة إعدام أنطون سعاده وما زالت فلسطين قيد جهاد فعلي منّا لتتطهّر إن عدنا حقاً إلى ساح الجهاد، كما دعانا!

ويُشهر ذاكرة فيل عتيد لا تثلمها السنون ولا حوادثها فتراها رقراقة نقية وكأنها طازجة من حواضر اليوم المصري أو مطبخ التحرير الصحافي وقد انتثرت على طاولته، إذ كان عادة الشاعر والصحافي الكبير عصام الغازي رئيس تحرير كبريات المجلات والصحف العربية التي انطبعت بأسلوبه وروحه لتتابع وتواكب وتحدث عصر الصورة واللمحة.

عاصر كبار رجال الثقافة والإعلام المصريين وحاورهم وتعلّم منهم الكثير، حتى تبلورت شخصيته الفكرية والشعرية والإعلامية، وعلّم من تبعوها كشيخ طريقة صحافية وشعرية، فقدم حوارات زلزالية فكرياً وأدبياً ودينياً مع كبار الشخصيات توّجته نجم صحافة مصرية وعربية ردحاً من زمن كانت منها حواراته مع الداعية الإسلامي عمرو خالد وكتابه عن القائد الإخواني عمر التلمساني.

عندما احتجّ الإسرائيليون عبر ما يُسمّى سفارتهم في القاهرة على نشر عصام الغازي قصيدة لا تصالح لأمل دنقل، في مجلة «النصر» التي تصدرها القوات المسلحة المصرية فاحتجّت السفارة «الإسرائيلية» لدى وزارة الخارجية المصرية، لكن «وزير الدفاع الفريق أحمد بدوي طلب عدم الالتفات للاحتجاج فنستمر على «نهج الصقور»، لأننا صوت القوات المسلحة المصرية».

ربما عصر الاستسلام الذي انتهجه السادات اغتال فيه روحاً وعزيمة فأحس بانكسار الحلم الوطني والعربي، لكن الأحلام بطبيعتها لا تموت فتطير بأجنحتها وتحيي الرميم في الإنسان فيقوم من جديد، سيان أكانت قيامته في اليوم الثالث أم في العقد التالي، كما قام الغازي العام 2006 بجمعه دواوينه الثلاثة في مجموعة واحدة ليطلق الحلم ويسلم الراية لجيل جديد، كما قال لابنته ريم : «معذرة يا ابنتي لم أستطع أن أكون فارس هذا الزمان . انكسر الحلم، فنبت الشجر الأسود في العيون، وتبدّد وطن النبالة والجمال الذي أردت ادخاره لك، تحت سنابك ليل لا أحلم له بفجر . فكوني له الفجر والأمل والانتصار . .».

ونحن في «البناء»، الصحيفة المقاومة، إذ نطلق تحية للشاعر الكبير، نؤكد أن الأحلام هي الوقائع، بما أحدثته المقاومة الوطنية والإسلامية فحررت الأرض والأهم أنها حرّرت الإنسان فينا لتجعل الاستسلام مجرد ذكرى مقيتة ووصمة عبرة على مَن ارتكبها.

هنا حوار أجراه الزميل زاهر قضماني ينشر كاملاً في السياسة والمجتمع والأدب والإعلام والسيرة الشخصية.

عصام الغازي ثِقْ .. في عصر المقاومة، لا ينكسر حلم الشرفاء!

تقديم وإعداد: هاني الحلبي

حوار: زاهر قضماني

قال لي عصام الغازي كاشفا أسراراً مثيرة يذيعها لأول مرة:

لم أولد من الجدار، لكنني ولدت من أسرة تنتمي للطبقة المتوسطة في مدينة صغيرة اسمها «شربين»، حواريها مبلطة بالبازلت الأسود، وخلف جدران بيوتها الشاهقة الجدران رطوبة أنفاس فاسدة معتلة من الفقر، ومن هباب لمبات الجاز، التي تستعمل قبل الإضاءة في اصطياد طوابير البق.

ومع ذلك كانت المدينة تضم معالم غابت عنها الآن، مثل الحدائق الجميلة الواسعة، ودور السينما، وطيبة أهلها «الظاهرة»، وعربات رش شوارعها كل يوم أكثر من مرة بالماء النظيف.

لم أكن قد قرأت التاريخ حين ظننت عائلتي هي أفضل أنواع البشر، بلحومها البيضاء، ووجوهها التي ينفر منها الدم، وحناجرهم المتعالية كأنها نقيق ضفادع.

