حلب حاضرة المدن في التاريخ والثقافة
تراثنا الوطني والانساني
كتب الراحل الدكتور الباحث محمد قجّة ..
( مدخل إلى قراءة التراث الثقافي غير المادّي )
مدينة حلب
1 – مفهوم التراث:
أصبح مفهوم التراث موضعَ دراسةٍ واهتمام لدى الشعوب كافة، وذلك بشقّيه: المادي وغير المادي : (العمارة، المؤلفات، المخطوطات ، اللهجات ، الأمثال، الطرائف والنكات ، طقوس الأفراح والاحزان ،الثقافة الشفوية، الفولكلور، الأزياء، الأطعمة..).
2 – وارتبط مفهوم الحداثة بالتراث، كما ارتبط هذا المفهوم بما يسمى عصر التنوير الأوروبي بما يحمله من خلفيات سياسية لهذا المفهوم. وكان للجغرافية السياسية والمصالح الاقتصادية دور في دفع مفهوم الحداثة نحو اتجاهات غير موضوعية تتمثّل في:
١- التباعد بين مفهومي الزمان
والمكان ٢-محاولة إلغاء الثقافات الوطنية وتفكيك المجتمعات المحلية
٣- قطع الصلة بين الحاضر والماضي في الإطار الثقافي
٤- فرض ثقافة الاستهلاك واقتصاد السوق الحرة
3 – ولما كان التراث يعني شخصية الأمة: (ربط المكونات التراثية من مادية وروحية بالإطار الفلسفي العام الذي ينظّر للأسس الفكرية لكل أمةٍ من الأمم)، فإن هذا يقود إلى جملة من المنطلقات والمعاييرهي :
١- التمثل العلمي المنهجي للتراث في إطار فهم عقلاني يعتمد التحقيق واستخدام علوم العصر في قراءة التراث تعمقاً وكشفاً.
٢ – التخصص في قراءة مفردات المعرفة التراثية من علوم بحتة وتطبيقية ، وفلسفة ودين وآداب ومعارف إنسانية وربط ذلك بعلوم العصر الحديث .
٣- التركيز على الجوانب الحضارية المشرقة في التراث في شتى نواحيه الفكرية والعلمية والروحية والعمرانية وإبرازها كوجه إنساني مغاير لمقولة صراع الحضارات التي يحاول الغرب فرضها على العالم.
٤ – الاستعداد للتجديد والتعددية في قراءة نصوص التراث والاستعانة في ذلك بالعلوم الحديثة كالإنتروبولوجيا وتاريخ المفاهيم ومناهج النقد المعرفي بحقولها المتباينة بما في ذلك نقد الأصول والفروع والأنماط المختلفة.
٥ – القراءة المعاصرة لمفاهيم قديمة مثل: العقل والنقل، سد الذرائع، الثابت والمتحول، التقديس المسبق، الاتصال والانقطاع والامتداد في قراءة التراث. والاستعانة بعلم الآثار ودوره الكبير في عملية التواصل التاريخي.
4 – الوصول إلى فهم واضح للموقف من التراث وسط زحام المواقف المتضاربة بين: دعوة إلى الإلغاء والتجاهل والانبهار بالغرب. دعوة إلى التقديس المطلق للتراث.
او دعوة إلى فهم التراث بعقل منهجي واستخدام المفردات المعرفية لهذا التراث في ربط الزمان بالمكان والحاضر بالغائب والأصول بالفروع.
5 – وقد غدت لكلمة “تراث” دلالةٌ اصطلاحية تتصل بالموروث الجمعي للشعب، بما في ذلك من ذاكرةٍ ثقافية وحضارية وعمرانية واجتماعية وفولكلورية. ومن هنا فإن مفهوم التراث يمتد ليتسع لثقافة الأمة في بنيتها الفكرية التحتية وتفرّعاتها المختلفة. وهو بذلك يشكل العماد الأساس في تكون شخصية الأمة وتمايزها وهويتها المستقلة. ولا داعي في هذه الحالة لإجراء عمليات بترٍ بين الثقافة التقليدية والثقافة الشعبية على معايير نخبوية.
