Home إلّا نقاط حبر على بحر الغياب الطويل

نقاط حبر على بحر الغياب الطويل

by رئيس التحرير

عصام العبد الله / شاعر المحكية ومن أهم شعراء لبنان شعراً وحضوراً-  1941 – 2017

باقة حروف إلى الشامخ شعراً… عصام العبد الله

*** مرثيّة غادا فؤاد السمّان . مجلّة – إلّا – 

جريدة البناء – اللبنانية

……

قصيدتي…

لا تملك أيّة حيويّة هذا الصباح.

لا تلوي حتى على بقايا ابتسامة تلوّنها.

لا تكترث لزقزقة العصافير التي تغنّي لها على شرف الولائم اليومية.

قصيدتي… قلقة، حزينة، كئيبة، ومُربَكَة حتى آخر السطر.

صديقها الطائش عصام العبد الله، صديقها المشاكس، المشاغب، المحنّك، المُستفِزّ، الذكيّ، اللمّاح، المخلص، المحبّ، الودود، اللدود أحياناً، وعن سابق تصميم، صديقها الشاعر، والشاعر دائماً… في قبضة الجرّاحين.

قصيدتي تعرف عصام العبد الله جيداً، أو هكذا يُخيّل لها، لتشهد بإصرار، بل لتشهد بيقين على اقتضاب اللقاءات بينهما، والتي تقتصر عادة على مزاجها الأرعن الموغل في العزلة والعناد… تشهد أنّ عصام العبد الله كان أباها حين أنّبها ذات مساء كيف تأخّرت عن كأسِ الحليب، والخلود للنوم وهي طفلة وحيدة عند بوابة الليل…

تشهد أنّ عصام العبد الله كان أخاها، في مهبّ الأصدقاء المتبدّدين كالفقاعات.

أنّه كان صديقها، وصديق روحها وفكرها ولغتها، وهو العابث العفويّ الطليق بلغته الشيّقة وأفكاره الولود وعباراته الصاخبة على مدار جملته الشفهيّة والشعرية التي يعزّ نظيرها.

قصيدتي مثلي متوتّرة هذا الصباح، لا يكفي أن أطمئنها باتصال هاتفيّ يحدّثني فيه «ورد» أنه تمّ الإفراج عن عصام العبد الله من غرفة العمليات بكفالة «أم حازم» التي تترصّد جولات المخدّر في اللاوعي، وكلّ ما يمكن أن يصحب معه عبر خريطة الصحو.

لم يكن يتّسع الهاتف لتفاصيل جمّة، خصوصاً أن هواتف كثيرة متذمّرة الآن تتزاحم للسؤال عنه.

فهو الزعيم وأنصاره كثر، فقط كنت أريده أن يعلم وهو في عزّ غيبوبته، وفي صميم صحوه، وحين يتمدّد على سرير النقاهة، وحين يحتسي الشاي، وحين يبتلع حبّة الدواء، وحين يعود لإشعال لفافة التبغ، وحين يعتصم بحبل أفكاره ليكبّل به القاصي قبل الداني على طاولة المقهى، حين يضحك، وحين يسكت، حين يغضب، وحين يلعب… أريده أن يعلم جيداً أنه العصب الحيّ للمشهد الثقافي في بيروت، أنه الحرف الساخر والحرف الساحر على متن القصيدة والحوارات كافّة، أنه مأوى الكلمة الضائعة التي لن تلجأ لسواه، أنه الكثير من الإنسانية، والكثير من الحضور، والكثير من الصدق، في زمن شحّت فيه حفنة الأوكسجين ونضبت كلّ آبار الودّ.

لهذا، بِاسمي وبِاسم قصيدتي وبِاسم بيروت وبِاسم كلّ فناجين القهوة التي تنتظره، وبِاسم كلّ الكراسي التي لن يملأها سواه كزعيم لا يليق بغيره اللقب ذاته، أرجوه أن ينتبه لنا لعصام جيداً، وأن يعيده إلى دائرة الكلام التي لا تكتمل إلّا بمفرداته هو شخصيّاً…

أستعيد أعلاه، ما كتبته سابقاً عن عصام العبد الله، حين تمدّد بعض الوقت على سريرٍ أبيضَ كقلبه، في الصيف الماضي، وأنا أذكر تماماً وحتى هذه اللحظة صوته الذي لم يتأخّر عن مخاطبتي بعدما خرج من المشفى، ليكلّمني وقد استودعتُ رغبتي الإطمئنان عنه ومنه، لدى الغالية نهاد والعزيز ورد بأكثر من مكالمة، وقد توالت الاتصالات المقتبضة بيننا عصام وأنا، وفي كلّ مرّة كانت وتيرة صوت عصام تتصاعد كما اللحن الجارف في “كارمينا بورانا “، اطمأنيتُ أنه صار بخير فهدأت سريرتي، وعدّت إلى صمتي وعزلتي، وقد أسلمته إلى خلانه في المقهى، تاركة الصدف تدور دورتها النبيلة فنلتقي، ويصير اللقاء فعلاً وحالةً وأثراً وبهجةً وصخباً وشهباً ونيازِك، وكل ذلك بومضةِ عين لا تحتاج لترتيب زمنيّ يستحدث وقع الدهشة، فالأرواح اعتادت أن تلتقي خارج الأعراف الاجتماعية، وبعيداً عن جداول التوقيت، وماهي إلا أيام قليلة صارت لعلّ حقيقة، وعاد عصام إلى المقهى والتقيته بمصادفات أربعة، خامسها كان منذ مدّة قريبة جداً، وقتها همست لصديقتي ” سناء البنا ” ونحن في مقهى الكوستا حين مرّ كشهبٍ متوهّج حنون وحميم، وهو مثقلّ بالآلام كما لم يضىء سواه وهو في عزّ عافيته، عصام ليس بأفضل حالاته كما أشعر يا سناء، وشاركتني الرأي سناء متضامنة أنه فعلا لا يبدو على مايرام، وحاولت ألا أستسلم لأيّ قلق إذ كنت مقتنعه تماماً، أنه لا يعرف الهزيمة، وكنت على يقين أكبر، أنّ الآلام هي التي تئنّ من عصام لا العكس، ولم تمضِ سوى بضعة أيام، حتى هاتفتني صديقتي سناء البنّا بصوتٍ حزينٍ كئيبٍ مُربك، وهي تقول عصام تعبان جداً في المشفى ياغادا…

