Home لـوثـة إلّاأدب خطوة أولى نحو المعارج الشعريّة

خطوة أولى نحو المعارج الشعريّة

by رئيس التحرير

ميتافيزيق الشعر، استمرارية البحث وتغيّر الأدوات تلقَّتِ القصيدة سلسلة من الموجات التي رافقت حركتها التطوريّة الحديثة أدّت إلى تغييرات في بنية ولادة النص، ومن ثم فهمه، وطريقة إيصاله، ولقد نظّر الفرنسيون ولهم صفة السبّاقين إلى التنظير في مسألة الموجات الإبداعية التي أصابت الشعر بشكل عام والقصيدة بشكل خاص، نظّروا في تقنيات وارتسامات النص الشعري، مشكلات هذه الموجات الإبداعية وجذورها السرية العميقة التي أدت لنشوء كل موجة ووصولها إلى الذروة ومن ثم انحسارها.

ولقد كان ملموساً أن كل موجة إبداعية، سمّيت مذهباً أو مدرسة إبداعية، لقيت استغراباً من الجمهور والنقاد في بداية نشوئها، وحالت حالة الاستغراب هذه إلى عدم وصول النص إلى الجمهور بشكل واضح إلى أن تبلورت هذه الحالة في النص وتم شقّ أقنية الاتصال الواضحة بين النص والقارئ، وتبيّن بعد عملية مسح عام لهذه البحوث في الحركات الأدبية والاجتماعية أنّ الشعراء هم الأشجع والأصدق، في طرح رؤاهم لخلق موجات معبرة عن وعي المرحلة التي يعيشونها، لا بل القفز فوق هذه المرحلة راكبين بساط الحلم القابع في قلب الناس جميعاً دون أن تفصح له الهواء ليتنفّس، فأوضحوا رؤى البشر ومكنوناتهم الإنسانية دون أن يعبروا عن ذلك بطريقة – قد تكون – سهلة على الإطلاق، بل على العكس، كثيرةٌ هي الحالات التي كان وصول هذه الرؤى يتمظهر في غاية الصعوبة للفهم من قبل القارئ مما جعلهم في حالة عزلة عن الجمهور، والسبب في ذلك يعود إلى أن شجاعة الشعراء جعلتهم يصلون إلى البحث في المطلق – كمفهوم غير بنيوي وغير محدّد وهي مَزِيّته، آخذين على عاتقهم خوض غمار هذا المطلق بكل تهويماته وانبعاثته وآفاقه التي لا تنتهي، متجاوزين بذلك عثرة محدودية إمكانية الإحاطة بالمطلق، كون القدرة الإنسانية وفي مختلف جوانب الحياة مهما حاولت الإحاطة به بقيت على حالة واحدة، وعلى وجه واحد، وضفّة ربما تكون صغيرة جداً من هذا المطلق الذي يخوضون غماره، وهم بذلك يتشابهون مع الشعراء الصوفيين، أو مع المتصوفة بشكل عام حين رأوا أنّ الحياة هي محاولة اتّحاد تامّ مع الإله، وقفزوا قفزتهم في الفراغ سعياً وراء ما أسماه بودلير ( ما وراء الطبيعة )، ولم يجدوا مانعاً من الدخول في حالة ميتافيزيقة أحياناً بلورت إحدى موجات الشعر التي حملت القصيدة على يد عباقرة إلى مسافات وإيقاعات لحنية غنائية ذهبت إلى حدود البذخ اللغوي والتزييني تعويضاً عن عدم قدرتهم على الوصول إلى آفاق الحالة التعبيرية: ( روح – جسد) بمعناها الربطي مع المطلق، فلقد ذهب الشعراء الميتافيزيقيون وراء رامبو في البحث عن المطلق دون أن يكون لهم قدرات رامبو الإبداعية.

نتيجة بحث الصور عن جون دون شعر

جون دون / شاعر فرنسي

وهذه الحالة أنشأت في فرنسا ومن ثمّ في أوربا عموماً موجة أدبية كانت تقفز إلى المطلق ولكنها قفزت إلى” مطلق المؤسسين ” لهذه المرحلة فقد كانت حدود مطلقها تقف عند حركة “جون دون ” أو “جون دان ” الذي اعتبر المُؤسسس لهذا النمط من الشعر، والذي تبعه أو زامنه عدد من الشعراء البريطانيين أطلق عليهم لاحقاً اسم الشعراء الميتافيزيقيين والذين لم يؤسسوا حركة بالمعنى الفعلي ولم يتواصلوا وربما لم يقرأوا لبعضهم البعض إنما يرجّح أنه وفي القرن السابع عشر الميلادي بدأت تظهر حركات تجاوزت الطفولة المعرفية لدى البشرية، لتعود إلى نبش التراث الإنساني الذي يحوي كمّاً هائلاً من التساؤلات حول قضية الحياة والموت والتي تثير على كثرتها رغبة الإنسان أكثر بالخلود، وقد تبلورت الأفلاطونية الجديدة مما دفع الشعراء إلى تحليل الشعور الإنساني لا تجسيده وأن مثل هذه القضايا إذا دخلت مضمار الشعر وهي ابنة الفلسفة ستحرّك قوى التفكير والتأمل لدى الإنسان العادي، لكن يبقى العجز هو العامل الأساس الذي دفع ببعض الشعراء لاستخدام المحسّنات البديعيّة فقط للتعبير في شعرهم، نظراً لعجزهم عن الوصول إلى المطلق بوسائل أكثر جذباً من حماوة اللغة وتدويراتها، ولكن الشرق نفسه تعايش مع هذه الظاهرة، لا بل من المرجّح أن الشعر اللاهوتي الذي لا يمكن المساس به على قدمه في منطقة الشرق القديم لم يكن سوى حركات إبداعية على الشعر في منطقة الشرق، وعلى العرب خصوصاً نظراً لإطناب اللغة وقدرتها على الامتصاص والنمو مما سبقها وتلاها، وهذا موضوع بحث آخر، لكن هذه الحركات بالرغم أنها لم يتمكن أحد حتى اليوم من حصرها زمنياً إلا أنها كانت وما زالت موجودة طالما أن هناك حياة وموت، وأن هناك مطلقاً في هذا الكون مما سيبقي على وجودها وسيبقيها متقلّدةً مفاهيماً شديدة التنظير لتتلاحق موجة إثر موجة، تضيف إلى القصيدة قفزاتها وانتعاشاتها مع سرّانية الكون التي لم يكن لشاعر أن يتوقع أن يذهب بها إلى هذه اللاحدود على الرغم من اليقين أنها لم تلمس من الحقيقة بمعناها الفلسفي سوى القليل.

ويبقى الربط التحضيري مع هذه الحالة الميتافيزيقة في الشعر حاضراً مع ما يُنشر اليوم ومع من يتقلد صهوة الكتابة الشعرية، ذاهباً في مقاصده الباحثة عن المطلق ضمن آفاق روحه متذرّعاً أنّ هذه الموجة لاتموت وأن أفق ما وراء الطبيعة الميتافيزيقي مفتوح، على تهويمات اللاوصول التي أدّت، ولا زالت تؤدّي إلى عدم الوصول إلى القارئ، لتعود التجربة الغامضة من جديد إلى الحضور ولكن بشكل أبهت، مع بهتان أدوات الوصول وتَكَسُّرِ سلالمها.

 

خاصّ – إلّا –

 

You may also like