6 – إن المعيار المعرفي لدراسة التراث لدى أمةٍ من الأمم، يجب أن يحرص على المواءمة بين التاريخي والآنيّ والمستقبلي، وأن يرصد الحركة الدائمة في تطور النظام المعرفي على مستواه الكلاسيكي والشعبي، بما يرافق ذلك من مدّ وجزر، وحركة وسكون، وتطور وانحسار.
إن هذه المعايير تنطبق على سائر المجتمعات البشرية، وتراكمُ هذه النظم المعرفية بأشكالها النخبوية والشعبية يشكّل الإرث الحضاري. ويأتي دور الأجيال المتعاقبة في إنتاج معرفة جديدة وربطها بالمأثور الثقافي الموروث وتطوير ذلك في عملية لا تتوقف ولا تتراخى.
7 – وانطلاقاً من هذا المنظور في فهم التراث، يأتي دور الحضارة العربية التي مثّلت دائماً الوعاء الفكري الهائل الذي يختزن كل المقومات المشتركة بين أقطار الوطن العربي، تلك الحضارة التي استوعبت ما سبقها من حضارات عالمية، وأضافت إليها بُعدها المتسامح الإنساني، فاستطاعت خلال خمسة عشر قرناً أن تكون الرابط الحيّ المتفاعل، والذاكرة اليقظة لشعوب تمتد من الأطلسي غرباً حتى الصين شرقاً.
وأصبح لهذه الحضارة تميزها الذي نراه في ميدان العمارة، والحياة الاجتماعية، ونمط المعيشة اليومية، وأداء الشعائر الدينية، والفهم الواسع للآخر واحترامه.
8 – وعلى المستوى العربي، تتجمع عوامل الطاقات الثقافية المشتركة، تحركها اللغة العربية التي بقيت سيدة لغات العالم أكثر من ألف سنة، وهي حتى اليوم أغنى لغات العالم بالمخطوطات والكتب المحفوظة في شتى ميادين العلوم.
9 – ومنذ مطلع القرن العشرين وحتى بعد منتصفه، عمّتْ موجةٌ من التحديث المصطنع والانبهار بالغرب، أدّت إلى النظر إلى التراث على أنه مجموعة أوراق صفراء، أو أبنية قديمة وأزقة ضيقة، يجب تغييرها بما يناسب العصر، وتمّ ارتكاب أخطاء كثيرة في ميادين الفكر والعمارة، ففُتحت الشوارع في قلب المدن القديمة بحجّة التحديث، وغُيّرت معالم حضارية بقيت مئات السنين شاهدةً على نمط من الثقافة والحياة، وهُدمت أوابدها، وبُدّلت وظائف كثير من المباني إلى وظائف أخرى لا تنسجم مع طرازها وهويتها.
10 – وبدأت تتلاشى، أو تختفي، كثيرٌ من مظاهر التراث الثقافي غير المادي للشعوب، ممّا دفع منظمة اليونيسكو إلى المبادرة لتوجيه العناية الفائقة لهذا الموضوع، حرصاً على ثقافة الشعوب التي تنهار في وجه العولمة الطاغية فائقة الإمكانات.
11 – لماذا التراث غير المادي؟
كثرَ الحديث في الآونة الأخيرة عن التراث الشعبي، أو الفلكلور، أو المأثورات الشعبية، وهذه كلها تعابير متشابهة من حيث المضمون.
وأخيراً جاءنا موضوع العولمة في مظاهره الاقتصادية والسياسية والثقافية، والذي بات يهدّد الثقافات المحلية، ليس فقط في منطقتنا، بل في العالم أجمع.
فكان أن تنادت الشعوب وبعض المنظمات الدولية إلى مبادرةٍ تنقذ بها ما يمكن إنقاذه من تراث الشعوب في كافة أنحاء العالم، وبخاصة ما يعبّر منها عن شخصية هذه الشعوب وما تتضمّنه ثقافاتها المحلية والوطنية من قيم إنسانية وحضارية، وما لديها من تعابير ثقافية تشكّل لَبنات أساسية في بناء الثقافية العالمية، جنباً إلى جنب مع الثقافات الأخرى دون تمييز أو قهر أو اضطهاد.
12 – ولذلك أصدرت منظمة اليونسكو عام 2003 اتفاقيةً دولية للحفاظ على التراث غير الماديّ للشعوب، وألحقتها باتفاقية أخرى في تشرين أول 2005 حول حماية وتعزيز أشكال التعبير الثقافي.