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏شخص أو أكثر‏ و‏أشخاص يقفون‏‏‏

آخر صورة التقطتها على الهاتف الجوال قبل رحيله بأيام قليلة ترافقني على مدار اليوم

قتل الخبر كثيراً من حيويتي ذاك النهار، وسارعتُ للاتصال برقم عصام، ورنّ حتى استنفد صوته وسكت دون أيّة إجابة، في اليوم التالي حاولت سؤال المقربين منه فأوجزوا أنه يعاني أكثر، واجتثّ من روحي قسطاً أكبر، في اليوم الثالث أو الرابع لا أذكر حرفياً، إذ سقطت الصاعقة التي تحمل آخر وميض لعصام العبدالله كالمقصلة على ما تبقّى من روحي، وها أنا بعد ألف عام أشعر بيتمٍ جديد، وبعد خمسة أعوام أفتقد مجدّداً أخي الذي التهمته نار الحرب للمرّة التالية متجسّداً في شخص رجل استثنائي لم تلده أمي ولكن ولدته الأبجدية النظيفة والفكر الحرّ وكان هو لا سواه عصام، وبعد ربع قرن من الغربة في بلدٍ يزدري الغرباء حتى الشفقة أتغرّب كما لم أشعر بالغربة من قبل كالمنبوذة في عزّ الوباء، وبعد ملايين النبضات من السخط والحبّ والغضب يتوقّف نبضي، يعصيني، ويتركني على رصيف الذهول، أسير بلا وَجْهٍ وبلا وِجْهَة، كان عكازي قلم قصير مثلي، قلم صغير مثلي لا يملك غير الهذيان والهرم، قلم بديل لرئتين مهترئتين أتلفهما الحزن المتواصل والخيبات وصولاً حتى هذا الحزن الكبير الجاثم فوق أضلاعي كصخرة الروشة، والتي أحاول أن أزحزحها برفقة كلّ المتعاقبين وكل المحتشدين معي هنا، لنُخرِجَ عصام من وحدته التي لم يألفها من قبل وهو الذي لطالما أخرجنا من وحدتنا ومن كآباتنا ومن أمراضنا وعُقدنا وسذاجاتنا وعصابياتنا ونرجسياتنا وأوهامنا وسخافاتنا واكتفى بالسخرية من كلّ شيء حتى من ذاته واحتفظ لكل عابر منا بطوق نجاة اعتاد الجاهزية القصوى لينقذ أيّا يكن تمادى في السقوط بذاته أو أمعن في إغلاق أبوابها كما كنت أفعل وكما كان يحذرّني من مغبّة الأمر كلّما تيسّر له وينصحني بضرورة الهرب مني وأهمية اللجوء إلى الآخر، ومهما كتبتُ عنه ومهما قيل فيه، فرصيده من المشاعر كان أكبر من جميع مانملك منها، لهذا كل ما علينا هنا أن ننضمّ إلى عليائه، حيث تتهادى روحه بهيبتها، ووقارها المعتاد، نرتّب سطورنا، ونعدّ قهوتنا، ونشحذ ألسنتنا بالدعاء له أولاً ونواصل الرجاء أن يمنّ عليه الله بالمسرّة والمكانة الأمثل، ونتفرّغ من أنانا وأنانياتنا لنلهو كما يحلو له اللهو برمل الكلام، عند تخوم السماء نتحايل معه على السراب، بقليل من الشغف وكثير من الاستياء الذي لا بدّ منه، حين نقصد البحر ولا نجده عند زاوية اللهفة، أو نقصد الحمرا، ولا نلتقيه عند منعطفات المودّة ومفارق الصدق ومعارج الاشتياق.

 

نتيجة بحث الصور عن عصام العبد الله

 

ما بعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرفن….

*** مرثية مرسيل خليفة – جريدة اللواء

لم أسأل أحداً من هو عصام العبد الله في غمرة الشعراء. قرأتُ القصيدة في الجريدة، لحنتها وغنيتها وعندما التقينا رأيته قويّاً كثور، يحلّق عالياً كالنسر، ولم يكن يشبه أحداً، كان يقتني الخسارة في الدواوين، يخرجها، يموسقها، يطبعها، ينشرها، يوزعّها، ويقرأ علينا ما تيسّر، إذا بقي وقت من أول، وآخر الكلام في ترأّسه للقاءات صفحة صفحة، ورغم ضحكاته المجلّجلة وروحه الحلوة، كان أكثر حزناً من الناي.
رأيته منذ أسبوعين بالصدفة، وهو يترنّح في معرض ” عبد الحميد البعلبكي ” بقايا كلام سريع، ومضينا نتبع، نمش، اللوحات على الحائط .
لتذوب كالضوء في الماء

ثم تستحمّ كالشمس

في البحر،

وتنبت كالليل بطيئاً

خلف الاشجار .
تمدّد على العشب .
لن يوجعك شيء بعد الآن .
جسمك فرح عار .
عصام العبدالله شكراً لك

