Home لـوثـة إلّاأدب عصام الغازي يتذكّر مع محمد الماغوط (6)

عصام الغازي يتذكّر مع محمد الماغوط (6)

by رئيس التحرير

 

561809_170

عصام الغازي شاعر وكاتب وصحافي مصري

 

عندما قال لي محمد الماغوط:

أفصح ما تقول القحبــــاء عندما تحاضر في العفــــــــــــاف

 

   *         في رأسي ملايين الأصوات المحرومة ، وفي صدري ألوف السجناء!

  • كيف تستطيع أن تحارب عدوك بانسان مكبل اليدين والقدمين؟
  • لو ألغيت عقول شعبك ، ماذا تفيد حرية ألسنتهم أو آذانهم؟
  • كيف تستطيع أن تنادي بالحرية ، والأجيال التي  ستصنع الحرية تموت في السجون؟
  • العـــــرب أكبر خـــزان للكوميـــــــديـــا في التـــاريخ.
  • السخرية تجعل الفنان الساخر نصفه صخر ونصفه دموع!
  • أنا دائما لا أرى دموع الصياد، بل أرى ما تفعل يداه بالعصافير.
  • لذلك كانوا يسمونني “غراب الشعر العربي” و “بومة القومية العربية”!

 

 

لو أمدّ الله في عمر محمد الماغوط.. ليرى ما حدث في وطنه، ماذا كان يفعل؟..

هل يحتمل رؤية حطام بلاده على أيدي تتار العصر طمعا في الغاز، والحرب بالوكالة لتحقيق أطماع اسرائيل وتركيا في التراب السوري؟.. هل كان باستطاعته احتمال مشاهد بيع حرائر الشام في سوق النخاسة، واغتصاب الفضليات بدعوى “جهاد النكاح” ، والهجرة بالأطفال الأشاوس الى الموت في البحر فرارا من الموت بالرصاص والقنابل ؟..أثق أن الماغوط لم يكن ليقبل الموت، وسيعتذر الى الله ليبقى ويقاوم.. ويقاوم، وأثق أن ثراه ينتفض الآن في قبره كاتبا أعظم قصائد عرفتها البشرية منذ رحيل “هوميروس”.

***

عرفت محمد الماغوط قبل أن أراه بسنين طويلة، وحدّثني عنه  في القاهرة “دريد لحام” الذي قدّم أعماله المسرحية  الخلابة: كاسك يا وطن – شقائق النعمان – غربة – ضيعة تشرين ، كما قدم للسينما فيلمي : الحدود – التقرير. وسبق أن قدم له المسرح السوري واللبناني مسرحياته : العصفور الأحدب، و المهرّج والمارسيلييز العربية.

والماغوط – رحمه الله – واحد من رواد شعر النثر في الشام، ذاق مرارة السجون وعذابها على أيدي زعماء الحزب القومي السوري في منتصف الخمسينيات،أيام الشيشكلي وحسني الزعيم، وتفجّرت موهبته الشعرية داخل السجن، حين كان يكتب خواطره، التي اكتشف بعد ذلك أنها كانت شعرا دون أن يدري ، وكان رفيق سجنه في تلك الآونة الشاعر أدونيس.

حين التقينا في القاهرة؛ تحادثنا طويلا، وسافرت في أعماقه الى الجذور ،لأتعرف على ارتكازات مناطق التمرد فيه، قال لي:

محمد الماغوط

الشاعر محمد الماغوط والشاعر عصام الغازي محاوراً – القاهرة

ولدت في بلدة “السلمية” على أطراف الصحراء، على رأس مثلث بين تدمر وحماه وحمص، ودائما أي مدينة تكون على حدود ما، يكون وضعها صعب وقلق ومضطرب، ربما كان القلق الذي أعيشه ترجع جذوره الى الموطن الأصلي الذي يحتوي نوعا من الغربة، ينعكس على أبنائه، وطبيعي أن الشاعر أو الفنان تكون غربته أشدّ وأعمق، باعتباره أقلّ صبراً من الآخرين.

والقرى العربية بشكل عام، وخصوصا القرى النائية شبه المعزولة جغرافيا، تخلق نوعا  من الاحساس بعدم الانصاف، بالنسبة للتجمّعات البشرية الأخرى، ودائما الوضع الاقتصادي تكون له الأولوية في التأثير على الانسان. هناك فلاحون وهناك اقطاعيون. وأنا كنت من الجانب الفلاحي أو من الطبقات المعدمة أو المسحوقة أنا وأهلي، وربما نحن الغصن الأجرد في العائلة،لأن هناك قسما موسراً.

وحدثني الماغوط عن ينابيعه الثقافية فقال:

ثقافتي لم تكن ثقافة ورق، وانما ثقافة واقع، في البدايات لم أقرأ كثيرا ، كنت أتأمل كثيرا، ولم يكن لدي جلد طويل على أي شيء، لا على القراءة، ولا على الكتابة. ما عندي جلد الا على الحلم والخيال. لي أربعون سنة أحلم، وأنا لم أفكر  في يوم من الأيام أن أكون شاعرا أو كاتبا على الاطلاق، ولا تعنيني هذه التسمية حتى الآن، أنا انسان أعيش، ولا تعنيني الشهرة، أو توظيف ما أكتب. أنا لا أكتب للناس، ولا أكتب لمجتمع، أنا أكتب لنفسي.