عصام الغازي في العاشرة من عمره

حين كبرت قليلاً، أضجرني أنني أمشي في الشوارع الموحلة ببلدتي لابسا «قبقاباً» من الخشب، استبدلته بحذاء رديء عند التحاقي بالمدرسة، والمصيبة أن عيوني تفتحت على المرأة وأنا تلميذ في المرحلة الإعدادية ألبس بنطلوناً وحيداً ممزقاً من الخلف، أحاول إخفاءه بذيل القميص حتى لا تراه البنت التي خفق قلبي الأخضر بحبّها، وكتبت عنها أول أبيات شعري المبكرة، وأرسلت لها جواباً غرامياً ابتسمت عندما قرأته، ومنحتني شرف مرافقتها وهي ذاهبة لشراء اللبن لأسرتها من بيوت الفلاحين، وحين تحرّش بنا أحد الصبية من الجيران، خفت أنا منه، فتقدّمت هي وصفعته على وجهه!

أحفاد الفراعنة يحكمهم عبيد!
ماذا عن عبد الناصر؟

– اكتشفت أنّ في بلادنا ثورة يقودها رجل أسطوري اسمه جمال عبد الناصر، اشترى والدي راديو يعمل ببطارية جافة لسماع خطَبه الرنانة المدوية، وكنا نسمع مع خطب عبد الناصر مسلسل «ألف ليلة وليلة» ونشرات الأخبار. جرّبت أن أبعث رسالة إلى الرجل الذي بهرتني شجاعته ووطنيته، رسالة إلى الرئيس جمال، وكنت في التاسعة من عمري، وفوجئت بمظروف يحمل اسمي سلّمه لي الناظر في طابور المدرسة الصباحي وسط تصفيق وحسد التلاميذ الذين قال لهم الناظر: زميلكم وصلته رسالة من رئيس الجمهورية سيقرأها عليكم!

ومن يومها صرت زعيماً في مدرستي، أتبادل هذا الدور مع صديقي «شهيد الارهاب» د. «فرج فوده»، أقول كلمة الصباح، وأقلّد زعيم الأمة في خطبه الحماسية خاصة التي أمّم فيها قناة السويس.

كيف تعرّفت إلى التاريخ المصري وماذا وجدت فيه؟

– أشياء كثيرة بدأت أفهمها مع الوقت، فبدأت أتعرف إلى التاريخ الفرعوني بزيارة المتحف المصري في ميدان التحرير والمتحف الروماني بالاسكندرية خلال رحلات مدرسية. كان الأستاذ عبد الرحيم قنديل يسقيني تاريخ مصر والعالم: الثورة الفرنسية والثورة الأميركية والثورة الانجليزية والثورة البلشفية، وتاريخ الصين والهند، إلى أن صدمت صدمة مروعة حين علمت أن مصر هي الدولة الوحيدة في العالم التي كانت تشتري العبيد من الأطفال المخطوفين من أنحاء العالم، ثم تربيهم وتدرّبهم على فنون القتال والرياضة والفتونة ليكونوا حكاماً لها في المستقبل وقادة لجيشها باسم المماليك .

أول زوّار الفجـر

من هم زوار الفجر وما خبرتك معهم وما أول عهدك بهم؟

– صحوتّ وقت الفجر عام 1954 وكنت في السابعة من عمري على أصوات غريبة في الحجرة التي أنام فيها مع 3 من أخواتي البنات، وجدت ضابطاً أسود ومجموعة من الرجال يلبس كل منهم جلباباً فوقه بالطو وهم مخبرون يملأون الغرفة، طلبوا مني بغلظة أن أنهض. ثم قاموا بتفتيش الغرفة وخرجوا، وعلمت بعد ذلك أن جدي الشيخ عبد السلام كان رئيس جماعة الإخوان المسلمين بالمدينة، وأن الشرطة ألقت القبض على جميع أعضاء هذه الجماعة ما عدا جدي لكبر سنّه لأن الإخوان أطلقوا النار على الرئيس جمال عبد الناصر في الإسكندرية وهو يلقي خطاباً، ومن يومها كرهت الإخوان. المدهش أن «المندرة» في الدور الأرضي من بيتنا كانت تستقبل اجتماعات الإخوان الأسبوعية يوم الأربعاء كنت أتسلل لحضورها أحياناً، وكان أبي يقدّم لهم الشاي ثم يغادر الغرفة، لأنه كان مع الثورة وعبد الناصر ، أما باقي أيام الأسبوع فإن المندرة تشهد اجتماعات أخي الأكبر صلاح الذي كان شيوعياً مع رفاقه من طلبة الثانوي والجامعة.