 

نتيجة بحث الصور عن عصام العبد الله

واسم الرحيل .. أخي عصام

** مرثية عماد العبد الله

وليست عشيات الحمى برواجع إليك ولكن خللي عينيك تدمعا

ترك عصام حزب البعث وبرر ذلك مرارا لكنني نسيت . فأنا عندما يتعلق الأمر بمشاحنات الأحزاب والمنظمات لبنانية كانت أم عربية ، أصبح كالأطرش في الزفة . في تلك المرحلة الانتقالية بين تركه للحزب وهزيمة حزيران انشغل بالنضالات الطلابية وكان في رمل الظريف مع كثيرين من رفاقه وأصدقائه لكن من أذكرهما جيدا هما جميل عبد الجليل شقيق حبيبته وزوجته القادمة نهاد ومحمد موصلي . وكان الثلاثة بنفس الطول تقريبا وقوة الشباب وهيبة الرجال . توظف عصام في وزارة الشؤون الاجتماعية ، وبدأت مغامرات السهر في الماي فير والدولتشي فيتا وتحول منزل عصام بعد زواجه إلى ملتقى للجميع من شخصيات وفنانين وإعلاميين ومدراء عامين أذكر منهم رضا وحيد . وكانت نهاد المعلمة وربة المنزل على قدر تحمل تلك المسؤوليات برباطة جأش وحضور امرأة أرستقراطية وصاحبة بيت رائعة . وكنت أطل إلى تلك الجلسات في مرات متفرقة لكنها كانت منعقدة على الدوام ودرج فيها عند العشاء مبدأ الفيفتي فيفتي . بعد هزيمة حزيران أصيب عصام كما غيره بصدمة كبيرة .. وتحول إلى البحث عن بديل . إلى أن انتمى إلى تنظيم لبنان الاشتراكي الذي أصبح فيما بعد منظمة العمل الشيوعي . كثير من البعثيين السابقين تحولوا الى الماركسية وتأييد العمل الفدائي الفلسطيني . وعاد عصام هذه المرة إلى قيادة المظاهرات محمولا على الأكف لابسا الكوفية الشهيرة . تجربة وزارة العمل بالهدايا والبخشيش والرشوة الهائلة أنف منها ولم يلوث يديه بينما كان لعاب الكثيرين يسيل على موقعه في دائرة الأجانب التي تبيض ذهبا . هكذا هرب إلى التعليم الثانوي عبر مباراة نجح فيها مع الشاعر حسن عبدالله . أذكر في ربيع 1969 أنه صعد مع سونيا بيروتي وزوجها الباشا إحسان شاتيلا إلى بلدتنا الخيام كي تجري سونيا تحقيقا عن الفدائيين في العرقوب . وكانت سونيا وإحسان من نجوم السهر في منزل عصام . تعرفت إلى جدي وأعجبت بشخصيته . أحضر لها طراحة لتقعد عليها بجانب سريره الذي كان لا يتركه إلا عند حادث جلل . كان يروي ويروي بأسلوبه الساحر الذي كان يمتلكه أيضا أخوته : محمد وضاهر وأحمد فهم ملوك السرد . مضت أربعة أيام على هذه الحالة وسونيا تستمع ألى أروع القصص كما أسمتها وضاع التحقيق ونامت الحقيقة .
ثمة هتاف كتبه عصام في إحدى مظاهرات الرفض لمبادرة روجرز التي قبل بها الرئيس جمال عبدالناصر هو :

صار ضروري نحكي شوي بصراحة
مش معقولي تبقى الكلمة سواحة
شو رح بيصير لو حكينا هالكلمة
غولدا مائير قبلت بالحل السلمي