لكن ذلك لا ينفي أن هناك بعض الأشخاص الذين كانت لهم رؤيةٌ بعيدة إلى حدٍّ ما بخصوص ضرورة تسجيل وقائع الحياة اليومية التي عاشوها، لعلمهم بأن ذلك يسير في طريق التحوّل، فما هو حقيقةٌ في هذا العصر قد يصبح خرافةً بعد انقضاء فترة قد تطول أو تقصر.
أذكـر من هـؤلاء -طالما نحن في حلب، وبمناسبة إعلان حلب عاصمةً للثقافة الإسلامية- العلّامة “خير الدين الأسدي” صاحب الموسوعة الشهيرة.
13 – أخيراً أصبحت هيكلية وزارة الثقافة تضمّ مديريةً خاصة اسمها مديرية التراث الشعبي، تم تفعيلها قبل سنوات قليلة، وبخاصةٍ عقب صدور اتفاقية اليونسكو المتعلقة بالحفاظ على التراث الشعبي غير المادي وتوقيع الجمهورية العربية السورية عليها بعد فترة وجيزة على إصدارها.
هنا بدأت بعض الخطوات الملموسة تأخذ طريقها إلى حيّز التنفيذ، بإقامة جسور التعاون بين الوزارة من جهة، ومديريات الثقافة والباحثين والمؤلفين والمهتمين من جهة أخرى، حيث تمّ توجيه نداء إلى جميع المهتمين والباحثين والجامعين للتراث الشعبي بتقديم ما لديهم من أبحاث ومخطوطات ومجموعات إلى مديرية التراث الشعبي، لاقتنائها وإصدارها عن وزارة الثقافة ضمن سلسلة تحت عنوان (مشروع جمع وحفظ التراث الشعبي).
وقد ورد إلى المديرية عددٌ لا بأس به من المخطوطات والأبحاث، التي يتم عرضها على لجنةٍ خاصة بقراءة وتقييم هذه الأعمال وإبداء الملاحظات عليها. بعض هذه الأعمال صدر عن الوزارة، وبعضها تحت الطبع، وبعضها الآخر في أيدي لجنة القراءة.
14 – وفي تراث الشعوب جوانب عديدة تنتظر مَن يبحث بها ويبعث فيها الحياة، من أجل إغناء التنوّع الثقافي العالمي وكسر الاحتكار الثقافي الذي تمارسه القوى التي تفرض ثقافاتها وإعلامها على العالم أجمع.
15 – تعريف منظمة اليونسكو للتراث غير المادي:
١ – جميع الممارسات، والمعارف، والتعابير، التصاوير، المقترنة بها، والمهارات الأساسية اللازمة لتنفيذها. والتي تعتبرها المجتمعات والمجموعات -وأحياناً الأفراد- جزءاً من إرثها الثقافي.
٢ – موضوعات التراث غير المادي وفق منظمة اليونسكو:
- أشكال التعبير الشفهية
(الشعر والأدب، التاريخ، الأساطير، والحكايات) - فنون الأداء
- مناسبات الأعياد والاحتفالات، – الموسيقى، الدراما، فن الدُمى، الأغاني، الرقص .
- الممارسات الاجتماعية والطقوس والأعياد
- الألعاب والرياضات، أنماط السكن، فنون الطهي، طقوس الميلاد والبلوغ والزواج والطلاق والجنازات، -احتفالات التنصيب والتكريم، – احتفالات المواسم، ممارسات الصيد وجمع الثمار، النسج والحياكة والصباغة وتصميم الملابس، نقش الخشب، فنون زخرفة الجسم).
- المعارف والممارسات ذات الصلة بالطبيعة
- الأنشطة والمعارف الزراعية والبيئية والملاحية والمعدنية والفلكية، الممارسات العلاجية، التصورّات الكونية، النبوءات والعرافة، تربية الحيوانات والأحياء المائية، حفظ الغذاء وإعداده، الفنون النباتية، الممارسات الروحية والدينية المتعلقة بالطبيعة والمحيطات والبراكين .
- المهارات الحرفية.
Share this content:
إرسال التعليق