كان بيتنا يحتوي كل الأيديولوجيات السياسية المتناقضة، شأن كل أسرة مصرية في الخمسينيات من القرن العشرين، لكن أفراد الأسرة كانوا يتعايشون معاً من دون صدام بينهم! وكانت البنات «تستخبي» عند البلوغ، أي لا تغادر باب البيت نهائياً حتى تخرج لبيت زوجها، ومثلما فعلت أختي سميرة كانت تثقف نفسها بنفسها من خلال قراءة الصحف والمجلات والكتب التي تحتويها مكتبة أبي المنزلية وكانت تضمّ روائع الأدب العربي والعالمي.
صــقـور الجيش المصـري


كنت عسكرياً هل ما زلتَ ثورياً أيضاً؟

– كانت ثوريتي تتجلّى في الخطب الحماسية المدرسية والمظاهرات الطالبية حين تندلع ثورة ذات بعد قومي في أحد البلدان العربية كالعراق أو سوريا، وانضممت لاحقاً إلى منظمة الشباب الاشتراكي، وكنت منحازاً لليسار التقدمي مبهوراً بشخصية أرنستو جيفارا، خاصة بعد قراءتي لكتابين ثورة في الثورة، ودفاعاً عن الثورية للمفكر الفرنسي ريجي دوبريه. وكان مصرع جيفارا بعد هزيمة يونيو 1967 في مصر، زلزالاً هزّ كياني مع أقراني الذين كانوا يشاطرونني أحلامي الثورية. ثم كانت لي تجربة ثرية في القوات المسلحة بمشاركتي في حرب الاستنزاف تحت قيادة جمال عبد الناصر ومشاركتي في حرب أكتوبر 1973 تحت قيادة السادات، ثم تعييني في مجلة النصر التي تصدرها القوات المسلحة المصرية، حيث جعلت منها مع الصديق صبري الشربيني رئيس تحريرها – منبراً لفكر الصقور، فنشرت فيها قصائد نجيب سرور وأحمد فؤاد نجم وأمل دنقل والأبنودي في الوقت الذي كانت الصحف المسماة بالقومية تحظر نشر أسمائهم!

وأتذكّر أنني نشرت قصيدة لا تصالح لأمل دنقل، فاحتجّت السفارة الإسرائيلية لدى وزارة الخارجية، وأبلغنا وزير الدفاع الفريق أحمد بدوي بذلك، وطلب منا أن نستمر على «نهج الصقور»، لأننا صوت القوات المسلحة المصرية.

ملفـَّـات مخزيـة

هناك ما يُقال عن أن الفقر أبو المفاسد. كيف توثق مشاهده في مصر؟

– لن أفسّر الماء بعد الجهد بالماء. لكي نفهم حقيقة المشهد السياسي الراهن، علينا أن نغوص وراء هذا المشهد، لكي نصل إلى النار الحقيقية التي ترقد تحت الرماد. في مصر وغيرها من دول كثيرة عربية هناك أناس من «عائلات» يصحون مبكراً لنبش قمامة الأغنياء، والتقاط كسرات الخبز أو بقايا لحم في عظام الدجاج أو الذبائح المشوية، وهناك محال بيع الدواجن تبيع أرجل الدجاج لهؤلاء المعدمين حتى يعملوا منها حساء ساخناً لأطفالهم الذين يتضورون جوعا.

صرخة الفقر والعشوائيات في مصر

وهناك طالبات جامعيات يتسكعن أمام مطاعم شارع جامعة الدول العربية بالمهندسين، لكي يلتقط أي عابر واحدة منهن مقابل «سندويتش شاورمة» ساخن، وحين تسأل واحدة منهن: هل فقدت عذريتك حتى تفعلي ذلك، تقول لك: أحتفظ بـ «عذريتي» وأمارس الجنس من «دبر».

الإقامة في المدافن في مصر

هل تعرف أن مئات الألوف من المصريين يبيتون في أحضان الموتى بأحواش المقابر؟ كنا في شبابنا نتجنب المرور ليلاً في طريق المقابر خوفاً من عفاريت الموتى، والآن ينام أطفالنا على مراتب إسفنجية مع آباء وأمهات عجزوا عن توفير مسكن آمن لأبنائهم، فاستأجروا المقابر للإقامة الدائمة بها.

ولك أن تتخيّل هذه الأجساد المتفجرة بالشهوة، وهي تنام متلاصقة على أرضية غرفة واحدة ويشاهدون الأب والأم كل ليلة في علاقتهما الحميمة، فيتحسس الأخ أخته ويمارس معها زنا المحارم بكل أشكاله.