وفي مناسبة مرور أسبوع على فاة والدة نهاد زوجته ، ذهبت معه في صيف 1969 على ما أذكر إلى بلدة أنصار . صعد عصام إلى منبر الحسينية وألقى خطابا ناريا حول أهل الجنوب وسيرتهم وعذاباتهم . فمنهم من يذهب إلى بيروت ليعمل بويجيا أو عتالا أو غارسونا في المطاعم والمقاهي .. وأكمل بأسلوبه الحماسي و التحريضي البليغ .. وكان حاضرا ضابط في الجهاز المشترك أو المكتب الثاني ، لست أدري ، فأخذ يصدر همهمات وأصوات الهدف منها إسكات عصام وتخويفه .. لم يعبأ عصام به وأكمل ، لكن جرعة فيتامين جاءت من عديله الراحل علي شعيب زوج سعاد أخت نهاد وكان في سلك التحري ونموذجا للشجاعة المطلقة وكنت أنا أجلس قريبا منه ، عندما خرطش مسدسه الأربتعش وصرخ في القاعة : سوق إستاذ عصام الله معك .. فساد القاعة هدوء هرب أو خرج على إثره الضابط مجرجرا أذيال الخيبة .
كان عصام أيضا قد ترك المنظمة ولا أدري لماذا واصطدم بالحرب الأهلية فتحول إلى الإعلام والصحافة فعمل مديرا لتحرير مجلة الحسناء برئاسة تحرير أنسي الحاج وعقد صداقة متينة مع صاحبها الشيخ عفيف الصايغ . ومن ثم اشترك مع زياد الرحباني في برنامج ( بعدنا طيبين ) و قدم لفترة طويلة في الإذاعة اللبنانية برنامجا سياسيا ناجحا بعنوان ” محطة كلام ” . تخلص من صداقات وعقد صداقات جديدة وكانت الوجوه تتغير حسب المناخ العام وهو كان دائما منذ أن انطلقت شرارة الحرب الأهلية مدينا لها وكافحها وكافح تداعياتها عندما كان ناظرا في ثانوية رمل الظريف . كان يحرص على انتظام التعليم في أشد تاريخ بيروت ولبنان فوضى . أطلق أحد التلاميذ بين رجليه رصاص المسدس فأخذ المسدس من يده وأعاده الى الصف . من هنا انطلق وصف طرزان عليه .. والآن لا أدخل مصرفا أو مؤسسة إلا ويقول لي تلامذته من الموظفين الحاليين : الله أكبر إنت خيو لطرزان ؟!
كان كل ذلك يعتمل في الخفاء في شخصية عصام .. فبعد هزيمة حزيران طلق الشعر الفصيح الذي كان يهدر في صوته كشاعر فحل . وبعد الحرب الأهلية تحول إلى متشبث بالدولة وقيامها . كان الثائر فيه يهدأ والمقاتل يرتاح لأن ما جرى ليس بقليل . انهارت فجأة أحلام التغيير والثورة ودخل لبنان في حرب طائفية ستقود فيما بعد إلى صراع مذهبي . انهزم المشروع العربي الموعود .. البعث والناصريون . طلق عصام الفصحى في سياق تلك الرضة الشاملة . وانصرف يبحث عن عودة التوازن لخسارته النضالية وصدمته الهائلة بهزيمة جيله عن المرأة في الشعر واللغة كما فعل بدر شاكر السياب عندما أخذ يبحث وهو يتيم الأم منذ عمر السنتين عن أمه في كل النساء شعريا . وكما فعل أنسي الحاج الذي كان يتيم الأم منذ عمر السنوات الست عن أمه في كل النساء شعريا . وكما فعل محمود درويش في البحث عن فلسطين الضائعة في كل النساء شعريا . وكما حاول فعليا أبو حسن سلامة التعويض عن فلسطين بزواجه من ملكة جمال الكون . ولا زال البعض يتساءلون بغباء لماذا طلق الشعر الموزون أو شعر التفعيلة وهو المجلي فيه . لقد أصبحت اللغة الفصحى
عند عصام تجسيدا للذكورة الجريحة وهو كان بحاجة إلى علاج جروحه والتئامها . ولم يرد أن يضحك على نفسه ولا على الناس . كانت الفصحى هي لغة الأب أو لغة الذكر والمحكية هي لغة الأم أو الأنثى . حينها وجد الدواء وهو كتابة الشعر في المحكية اللبنانية كلغة حياة ومعيوش .. لغة أقل اعتدادا وادعاء وبلاغة وبيان . كان الذكر الجريح يهرب إلى الأم إلى الأنثى الحامية بعد انهيار الرجل فكتب عن النساء والأنوثة ما لم يكتبه في كل تجاربه السابقة ، ليس لأنه ” نسونجي ” كما يشاع ، بل لأنه يتمتم ابتهالات لعشتار آلهة الحب والخصب والاستقرار ويحتمي في حضنها ويتطهر . وليس صدفة في هذا السياق أن تشتهر بعد قصيدته عن بيروت قصيدته عن مريم العذراء التي اقترب منها كي يتطهر من دنس ذكوري فاجع الهزيمة والانكسار . من هنا فوجيء الجميع بهذا التحول وذلك الشعر . وممن أصابهم ذلك كان سعيد عقل الذي كان يقرأ الممحي . أما الآخرون فأعجبوا ودهشوا ووقفوا حائرين . وكان أقرب ما يمكنهم قوله أن عصام هاجم على النسوان ! طبعا أقول هذا في سياق النقد وليس في سياق موقف تجريحي فالكل يحب عصام ويسعى إلى صداقته و رؤيته والتحدث معه .
رغم ما كان بيني وبينه من تطابق وتباينات .. في السنوات العشر الماضية . فإني كنت أعلم أنه عصام .. قلبي عليه كما على نفسي .. لكنني وأنا أراقب تلك التحولات كنت أشعر أن العالم يضيق عليه شيئا فشيئا كما ضاق عليه منزلنا العائلي فهجره باكرا . في آخر أيامه تشبث برفاق المقهى كأب يحنو على أولاده .
ضاق العالم أم اتسع فإنك عصامي وبطلي ونجمي الذي لن يخبو .. أراك في سلاف وحازم وورد وكريم ونهاد كاتمة أسرارك والتي هبت عليها عاصفتك الكبيرة وتركتها بعد تحول مناخي نادر .
سلام يا أبو حازم .

نتيجة بحث الصور عن عصام العبدالله

هذا الصباح ….

*** مرثيّة بلال شرارة
(تخربط سطر النمل) فقد انضباطه واتّزانه، لم يعد من (مايسترو) يراقب خطوه وخطّ سيره، تفرّقتْ أيدي سبأ (تنعفرنا… كل واحد ذهب الآن على حلّ شعره.. ياويلنا) ذهبنا كل واحد من عسكر (الزيح) المدنيين جداً بإتجاه مختلف.
 وأعصاماه…… هل كنا نحن أساساً هكذا؟
كنا أشجع من الموت ولم نفكّر به..؟
لم نكن متّفقين على خاتمة؟
فقط كنّا نجتمع على طاولته، حيث مملكته وحيث حكاياته، وخبرياته، وموضوعاته، وتعليقاته، وآرائه. نجتمع أو نتفرّق على وعن خبز وملح كلامه.
كان يأخذ بأيدي الجمع القليل إلى هنا وهناك، يقلّب الميمنة على الميسرة، يتقدّم بنا أو يتراجع المهم أن يمضي الوقت أو أننا نمضي.
أنا ربما كنت مسكوناً بالتمرّد، كنا أصدقاء الداء، (يعني حبايب ع طريقتنا)، في السابق كان يوجّه انظاري حتى لا تسرقني الظروف، نحو أنّ فلاناً في المستشفى، أو أن هناك معرض لفنانٍ تشكيليّ، أو فنانة ما.. تستحقّ أو يستحقّ التشجيع، أو أن فلاناً يوقّع كتاباً، شرط أن يتمّ ذلك بعد القيلولة، (يا الله ماعاد معنا مصاري… معارض… وتواقيع).