والكتابة بالنسبة لي عزاء شخصي، فأنا حرمت منذ طفولتي، ومن الطبيعي أن الانسان كلما تقدمت به السنون تتحقق أحلامه، أنا بالعكس كلما تقدم بي العمر في الحياة العربية، تتحطم هذه الأحلام، وأشعر أنني لم أحقق شيئا لا كشاعر ولا كانسان.

محمد الماغوط 2

محمد الماغوط ووطأة الزمن والهموم

 

أما أحلامه التي مر العمر ولم تتحقق فقد أخذت ملامحها من :

” الإحساس بالظلم، والإحساس بعدم العدالة والانصاف، بعدم الرؤية الانسانية للطبقات الفقيرة”. يقول الماغوط: كنت أعتبر نفسي صوتاً من أصوات الفقراء، وربما كان صوتي أكثر وضوحاً، لأني أقل صبراً على الكبت، وعلى التأقلم مع الحياة أو الواقع. إحساسي في الكتابة كان نوعاً من الخواطر، وما أفكر فيه أسجّله على الورق، لايعنيني الأسلوب أو الشكل،سواء كان شعراً أو نثراً، أنا أسجل ما أعانيه باللغة العربية، وكشف الآخرون فيما بعد أن ما أكتبه “نوع جديد من الشعر”  لم يكن مألوفا في تلك الفترة        – نهاية الأربعينيات – وأنا لم يبهرني هذا التعريف، ولم يملأني بأي نوع من الاحساس بالذات أو التفوّق ، واعتبرت ذلك تحصيل حاصل.

 

حين سألته عن زمن “الغوار”.. زمن الفرار والتقوقع والاختباء، قال لي:

تلك الفترة كانت بداية الخمسينيات، وهي ما يعرف عنها تاريخيا بفترة “المدّ القومي العربي “.

كنت أرتاب في هذا المدّ، بأسلوب هذا المدّ، وليس بالمضمون، أنا لا أحبّ الغوار، وأكره الحماسة المجانية، وحماسة العراضة، وحماسة ركوب الخيل، والأناشيد على صهوات الجياد، باعتبار أنني منذ وعيت على الدنيا أحب الانسان.

غوار الطوشة

غوار الطوشة ضجيج الوجع على مسرح الوطن

في حياتي لم أكره إنسانا، أو فئة ، أو طبقة. لكن كنت أكره الظروف التي تجعل من الناس غرباء عن بعضهم، أو تجعل من مواطن ضحية ومن مواطن جلادا. من مواطن مظلوما الى مواطن ظالما. لا أتعاطف مع المظلوم وأكره الظالم، انما أكره الظروف  الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أدت الى هذا الفرز اللا إنساني واللا أخلاقي.

أنا خصمي ليس البشر، إنما ظروف البشر، ولا أحد يشعر بأهمية الظروف أو بدورها مثل ابن الأرض، يعني أنا لا أتخيل البؤس البشري وإنما أعيشه.

لا أتخيّل المظالم لأني عشتها. ولا أعتقد أن الشعر أو أي فن من فنون التعبير بحاجة الى فلسفة وتنظير، وهناك صدق أو لا صدق، الكاتب الأصيل ليس هو الكاتب الأكثر موهبة، انما هو الأكثر صدقا، طبعا مع وجود الموهبة، هو الأكثر إخلاصا، لا أحب الإخلاص على مراحل!، أو الاستراحة من حبل هموم الناس، أحمل ما بدأت بحمله حتى حافة القبر، مع الأسف الكثير ممن تقدّموا لحمل هموم الناس صدقاً ترنّحت أرجلهم، وانحلّت مفاصلهم من بداية المشوار، وكل ما يقولونه فيما بعد، هو في الفراغ، لأن ظهورهم خالية من أي عبء وهم يستخدمون اللغة، وأعتقد أن بداية ما يسمونه النهوض القومي، كان يحمل  في جذوره أو في أعماقه  بذور الهزائم الفكرية والسياسية، لأنك مما تزرع تحصد، وعندما تزرع فجلا، لن تحصد زنبقاً. تزرع غوغاء تحصد غوغاء، تزرع كذبا تحصد أكاذيب، تزرع سجينا، تحصد معتقلات في المستقبل.