هذا الملف وحده المسكوت عنه يشكل كارثة نفسية في مجتمعنا.

جاءتني فتاة فائقة الجمال وأنا أعمل مدير تحرير جريدة الميدان عام 2000 وكنت أشرف على صفحة المشكلات العاطفية، قالت لي: أريدك أن تنشر مشكلتي، ومستعدّة أعقد مؤتمراً صحافياً وأقول ما سأرويه لك: أنا طالبة جامعية، يمارس أبي الجنس معي منذ خمس سنوات، ومع أخواتي الأربع، منهن الطبيبة والمضيفة والموظفة. كلنا استسلمنا له بعد رحيل أمي، وحين تحمل منه إحدانا تقوم الطبيبة بإجهاضها. كانت الصحف ممنوعة من نشر أي شيء يتعلّق بزنا المحارم، ونشرت المشكلة، وفوجئت بسيل منهمر من مشكلات زنا المحارم يغطي صفحات الصحف، بما في ذلك الإبن الوحيد الذي يضع المنوّم لأمه الأرملة كل ليلة في كوب اللبن ثم يضاجعها بعد أن تنام، وكادت الأم تجنّ حين ظهرت عليها أعراض الحمل ولم يمسسها بشر، من وجهة نظرها، حتى اكتشفت الكارثة.

وحكت لي صديقتي اللبنانية في الكويت، أن أباها العجوز كان ينهض كل ليلة عند الفجر ويتحسس الأماكن الحساسة في جسدها وهي تتظاهر بالنوم رعباً مما يفعل بها، وحين فاض بها الكيل استجمعت شجاعتها وهبّت ذات ليلة لتواجهه بالجريمة التي حرمتها النوم كل ليلة، فوقف ذليلاً أمامها يعتذر ويستعطف.

هل تخيّلت ملف أطفال الشوارع الذين ينامون متلاصقين تحت الكباري ويمارسون الجنس الجماعي مع بعضهم، كأنهم حيوانات في غابة؟ هل تخيلت مصير الأطفال الذين يولدون لهم، وثمن الطفل حين يباع كقطع غيار بشرية للمستشفيات التي تتاجر في الأعضاء لمن يملك الثمن؟

تعاطي المخدرات يبدأ من سن الحادية عشر في مصر

هل تخيّلت عالم المخدرات الرهيب المليء بالضحايا والقتل والرعب، وبيع الشرف من أجل حصول الفتاة على جرعة مخدرة؟

هل تعرف وطناً مليئاً بكل هذا القهر والظلم الاجتماعي والعوز لأبسط احتياجات الإنسان؟ إنها أوطاننا التي نعيش فيها وينخر السوس والسرطان أساسات بنيانها باستمرار.

.. ومشكلات التعليم والصحة

وما هو واقع التعليم والصحة في بلد الأزهر؟

– التعليم تمّ تخريبه حتى لا يأتي طه حسين آخر يطالب بأن يكون التعليم كالماء والهواء حقاً لكل مواطن، بدأوا بتخريب المدارس التي ضاقت الفصول الصفوف فيها بما تحتويه من تلاميذ 80 طالباً في الفصل الواحد ، ألغوا الملاعب الواسعة للكرة بمختلف أنواعها، ألغوا النشاط الرياضي كله، والأنشطة الثقافية والفنية والهوايات المختلفة، تحولت المدرسة إلى سجن كئيب، ينفر منه الطالب، وامتنع المعلم عن أداء دوره التربوي ومن ثم عن أداء واجبه التعليمي، وصارت الدروس الخصوصية و»السايبر» هي «التعليم الموازي» الذي يضمن نجاح الطالب وعبوره إلى الجامعة، بخلاف تخريب المناهج وحشوها بالزيف والنهج الذي يعتمد على الحفظ والتلقين لا على التفكير والفهم والابتكار.

«بالله.. لا تمُتْ يا أمل»


ولكن هل نستسلم؟

– الصحة صارت تجارة لمافيا صناعة الدواء المتحالفة مع مافيا الأطباء التي توحشت في ثرائها، وصار مصير مريض الفقراء هو الموت، في بلد لا يعرف شيئاً عن التأمين الصحي وحق المواطن في العلاج المجاني، ولا أنسى أن الشاعر «محمد الجيار» قد مات على بوابة مستشفى العجوزة وهو ينزف، لأنه لا يملك مئات عدة من الجنيهات يدفعها لكي يسمحوا بعلاجه، كما لا أنسى أن الشاعر الفنان «نجيب سرور» اغتاله الإهمال حين كان يرقد في معهد السكر في عنبر «درجة ثالثة» يضم عشرات الأسرّة، ولا أنسى مشهد ملك غرسون مقهى «ريش» وهو يجرد «نجيب سرور» من ساعته وثيابه في ليلة شتائية، لأنه عجز عن سداد فاتورة مشروباته، وكان «نجيب محفوظ» و»يوسف ادريس» يتفرّجان!