هذا العام غاب عصام عن توقيع ابن عمه التنوخي المير طارق آل ناصر الدين، وهو لم يكن بيده حيله، غاب عني رغم مراراتي من أنه حزين وأنا عاتب، غاب بسبب أنه يقيم في العناية الفائقه في المستشفى.

كان صعباً أن نصل إليه، هو كان يعرف أن ساعته قد دنت، وأنه لا يريد لأحد أن يرى ضعفه، وهو الذي كان يتفاخر علينا دائماً بطوله، ونصوصه، وثقافته، وبأنه خلطة سحريه حملها غريب عجيب في سلة القرى إلى المدينة – العاصمة بيروت…

كم كان يحبّ بيروت… يريدها أن تكون تعبيراً عن سلامنا مع أنفسنا.. أنا أعترف لم أنسجم مع ذلك لأنني بَرِيّ تربيت مع الدواري، وصرتُ أقلّدها في كل شيء الا في طيرانها.
الآن ينصرف عنا عصام سوف لا يأتي بعد ذلك إلى أمكنته، وأنا عوّدت نفسي منذ زمن، على عدم الاقتراب أكثر، من أعمار من هم أكبر مني، وهم علموني الحكي واللون، وقد كنت أفقدهم على التوالي، وأبادلهم بأني حمّال الأسية: عمي عدنان، الزين شعيب، زهير غانم، اسعد سعيد، جوزيف حرب، حيدر حموي، عبد الرحمن الابنودي، غازي ناصر، ياسر جلال، والحبيب خليل الشحرور، والأعز عصام العبدالله. هل نسيت أحداً؟
أقول غداً سوف لا أجد من يدفنني، يكتب لي مرثية. وأنا صرت رقيقاً لا أحتمل أن تقع على دفتر قلبي، كلمة أو أن تقع من عيني دمعة كلمة.
 ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏يبتسم‏، و‏‏‏لقطة قريبة‏ و‏منظر داخلي‏‏‏‏‏

الشّاعر اللّبناني الكبير
عصام العبدالله (1940 – 2017)
غادرنا هذا الصّباح

♫ ♡ ♫

بيروت عم تبكي:
بحر الحبر
قدّيش مشتقلو،
عرش الشّعر
شو كان يلبقلو.
بيروت عم تبكي:
بيحكي حكي
بيطلع شعر،
بيقرا شعر
بتفكّرو بيحكي.

تركي عامر – فلسطين

♫ ♡ ♫

إلى جنّة الخلد يا أبا الحازم
طيّب الله ثراك
وإرثك الشّعريّ الجميل

♫ ♡ ♫

عصام العبدالله: قصيدة بيروت

نقّط قلم الله حبر
صارت سما
وتجمّعت.. وتجمّعت صارت بحر
وصل البحر عالشّط… وتمشّى
ونسّم هوا رملي
وقع الرّمل بالمي
صارت أرض!
طلع السّمك عالبرّ يتشمّس:
كتروا بيوت النّاس
كتر الشّجر
شايف كإنّا بديت الحفلة
وسمّيتها بيروت..
طلعت من رموش الزّبد
كأنّها كحلة

غادرنـــــــــــــا هذا الصّباح

مرثيّة تركي عامر – الجليل الأعلى

♫ ♡ ♫

بيروت عم تبكي:
بحر الحبر
قدّيش مشتقلو،
عرش الشّعر
شو كان يلبقلو.
بيروت عم تبكي:
بيحكي حكي
بيطلع شعر،
بيقرا شعر
بتفكّرو بيحكي.

تركي عامر – فلسطين

♫ ♡ ♫

إلى جنّة الخلد يا أبا الحازم
طيّب الله ثراك
وإرثك الشّعريّ الجميل

♫ ♡ ♫

عصام العبدالله: قصيدة بيروت

نقّط قلم الله حبر
صارت سما
وتجمّعت.. وتجمّعت صارت بحر
وصل البحر عالشّط… وتمشّى
ونسّم هوا رملي
وقع الرّمل بالمي
صارت أرض!
طلع السّمك عالبرّ يتشمّس:
كتروا بيوت النّاس
كتر الشّجر
شايف كإنّا بديت الحفلة
وسمّيتها بيروت..
طلعت من رموش الزّبد
كأنّها كحلة

نتيجة بحث الصور عن عصام العبد الله

يلقي الشِعر كمن يطلق النار عليك بحنان

*** مرثية جهاد الزين – النهار

صعبٌ عليّ أن أفصل بين شعر عصام العبدالله وبين إلقائه شعره صوتا ووجهاً.

أكاد أقول أن إلقاءه كان هو العنصر الشعري الأول في قصيدته. فهذه ليست الكلمات نفسها التي نعرف حين تخرج من فم عصام. تصبح كلماتٍ أخرى، بالحد الأدنى تصبح أقوى.