وحدثني عن رأيه في الرموز الشعرية والأدبية التي أفرزتها حقبة الخمسينيات قال الماغوط:

بداية الخمسينيات أعتبرها بداية النهوض العربي، ، لكنها كانت بداية الارهاب الفكري، أنا توقفت عند السوط أو الكرباج، عندما دخل السوط العربي محاورا، بل انه كان المحاور الوحيد، حكمت على مرحلة برمتها بأنها ستكون مرحلة مخيفة، لأن السوط والقمع  مهما كانت المسوّغات والمبررات، لن يعطيك الا عكس ما يريده الله والبشرية. السوط سلاح الديكتاتورية، وهي ليست ديكتاتورية سياسية فقط، هناك أنواع كثيرة من الديكتاتوريات والتيار في الخمسينيات كان مخاضاً رهيباً للجلادين ومخاضاً للهزائم. عندما تلغي العقل، فلن تجديك عينا الانسان أو أذناه أو فمه، مهما قال هذا الفم، ومهما سمعت هاتان الأذنان، لا شيء يعوّض العقل المُلغى، والكرامة المُداسة بالأقدام.

 

وأذكر أنني طرحت عليه تساؤلا حول قشرة الديمقراطية في بعض أوطاننا التي لا تفرز الا الانهيار والظلم الاجتماعي والاستغلال الطبقي، بينما الديكتاتورية الثورية التي ولدت من رحم  الحلم بالثورة ، هي الرمز المتاح رغم كل شيء لمرحلة المدّ القومي العربي  قال:

لاشك أن فترة الخمسينيات كانت صادقة في كل شيء، ولكن الريبة مما بدأ يحدث، وأنا استوقفني ما بدأ يحدث.. الثورة من أجل من؟  من أجل الانسان، لتحرير الانسان من العبودية والظلم والجوع والقهر، فكيف يمكن أن تحرر الانسان من هذه المثالب، وتفك هذه القيود عنه بفرض قيود أفظع؟ كيف تستطيع أن تحارب عدوك بإنسان مكبل اليدين والقدمين؟.

كيف تستطيع أن تنادي بالحرية، والأجيال التي يجب أن تصنع الحرية في السجون. نصبح أمة لهوٍ، نقول شيئا  ونفعل شيئا آخر. هذه هي الازدواجية. لذلك قلت لك أن الصدق قبل كل شيء، وهناك كاتب كان يقول : أفصح ما تقول القحباء عندما تحاضر في العفاف.

ولذلك أنا دائما لا أرى دموع الصياد، بل أرى ما تفعل يداه بالعصافير، وأنا رأيت أيدي الصيادين قبل غيري، غيري رأى ولكن لم يجرؤ على الاعتراف، ولذلك كانوا يسمونني في الخمسينيات “غراب الشعر العربي” ، “غراب النضال العربي”، و ” بومة القومية العربية”.

 

وقال لي الماغوط عن أدونيس:

أدونيس9

أدونيس الشاعر القادم من رحم الثقافة والفكر

أنا وأدونيس مررنا بنفس التجربة. بدليل أنني التقيته لأول مرة في عام 1955 في السجن. تعارفنا أنا في زنزانة وهو في زنزانة وجها لوجه. هو كان معروفا وأنا كنت نكرة. أدونيس أكثر مني ثقافة، لأنه تخرج في الجامعة، وأنا بترت حياتي الدراسية بسبب السجن.

 

ثم حدثني عن شعره:

لا تعنيني المذاهب الشعرية، لا من قريب ولا من من بعيد. حتى الآن هناك من يقول : ما يكتبه الماغوط ليس شعرا..لا أعترض. التسميات الأدبية والشعرية كالشعارات العربية، لا تضيء شيئا، المهم الجوهر وليس الشكل. ما يولد في هذا الوعاء وليس الوعاء.  ربما أنقى مياه الدنيا تجدها في جرة من الفخار، وتجد ماء مسموما في وعاء من الكريستال.

أحسست بأهمية ما أكتب بالنسبة للآخرين بعد كتابتي (حزن في ضوء القمر) و ( غرفة بملايين الجدران)، وعرفت أن الكتابة نوع من النضال، ليس شرطا أن أكون جيفارا وأعيش بالغابات لأكون مناضلا، فمنذ أول قصيدة كتبتها كان هناك حوار، الشكل المسرحي لم يكن جديدا على كتابتي، حتى قصيدة (القتل) التي كتبتها في السجن كان بها حوار: أين كنت يوم الحادث؟ / كنت ألاحق امرأة في الطريق!. وحين كتبت ( العصفور الأحدب) كنت أظنها قصيدة طويلة ، لكنني أحسست أن هناك أصواتا تريد أن تدلي بدلوها فوضعت حواشي على الهامش وبدأت هذا الحوار.

 

وعن تفجّر ينابيع الكوميديا في حسّه الساخر، صارحني الماغوط:

أكبر خزّان للكوميديا في التاريخ هو الوطن العربي. وما على الفنان سوى أن يغرف من هذا الخزّان، وأكثر الناس ضعفا هم الكتاب والفنانون الجادّون. السخرية تجعل الفنان الساخر نصفه صخر ونصفه دموع، لا يمكن أن تجد كاتبا منحوتا من الصخر فقط، وكل من يخشى السخرية ويتفاداها هو في أعماقه ضعيف، ولا يمكن لأي شاعر أو رسام أن يكون سياسيا، إذا لم يتذوّق السخرية، فهو إنسان غير طبيعي.

 

خاصّ – إلّا  –

 

You may also like