كما لا أنسى صديقي الشاعر «أمل دنقل» الذي أصيب بالسرطان وكان لا يملك شقة يسكنها مع زوجته الصحفية «عبلة الرويني»، وكان يسكن الشقق المفروشة، حيث يطالبه أصحاب الشقق بالرحيل فجأة، فكنت أصطحبه في جحيم حرارة أغسطس لنمرّ على سماسرة الشقق المفروشة في «مصر الجديدة»، يتقاذفونه من شخص لآخر ويستنزفون آخر جنيه في جيبه، وهو متكئ على ذراعي، ينهش السرطان ساقه وخصيته، فيجلس ليستريح من الألم على الرصيف، فيقول لي وعلى شفتيه مسحة حزن عميقة: لا أدري لماذا اختار المرض اللعين خصيتي بعد فترة وجيزة من زواجي؟

الشاعر المصري أمل دنقل

كاد معهد السرطان أن يطرده من الغرفة رقم 8 التي كتب ديوانه الأخير باسمها وكاد يوقف علاجه، لأنه لا يملك 3 آلاف جنيه يدفعها، لولا أن كتب د. «يوسف إدريس» مقالاً في الأهرام عنوانه بالله.. لا تمُت يا أمل هزّ الرأي العام كله فحُلّت المشكلة. كان الزبالون وجامعو القمامة يمتلكون العمارات الفارهة ويركبون المرسيدس، بينما أعظم شعراء مصر لا يملك مسكناً ينام تحت سقفه، وكانت الطائرة التي حملت جثمانه ليدفن في مسقط رأسه هي آخر شققه المفروشة.

مصير إنجــازات عبد الناصر

بعد الذي قلته عن جمال عبد الناصر، أين إنجازاته الآن؟

– حين جاء عبد الناصر حاول أن يطهّر بلادنا من هذا السوس وتلك السرطانات البشعة، فقتلوه لأنه هدّد نفوذهم وسيطرتهم، وانتزعوا الأرض التي وزّعها على الفلاحين، وأعادوها للصوص الإقطاع العفن، وباعوا القطاع العام الذي امتلكه الشعب، جعلوا مصانعه تخسر، حتى تكسب مافيا الاستيراد التي تجلب السلع المغشوشة المسرطنة. عشنا عشرات السنين نأكل سندويتشات الكبدة الإسكندراني في الشوارع، ونحن لا نعلم أنها كبدة الجيش الأميركي منتهية الصلاحية، وحين جاء أحد الوزراء الوطنيين وأوقف التعامل مع الشركة المصدرة لها، ذهب إليه السفير الأميركي بالقاهرة وطلب منه إلغاء القرار فرفض، وبعد أيام خرج الوزير من الوزارة!

جمال عبد الناصر وأنور السادات وتاريخ يشهد

حسني مبارك حكم مصر 30 عاماً، في النصف الأخير منها قام بتجريفها من كل الكفاءات وكل الإيجابيات التي تركها عبد الناصر.

هدّدوه بضرب إسرائيل!

تداول الإعلام والسياسة العربيان ما سُمّي بالربيع العربي. ما تعليقك؟

– «الربيع العربي» كان مؤامرة أجنبية أعلنت عن نفسها بعد احتلال العراق، بالحديث عن «الفوضى الخلاقة»، بدليل اعتذار «توني بلير» مؤخراً عن مشاركته في الحرب على العراق وتدمير الجيش العراقي ، وقد استغل عملاء الإمبريالية الذين درّبتهم المخابرات الأميركية على هذه المهام مثل وائل غنيم وغيره عطش الجماهير للتغيير والثورة على نظام مبارك في أحداث 25 يناير 2011، وتحالفوا مع الإخوان الذين سحبوا بساط الثورة من تحت أقدام الجماهير، وقفزوا إلى سدّة الحكم. وقد حكى المشير طنطاوي أن الإخوان هدّدوه بضرب إسرائيل من سيناء وإشعال حرب مصرية إسرائيلية جديدة لم تكن مصر مستعدّة لها، إذا لم يسلّم الحكم للجاسوس «محمد مرسي»، وأنه اضطّر لفعل ذلك حماية للقوات المسلحة ولمصر كلها من مخطط رهيب لتدمير الدولة المصرية.