عصام كان شاعر فصحى بالعامية. لا أشك بذلك لحظة. معرفته باللغة العربية الفصحى وتذوقه الكلاسيكي والنيوكلاسيكي وانشداده الطرَبي للتفعيلة في الشعر العربي كانت جزءاً لا يتجزّأ من صداقتنا المزاجية في الثقافة. كنتُ، على تقطّع لقاءاتنا، فأنا آنس المقهى ولكني لا أحب الإدمان عليه، عندما أتجه إلى المقهى الذي أفترض وجوده فيه، ولم يخب ظني يوماً! كنتُ بالضبط أَعِدُ نفسي بأن نتابع معا بيتا آخر من أبيات قصيدة لشاعر من الكبار لم نتابعه قبل خمسة أشهر أو حتى سنة مضت على لقائنا السابق.

كان يلقي الشعر كمن يطلق النار عليك بحنان ونعومة الفرسان على صهوات أحصنتهم. وأعرف أنه كان لو قرأ وصفي له هذا لضحك كثيرا من ذلك الضحك الذي يغيب الفارق فيه بين كونه سخريةً على نفسه وعلى الآخرين بمن فيهم الذين أمامه. لكن ضحكة عصام لا تشبه غيرها. فهو حين يستشعر ضرورتها يستشعر بها عن بعد. يشم رائحتها كالصياد الذي يشم رائحة طريدةٍ في الغابات البعيدة.

عندما يحس أنها آتية تبدأ عضلات وجهه بالتحرك، الخفيف أولا، ثم تتصاعد رجفات خدّيه وعينيه وشفتيه تدريجيا وتشتد الرجفات فيما النكتة التي يرويها أو يحضّرها الجالس أمام عصام تتواصل وما أن تصل أو تكاد تصل إلى خلاصتها الساخرة حتى يكون عصام قد قبض عليها ورافقها بضحكة منفجرة تجعل النكتة حتمية التأثير. تصبح ملكه لا ملك قائلها وغالبا ما يمنحها هو الجزء الناقص من طرافتها، يسد عجزها بتفاعله كما يسد المرء عجزا في موازنة مالية. أما نكاته هو فحدّث ولا نهاية. لأنها لو جمعت ستكون أقرب إلى “سيرة” دقيقة لمكنونات بعضٍ شخصيٍّ حساسٍ من تاريخنا السياسي والاجتماعي اللبناني والشامي والعربي. ذهبت الشفاهة بما “أرّخ”، وذهب ضحِكهُ بما ضجر، وذهب وذهب…

هو أطرف البعثيين بعد خمسين عاما على تركه الحزب، هو من رجال آل العبدالله الواقفين حتى في “طريق الجديدة” على أسوار جبل عامل (ولوْ منسيّين)، وهو البيروتي “الأصيل” لهجةً وشارعاً بعدما لم يعد هناك “بيارتة” كثيرون مثله، وهو الشاعر الذي لا أفهم حتى الآن كيف لم يكتب شعره المحترف بالفصحى، وهو رب الأسرة الناجحة التي يخفي كثيراً تباهيه بما أنتج، وهو أيضا، على طريقته، من ذلك الصنف العجيب من الناس الذي يعجَب بمن هم أقل شأنا منه!

لكن هذا المتقاعد المبكر قبل أن يتقاعد، وابنَ الرواية المألوفة لطبقة وسطى تكوّنت بل ازدهرت في بيروت، وأحدَ الذين اعترفوا بفضل “لبنان الكبير” ولم ينكروه (“نريده ولو شبحا” حسب جملته المكتوبة في الحرب الأهلية)، لم يكن مجرد “مدير” مزاج اجتماعي. ولم يكن مجرد “مجنون” من مجانين الأدب الرائعين.

كان يعرف المدينة، الطوائف، النبلاء، الحثالات، النزيهين، الفاسدين، الأذكياء، الأغبياء. يعرف تاريخ المنطقة الحديث ويتحسس ثقافيا تاريخها القديم.

لذلك كان الحوار على متعته صعبا أيضا معه. لأنه إذا لم يعجبه التقييم أو التحليل انقلب فجأة إلى كادر سياسي حزبي “مكحكح” (دون حزب) سيلتقط الفواصل والتعقيدات ويدخلك في النقاش الصعب. لكن عصام، كان ضعيفا جدا أمام أي خبرية غير مألوفة أو مبدعة تُحوِّله باستسلام كامل إلى طفل يصغي ويحضِّر نفسه دون مقابل لترويج ما يصغي إليه. أما عندما ينزعج، فتطلع لهجته الخيامية، كأنه يريد أن يعاقب ويهدد دون إعلان.

نتيجة بحث الصور عن عصام العبد الله

عصام العبد الله شاعر المشافهة وعرّاب البهجة

*** مرثيّة شوقي بزيع – صحيفة الحياة

فعلها عصام العبدالله وأدار ظهره إلى الحياة التي عبّ من مياهها حتى الثمالة تاركاً لنا، نحن أصدقاءه ومحبيه، أن نضغضغ كالعجائز ما تبقى من قشورها العجفاء.

رحل عصام في أوج بهائه كما يليق بسدَنَةِ الأساطير وأبطال الملاحم، مسدلاً الستار خلف آخر القهقهات التي تركها إلى مصيرها في فضاء المدينة الخاوي. أقول ذلك وأنا أعرف أن الكتابة عنه في عجالة من الوقت هي ضرب من ضروب العبث.

