×

من هوامش -الوجع – في غزّة

من هوامش -الوجع – في غزّة

علاء-فايز-السمّان من هوامش -الوجع - في غزّة

علاء فايز السمّان/ ناشط مدني فلسطيني من أصل سوري- موثّق ميداني لمدينة “غزّة ” ولما حلّ فيها من خراب ودمار – الصورة قبل شهرين من الحرب على غزّة قرب منزله في غزة الذي استُهدِفَ فيما بعد..

علاء فايز السمّان- غزّة

أذكر فيما أذكر ذاك اليوم الأول للنزوح قبل عدّة أشهر منذ بدء الحرب الغاشمة على غزّة، حين رفضنا الخروج من شمال غزة أنا وزوجتي وبناتي الثلاث، بعدما قصف منزلنا وتمّ تدميره بالكامل، أذكر لحظة انهيار المنزل أمام ناظري لم يشغلني المشهد رغم هول الصدمة، بقدر قلقي على سيارتي لأنني ببساطة كنتُ قد انهيت أقساط المنزل حين قررت شراء السيارة التي اخترتها جديدة وحديثة من الشركة بموجب عقد ببنود مشدّدة ودفعة أولى وثلاثة أقساط من أصل 12 قسط حسبما علمت أنّ الشركة قد تتساهل بتأخير الدفعات لكنها لن تعترف بإحالة السيارة إلى الخردة بعدما حطمتها شظايا القصف وأصابتها القذائف إصابات بالغة ومباشرة لم تبقِ منها حتى الهيكل..

علاء-وأصغر-بناته-في-حيّهم-في-غزه-768x1024 من هوامش -الوجع - في غزّة

علاء وطفلته الصغيرة قبل أيام من الحرب

في اليوم الأول للنزوح، قصفتْ العمارة التي لجأنا إليها أنا وزوجتي وبناتي وبفضل العناية الإلهية كانت الإصابة في نصف الشقّة المقابل للغرفة التي تجمّعنا فيها أنا وعائلتي الصغيرة، حوصرنا بنصف الشقّة التي صمدت لا أعلم كيف أكثر من ثلاثة ليال، في اليوم الرابع تمّ تفخيخ العمارة المجاورة لنا، أعقبها سقوط العديد من القذائف والصواريخ التي انفجرت على بعد أمتار منّا الأمر الذي أسفر عنه إصابة بناتي الثلاث، ولم يكن أمامي إلّا أن حملت طفلتي الأصغر، والتي كانت إصابتها الأشدّ، وهي مليئة بالدماء وخرجتُ من المبنى المضعضع والمتهالك، وما إن قطعت المسافة المليئة بالردم والأتربة وزوجتي تلحق بي برفقة الصغيرتين اللتين لم تتجاوز الكبرى فيهما السنوات السبع، حتى وجدتُ نفسي مع طفلتيّ الصغيرة ابنة الأعوام الأربعة والتي تئنّ من وجعها الفظيع، وجهاً لوجه، مع كتيبة إسرائيليّة لم يشفع لي أمامها لا ذعري على ابنتي، ولا أنينها ولا منظرها المغطّى بالدماء، بل على العكس تماماً، حيث التفتتْ القوّة المدجّجة بكامل الأسلحة من دبابات وناقلات جند للقبض عليّ وكأني مطلوب بتهمة مُسبقة الصنع، أهمها أني من أبناء غزّة، وقتها وضعوا عصبة حول عيني وأدخلوني الدبابة عنوة، وصرخوا في زوجتي والطفلتين النازفتين وليس في يدي أو يد زوجتي أيّة وسيلة لإيقاف النزيف عن الصغيرات الثلاث، دخلت الدبابة رغماً عني وأنا أحاول أن أشرح لهم وضع البنات، وأنه لا أحد إلى جانبهم، فما كان منهم إلا أن صرخوا عنيا في وجه زوجتي وبناتي النازفات جميعهن، قائلين بعبريّة معرّبة “يلا من هون ” بشراسة أفقدتنا القدرة على النطق بأيّة كلمة، وفعلاً لا أنا كنتُ أعلم إلى أين سيسوقوني، ولا أنا أعلم أين ستتوجّه زوجتي وبناتي والمنطقة شبه خاوية من السكان الذين أرغمتهم القذائف الماطرة بغزارة على مغادرة الحيّ الأشبه بالجحيم..