هكذا في ظل هذه المآسي الإنسانية للشعب المصري كان على الجيش المصري، وعلى رأسه المشير عبد الفتاح السيسي، أن يتحرك بحكمة وشجاعة في الوقت نفسه، لإنقاذ مصر من المخطط الشيطاني الذي نسج خيوطه المتشابكة في الداخل والخارج بحمايته لثورة 30 يونيو.

سيناريو المؤامرة.. متواصل أيضاً

ما موقفك مما تتعرّض له سورية من حرب كونية؟

– الواقع الذي قادنا إلى ما نحن فيه الآن في سوريا يفرض على كل عاقل أن يتمسك بالحفاظ على الجيش السوري ومؤسسات الدولة السورية، من الانفراط والتجزئة، وهذا ما تسعى إليه حثيثاً القيادة المصرية والأمن القومي العربي قد يدفعنا لتعاطي الدواء المرّ، وتقديم المزيد من التضحيات لننجو بسوريا من الفخ الذي نُصب لها، لكي نجنّب شعبها العظيم، مصير العراق وليبيا.

سوريا بفصل الربيع العربي “الناقص “

أتذكر أن اسماعيل فهمي وزير خارجية مصر في عهد السادات الذي استقال احتجاجاً على «كامب ديفيد» قال لي خلال لقاء معه في بيته العام 1983: «من وقت لآخر تطلع علينا الولايات المتحدة بنظرية جديدة، تقول مثلاً: إن منطقة الشرق الأوسط منطقة حيوية تمثل درجة كبيرة من الحساسية بالنسبة للأمن القومي الأميركي، وعلى هذا الأساس تتخذ خطوات عديدة من الإجراءات، ولتنفيذ هذه النظرية بعد ذلك تعلن الولايات المتحدة أنها قررت أن منطقة الخليج منطقة حيوية للأمن القومي الأميركي وللمصالح الأميركية وهذا يعطيها الحق بالتبعية، أن تستعمل قوات الانتشار السريع في هذه المناطق، والخطوة الأولى في هذا لم تتخذ من أصحاب الشأن في المنطقة. ويستطرد اسماعيل فهمي: لا أنا ولا أنت ولا أحد يعرف من أين ومَن ورَّث أميركا وأعطاها صكاً بأن منطقتي الشرق الأوسط والخليج منطقتان حيويتان للأمن القومي الأميركي؟ وعلى أي أساس؟ نتيجة طبيعية لأن الولايات المتحدة لا تستطيع العودة إلى أيام وأساليب الاستعمار القديم والتقليدي، اخترعت نظريات جديدة في مقدمتها «الانتشار السريع» الذي هو قوات عسكرية من الجيش الأميركي تنتشر وتتحرّك بأسلوب معين، تحت ستار أن هذا التحرك يتم بالتعاون والرضا من الدولة المضيفة، ولكي ينجح هذا التحرك والعمل الضخم الخطير عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ونفسياً، لا مفرّ لأميركا أن تختار دولة أو اثنتين أو ثلاثاً في كل منطقة، لكي تكون حليفاً لها، وتكون اليد الطولى للولايات المتحدة». هذا ما قاله لي اسماعيل فهمي رحمه الله بالحرف، وكأنه كان يرى مثل زرقاء اليمامة ما سيحدث على أرض بلاده.

الغريب أننا لا نسمع ولا نرى ولا نتعلم، فقوات الانتشار السريع كانت مرة نظامية، وكانت مرة أخرى في شكل شركات خاصة كـ «البلاك ووتر»، وأصبحت الآن «داعش»!

وليبيا ماذا تقول في ما حصل لها ؟

ليبيا في مهبّ الربيع العربي

– أعتقد أن سيف الإسلام القذافي كان أحد أسباب ضياع أبيه وضياع ليبيا، فهو من سلّم المفاعلات والأجهزة النووية الليبية تسليم مفتاح للولايات المتحدة بعد إعدام صدام حسين في العراق، وقد ظنّ بهذا أن الحية لن تلدغ يده أو تلدغ أبيه إذا ربّتَ على رأسها، فكيف نتصور أن له مستقبلاً في ليبيا؟! كما أنه أحد هواجس التوريث التي أضرّت بالواقع السياسي العربي.

زمن العمالقة

..والآن هل تمّت صوملة العالم العربي أو لبننته؟

– الواقع السياسي العربي متشابه من الصومال إلى اليمن إلى السودان إلى قطر إلى ليبيا إلى لبنان، والاختلاف خاضع لاختلاف درجة الوعي لدى الجماهير في تلك البلدان.