إذ كيف يمكن منزّه الأعاصير ومروّض الكلمات الحرون أن يُختزل في مقالةٍ أو مرثاة. كيف يمكن بقليل من الكلام العي أن أعاين تلك الخلطة السحرية النادرة بين حضوره الاحتفالي وبين لغته الآسرة، بين عرّاب الجمال المتشكّل في الأرض على غير هيئة ونموذج وبين العاشق الأبدي القادم من أخاديد سهل الخيام ليلْتهم بالأصابع الخمس واللعاب المجرد، كل ما تقع عليه عيناه من متع العيش وموائده وغواياته.
كان عصام نسيج نفسه بمقدار ما كان شخصاً غير قابل للتكرار. ولم يكن يوازي مهاراته في اجتراح مسالك للصداقة مأهولة بالوفاء وكرم النفس سوى الأشراك التي ينصبها بخفة الحواة لشوارد الكنايات وطرائد الخيال المدهش. وكان شديد التبرّم بالمداهنات السمجة، والعبارات المألوفة، والكلام المنمّق، الذي لا يصيب الحقيقة في صميمها. وإذ كان توقه للمغامرة أهم من بلوغ الهدف، كان يلعب على الحبال الخطرة التي تقود حياته من قمة إلى أخرى، غير آبه بما يتهدّده من مزالق وعثرات. وحده الموت لم يكن في حسبانه، وهو الذي اعتاد أن يرشو جسده الذي أثخنته الأمراض بكل ما يحتاجه من عقاقير البهجة وترياق الملذات.
منذ يفاعته المبكرة بدا صاحب «مقام الصوت» رجلاً بأجساد كثيرة، أو أكثر مما يمكن لرجل واحد أن يكون. وكانت ملامح شخصيته تتشكّل من خليطٍ غير متكافئ، بين جذوره الريفية التي تضرب بعيداً في عمق الجنوب، وبين تكوينه المديني الذي أكسبه انفتاحه على الآخرين وعمق ثقافته وتنوع صداقاته، والذي أتاح له الانخراط في عملية التغيير السياسي والاجتماعي التي وجدت ضالتها عبر أحزاب اليسار المنضوية تحت لواء الحركة الوطنية اللبنانية.
وفي صخب التظاهرات الطلابية والشعبية الحاشدة كان عصام يُرفَعُ فوق الأعناق ليردّد بصوته الأجش، ونبرته الحماسية العالية، الكثير من الهتافات التي نظّمها بنفسه، وتحوّلت إلى لافتات منصوبة، على مفارق الطرق وشعارات سياسيّة، ومطلبيّة تردّدها حناجر الآلاف من شهود ذلك الزمن، وصانعي أحلامه التي أجهضتها الحرب.

في مراحل حياته اللاحقة، كان أستاذاً وناظراً عاماً في ثانوية رمل الظريف، وملحقاً في وزارة الإعلام وواسطةً لعقد الجلسات في المقاهي، ظل ينظّم باستمرار خطوط دفاعه عن الفرح، ويعيش الحياة في درجة الغليان، غير آبه بالطعنات المتلاحقة التي أثخنت جسده بالجراح وروحه بخيبات الأمل.
عبر عقود من الصداقة واللقاءات التي لا تنقطع لم يحدث لنا أن وضعنا تصوّراً للمدينة من دونه، للنساء من غير التماعة عينيه الشبيهتين بعيني نسر، للأماكن من غير ضجيجه فيها، وللمواعيد من غير أن نضبط تلهّف قلوبنا على وقْع قدومه الكرنفالي. فهو صنّاجة المدينة وربيب ظهيراتها التي لم يكف منذ أربعين عاماً عن رفدها بأسباب البهجة والمرح والحضور الأليف. وهو المصوب دائماً إلى جوهر المعنى، حيث سهام التوريات اللماحة لا تخطئ الهدف.
وحين كانت مقاهي الحمراء تقفل واحدة بعد أخرى بفعل الهجوم الضاري لحركة رأس المال المعولم، كان يترأس حملة البحث عن مقهى جديد يحتضن جمهرة المتحلقين حول «مدير مسرحهم» اليومي، قبل أن تطيح به المشاريع الأخرى المدرة للربح السريع.

وكان المجلس قابلاً للاتّساع باستمرار بازدياد عدد الباحثين، بعد إحالتهم على التقاعد، عن أماكن لتصريف الأعمار وعن كنف يعصمهم من العزلة واليأس وصقيع الكهولة الزاحف. ولأنه ارتضى بالدور الذي أناطه بنفسه في مُداراة أحزان الآخرين، والتربيت على مواطن آلامهم والتحوّل إلى حائط دائم لمبكى القانطين من أترابه، فلم يكن عنفوانه المكابر ليسمح له بالتشكّي والتذمّر والبكاء أمام أحد من جلساء المقهى. على أن الدموع التي تخثرت في محجريه ما لبثت أن تحدّرت من عينيه إلى قلبه، ومن قلبه إلى رئتيه، ومن رئتيه إلى كبده. وبينما كان جسده ينوء بشراهته للحياة وإدمانه الانتحاري على التدخين وتحديقه الذئبي في طرائد الشهوات العصيّة على الافتراس.
على الصعيد الإبداعي كان عصام العبدالله يضيق بشعر الشروح والمطولات والتفاسير، ويميل في المقابل إلى شعرية اللقى الثمينة والذكاء اللماح. ولأن الشعر عنده هو «اصطيادٌ لبرق الرأس»، على ما يقول أنسي الحاج، فهو لم يترك وراءه سوى مجموعات ثلاث كتبها جميعاً بالمحكية «البيضاء» التي رأى فيها سبيله الأمثل لقطف اللغة من منابتها وبراريها الأم، وطريقته الفضلى لإعادة الشعر إلى كنف الكهوف التي خرج منها في مطالع تكوّنه.
والأرجح أن اختياره للمحكية كان وليد مكابداته الشاقّة مع الفصحى، التي نظم عبرها مقطوعات على الوزن الخليلي لم ترُق له، ولم يجد فيها ملاذه الأمثل وضالته المنشودة.