علاء-وسيارته-قبل-التدمير-الكلّي من هوامش -الوجع - في غزّة

السيارة الجديدة قبل التدمير الكلّي

أكثر من خمسة أيام، وقعتُ في الأسر، أسر من لا يرحم.. مأساتي لم تكن بسبب الضرب المبرح، ولا بسبب الشتم والإهانة والذل والتحقيق المعجون بالعنف والبشاعة، مأساتي الأكبر كانت بفرز الاحتمالات والسيناريوهات والمشاهد، بما يمكن أن يكون قد حلّ بعائلتي.. والسؤال المحيّر والمتواصل هل هم أحياء؟.. هل استشهد احد من بناتي؟.. هل استشهدتْ زوجتي وتشردتْ الصغيرات كما حلّ بمعظم أطفال غزّة؟؟..

لم يكن من السهل إيقاف سيل الوساوس التي كانت تنتابني، ولا إيقاف زحف القلق إلى رأسي لمعرفة مصير احد من أفراد عائلتي، وما إن اقتنع الجيش أنني لا علاقة لي بأيّ تنظيم، ولا أيّ عمليات ميدانيّة، وأنني مجرّد رجل باحث عن الاستقرار ومجاهد في سبيل عائلة أحبّها وأخاف عليها خوفي على نفسي وأكثر بكثير..

انتهت الليالي الخمسة الموجعة جداً، وخرجت مجدداً إلى الضوء والحريّة والخراب في كل مكان، أبحث كالمجنون عن زوجتي وبناتي في الشوارع، في مدارس الايواء، وعشرات الأسئلة في ذهني أين أصبحوا، ماهو مصيرهم، ماذا حلّ بهم، أين ناموا، ماذا يأملوا، ماذا حلّ بإصاباتهم، كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير كانت كالزوابع في رأسي، وكان شعوري بالمعاناة مزدوج التأثير، إلى أن هداني ربي إليهم، وكانوا بحال أفضل مما توقعت قد سخّر الله لهم الكثير من أولاد الحلال.. التمّ شملنا بفضل الله، وقد إلتأمَ الكثير من الجراح، وبدأت مرحلة جديدة من المعاناة، بعد كل ما مررنا به بأن كتبَ علينا ألا نموت قصفاً أو قنصاً أو تصفية مباشرة، بل أن نموت جوعاً في شمال قطاغ غزة المحاصرة تماماً والممنوعة منعاً باتّاً من الإمدادات.

عشرة أشهر مضتْ حتى اليوم، كلّها مجرّد سبحة تكرّ لأيام متشابهة، من القهر والحزن والخوف والقلق والجوع والمعاناة والحرمان، لكم أن تتخيلوا كيف أننا لم نعرف فيها طعم الراحة ليوم واحد على الأقل، ولون الهدوء بأي شكل من الأشكال، بل ضغط متواصل وجوع مستمرّ وتوتّر على العموم، وأعصاب مشدودة معظم الأوقات، كل ذلك يتزامن مع سيل من الذكريات يجرفنا من فوق الركام مع أجسادنا الضعيفة وأوجاعنا القوية، ومشهد منازلنا. المحطّمة بالكامل، والمكوّمة دون حول أو قوّة تلازمنا صورتها وتفاصيلها المدمّرة، منذ عشرة أشهر، ننام فيها من فرط التعب، وليس من النعاس فقط، ونستيقظ فيها من هول الرعب بحكم القصف المستمر وليس بفعل الصحو..

آخر-لمّة-لعيلة-علاء-قبل-أن-تفرّقهم-الحرب-بين-شمال-وجنوب من هوامش -الوجع - في غزّة

قبل الحرب

نتنقل من منطقة إلى منطقة ونهرب من موت إلى موت.. أكتب هذا الموجز عن مأساتي كواحد من مليونيّ مهدد في غزّة.. كان بودّي أن أخبركم المزيد عن معاناة أبي وأمي وإخوتي وأخواتي في الجنوب من غزّة، الصامدون هناك في خيام القهر والذل، لكن لا أعلم عن معاناتهم الكثير، ولا يتوفر لنا التواصل الميسّر للوقوف على مأساتهم، وصمودنا نحن هنا بالشمال تحت الركام والجوع لم يترك لي الجَلَد الكافي للمزيد من استحضار القهر والصبر والغصات التي لا يظهر لها نهاية قريبة محتمة أو حتى محتملة…

أيّها العالم الكبير ما أضعفك، أيّها العالم الصغير.. ما أتفهك وما أسخفك وما أكذبك .. وما أكثر ثرثرتك الفارغة المملّة ونحن نتابع حياتكم المزيّفة باشمئزاز، وأنتم تتابعون موتنا الحقيقي بشغف..

خاصّ – إلّا –

Share this content:

You May Have Missed