الصومال من حرب إلى حرب ومن مجاعة إلى مجاعة

حين كانت مصر يحكمها عبد الناصر كان لبنان يحكمه رشيد كرامي وكمال جنبلاط وسوريا يحكمها شكري القوتلي الذي صنع الوحدة، والعراق يحكمه عبد الكريم قاسم، والسعودية يحكمها الملك فيصل بن عبد العزيز، وفلسطين ياسر عرفات، القامات كانت متقاربة، والكاريزما كانت شرطاً في الزعامة. وكان عبد الناصر يحارب الملك فيصل في اليمن، ثم يلتقيان في الخرطوم بعد حرب يونيو 67 في عناق حقيقي، ويعطي الملك فيصل شيكاً على بياض لعبد الناصر لشراء الأسلحة التي تحتاجها مصر ويهدد بقطع البترول عن أوروبا من أجل مصر.

أستاذ عصام الغازي، مَن المسؤول برأيك؟

– كلهم متواطئون، كلهم خونة لأوطانهم. عمرو موسى عندما كان أميناً عاماً لجامعة الدول العربية، ذهب إلى باريس وحضر اجتماع المؤامرة على ليبيا، وأعطى الضوء الأخضر لحلف الناتو كي يدمّر جيشها ويقتل حاكمها بالطريقة البشعة التي رأيناها. كان يدفع ثمن كرسي الرئاسة الذي وعدوه به في مصر حين يسقط مبارك، لولا أن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، فارتدّ كيده إلى نحره، والغريب أنه ترأس بعد ذلك لجنة الخمسين التي وضعت آخر دساتير مصر. ثم جاء خلفه نبيل العربي ليطرد سوريا من الجامعة العربية ويحاول عزلها عن محيطها الإقليمي والدولي لتكرار ما جرى في ليبيا.

أية ليلة تلك «ليلة اغتصاب أم الأبنودي»!

هل تعرّفت إلى كبار شعراء مصر والعالم العربي؟

– من حسن حظي أني لحقت بجيل النجوم من الشعراء والروائيين والكتاب العمالقة، أجريت حوارات مهمة مع بعضهم ضمّها كتابي راقصون على الجمر مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ورّطته رئاسة الجمهورية في عهد السادات في علاقاته الإسرائيلية، ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس والروائي الفلسطيني إميل حبيبي، وكنت صديقاً لكثير من الشعراء الرواد مثل صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ونجيب سرور وأمل دنقل وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي وسميح القاسم وأدونيس وبلند الحيدري ومحمد الماغوط ومحمد الفيتوري عاشق أفريقيا الزنجية ، وعبد الوهاب البياتي عاشق اللقالق المهاجرة فوق بغداد وفوق نهر دجلة .

الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي

كان أحمد عبد المعطي حجازي مثلاً تتقمّصه النجومية عندما يقف لإلقاء شعره، لكأنما هو أحد آلهة الإغريق وهو يلقي رائعته مرثية للزمن الجميل ، كذلك كان الرائع نزار قباني وسميح القاسم ومحمود درويش والماغوط.

قال لي سميح القاسم عندما زار القاهرة لأول مرة: «أنا عاتب على عبد الناصر أنه لم يصعد لمستوى الحلم، هو لم يخُن الحلم كأنما لم يدرك ماذا يعني بالنسبة للأمة بكاملها، لم يكن مجرد قائد سياسي، كان أملاً.. رؤيا». وقال لي: نحن قوم تجوز الشماتة فينا ولا تجوز لنا، أمتي تستجدي الهوية الإسرائيلية لهذا سأضطر لتأسيس أمة جديدة!».

ومن طرائف علاقتي بعبد الرحمن الأبنودي أنه دعاني لأنفرد من بين أصدقائه بمقابلة أمه فاطنه جنديل كما يناديها، وسافرت معه إلى الإسماعيلية لرؤيتها في منزل أخته «فاطمة الأبنودي». قابلتني الصعيدية الجميلة بالأحضان واستأنست بي، فجلست تحكي لي قصة حياتها، وزفافها إلى رجل متوحّش هربت منه ليلة الدخلة في المزارع وأصرّت على الطلاق منه. حذّرها الأبنودي من أن تكشف لـ «جورنالجي» أسرارها، لكنها استمرت تحكي لي وقائع ما جرى لها ليلة الدخلة.

حكى لي الأبنودي أمامها أنها زغردت حينما أجرى زوجها عملية البروستاتا، فسألها الأبنودي يومها عن سبب بهجتها، فقالت: «فرحانه علشان الطبيب جطعهوله .. وكانت تظن أن الطبيب استأصل العضو الذكري لزوجها الشيخ الأبنودي»!

ودبرتُ مؤامرة مع عبد الرحمن ضد أمه، اتفقتُ معه أن أنشر ما قالته لي في جريدة «الميدان»، وقمت بنشره تحت عنوان: ليلة اغتصاب أم الأبنودي ، ونزلت الجريدة السوق ليلاً وعلى صفحتها الأولى هذا المانشيت، ولم ينم الأبنودي ليلتها. زبانية جهنم يتصلون به: شفت ياعبد الرحمن اللي كاتبه عصام الغازي عن أمك؟.. فيفطس على نفسه من الضحك، ويقول: أنا اللي صرّحت له بكده علشان أفضح فاطنه جنديل!

أيضاً دعاني أحمد عبد المعطي حجازي لزيارة أمه، التي أتحفتنا بما لذّ وطاب من البط والوزّ والحمام والطرائف الجميلة عن طفولة ابنها الشاعر، وعن ردّ فعلها حين رأته على شاشة التلفزيون لأول مرة!

عصــام الغــازي في سطـــور

ولد في 14 شباط/فبراير 1947 في محافظة الدقهلية مصــــر

شارك في حربَيْ الاستنزاف وأكتوبر 73

كرَّمه الرئيس أنور السادات في العيد الأول للثقافة والفن عام 1979 بمنحه شهادة تقدير على ورقة بردى.

شاعـــر لديه 3 دواوين شعــــرية.

تدرس دواوينه الشعرية وخصائص شعره ضمن مناهج كلية الألسن قسم اللغة العربية في جامعة عين شمس في مصر.

منحته كلية الإعـــلام جامعة القاهرة درع الكلية بعد محاضرة ألقاها على طلبتها عن فنون الحوار الصحافي.

تحمل أعماله الشعرية الكاملة الصادرة عن هيئة الكتاب عنوان: الجيـــــاد تموت واقفــــــة.

له العديد من المؤلفات منها: راقصــــون على الجمــــر، عمر التلمســـاني من التانجو في عماد الدين إلى زعامة الإخوان المسلمين.

عمل مديراً لتحرير: مجلة النصر الصادرة عن القوات المسلحة المصرية، وفي القسم الثقافي بمجلة «المجلة» السعودية مجلة «كل الناس» مجلة «اليـقظة» الكويتية جريدة «الميدان» المصرية.

من شعر عصـام الغازي

قصيدة المجنــون

أيَّتها الفينيقية العذراء

هو ذا دمي المنساب في كفيك

انجيل حياه

يتغنّى بالظمأ

فوق كفَّيك بحيرات مياه

وأباريق عسل

وثلوجٌ لم تزل

تعشق النار ولا تخشى الزلل

لملميني فوق نهدَيْك اشتهاء وصلاه

بعثريني في مراعيك التي تصرخ

تنتظر نبياً.. وجياداً.. وشياه

فأنا المصلوب فوق نداءاتك بعد أن تاهت وتاه

أرضعيني الكفر.. أني كافر

بالذي يُقصيكِ عني

وأطيلي الليل.. إن الليل

قد يُدنيك مني

وتغنّي بالعذابات.. وبالشوق

وبالآتي الذي يسكن عيني

صوتك الناعس في أذني

شلال خمور

يتهادى فوق أحزاني نهراً من سرور

صوتك الناعس موسيقى

من الضوء، ومن عبق الزهور

فتعالي.. ازرعي شمسك في قلبي

واقتلعي الغرور

إنني أحياك ملء النبض

والرؤيا

وأجنحة الخيال

وأرى فيك جمالاً، لا يدانيه جمال

انظري خصلات شعرك.. خيمة من قبـــل

دافئات.. لافحات في مرايا الأزل

تحتوي في سهل خديك براري من وهج

وبساتين من الجمر، تثاءب واختلج

وفماً يقطر شهداً من شفاه كالجحيم

تتسربل بعقيق، أو بحبات الكرز

فوق جيدك يسكن مليون قمـــر

وجداول من حليب، وصبايا كالأوز

خبّئيني تحت جلدك.. أدفئيني

واحتويني في ضلوعك.. دثّريني

إنني بهواك أشهرت جنوني

فتعالي نتعقَّل.. بالجنـــون!

المصدر جريدة البناء اللبنانية/   http://www.al-binaa.com/?article=99213

 

 

You may also like