وهو ما يفسّر الظهور المتأخر لديوانه الأول «قهوة مرّة» الذي أصدره بعيْد الأربعين من عمره. وربما جسدت المحكية توقاً عميقاً لاستعادةِ عالم القرية الذي تم خسرانه، بوصفها «ريف الفصحى» وفناءها الطفولي الخلفي. ولم يمنعه افتتانه بتجارب الرحبانيين وسعيد عقل وميشال طراد وطلال حيدر من التطلع إلى اجتراح لغته الخاصة التي شرّع أبوابها على ثقافة العصر ورياح الحداثة الوافدة.

وظل يحرص باستمرار على المواءمة بين الصورة البصرية ذات البعد الحسّي المشهدي، وبين الرنين الصوتي للحروف التي يحوّلها إلقاؤه المميز إلى ما يشبه الطقس الصوفي البحت.
أما ميله الواضح إلى التأليف الحاذق والبلاغة المحكمة فكانت تخفف من وطأته نيران الداخل وجيشانات الروح وتلقائية اللغة المحمومة. فالشعر عنده هو ذلك الترنّح الماكر بين الكتابة والإيماء، بين الهندسة والفطرة، وبين جمرة العروق ووردة التشكُّل. وهو نصّ البقاء الذي ترسمه في الصيف نِمال الأشكال وتدّخره لشتاء المعاني:

«سطر النمل/ أول كتابه عالرمل/ ما طوّلِتْ/ مارقْ حدا إسمو الهوا/ ومرات إسمو الريحْ/ شافو النمل/ خاف ومِشي/ من مطْرحو عالزيحْ/ وتْخربط المعنى/ وصار النملْ تحت الرملْ/ صار الحكيْ تلميحْ.

والشعر أيضاً هو ما تهيئه الأنوثة في مناماتها للنساء اللواتي ينضجن ببطء على نار التهيؤات الموارة بثمار الفتنة المغوية: «دقّ السهرْ عالنومْ قلّلو فْتاحْ/ جايبْ معي تفاحْ/ ونسوانْ متل الكستنا/ بْيحلو إذا ناموا على تخْت الجمرْ/ بْيحْلوا وبيصيروا عسلْ/ متل البلحْ/ بينام/ بيفيق الصبحْ صايرْ تمرْ».
على أن أجمل الأشعار التي لم يدونها عصام العبدالله في دواوينه هي تلك التي كانت تصدر عفو الخاطر عن بديهته السريعة وقريحته الحاضرة، ويطلقها بشكل متلاحق على موائد المنادمة وصالونات المجالس وطاولات المقاهي. فهو شاعر المشافهة بامتياز وصياد المفارقات المباغتة والسائس الأمهر لأحصنة الفكاهة الساخرة التي لم يتوقف عن ارتجالها حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت غيبوبته بقليل.

ولم يكن أمراً بلا دلالة أن ينتقل عصام العبدالله على مقلبيّ الأرض من «مقهى الروضة» إلى «روضة الشهيدين»، في إحدى أكثر استعاراته دلالة واكتظاظاً بالرموز. وليس أمراً بلا دلالة أن يختار مثواه الأخير في المدينة التي منحته أبهى سني عمره، ومنحها إحدى أجمل ما حظيت به المدن من قصائد: «ما في مْدينه إسمْها بيروتْ/ بيروتْ عنقود الضّيَعْ/ لما استوى بالصيفْ والسكّر لمعْ/ طلْ الصبي عالحيطْ بدّو يقطْفو/ جاب العصايه ولوّحا/ صابو…/ وقْعوا الضّيَعْ/ وتْفرفط العنقودْ/ حَبّه ورا ضيعه ورا حَبّه/ وقْع العنبْ/ بعدا العريشه مشبّكي/ والخيط حدّ الخيط/ وبعْدو الصبي عالحيْطْ».

صورة ذات صلة

عُرف بجليس الشعر ومؤنس المقهى وتوأم الأرصفة البيروتية

عصام العبدالله كتب آخر سطر من حياته باللغة العامية ورحل

 

بيروت ـ «القدس العربي» ـ من سعد الياس: طوى الشاعر عصام العبدالله صفحات سنواته الطويلة التي صرف بعضها في «الخوف والحلم والشجاعة والجبن» كما قال في إحدى مقابلاته الصحافية، حيث «مرقنا بحرب 20 سنة بلبنان، عشنا فترة يفاعة جميلة هي عز بيروت وغوايتها».
وكما كان يحب التكلم باللغة العامية هكذا كان يكتب قصائده بعد عزوفه عن كتابة الشعر بالفصحى، رغم إدراكه أنّ رواد القصائد العامية قلّة ليُقال عنه إنه «وارث» ميشال طراد، وسعيد عقل، والأخوين رحباني، وطلال حيدر.
والشاعر العبدالله الذي صرعه المرض هو ابن بلدة الخيام الجنوبية، لكنه ولد في أنطلياس وكان ينتقل في الصيف إلى بلدته، حيث تأثر بأجواء الأحزاب العلمانية والقومية، قبل أن يتفرّغ للكتابة والجلوس في المقهى. وكانت بداية كتاباته بالفصحى قبل أن يتجه إلى العامية. وديوانه الأول عام 1982 «قهوة مرّة» ليتبعه بعد 12 عاماً بـ«سطر النمل» ومن ثم «مقام الصوت» عام 2009.
وفي شرحه لخصوصية اللغة المحكية اللبنانية قال «الفصحى هي ابنة الملك، المحكية هي ابنة البواب، خصوصية المحكية هي أنها ابنة البواب وسيدة أولى في الحفل الملكي، حيث يصعب أو حتى يستحيل أن ندعو ابنة البواب إلى الحفل الملكي، فهي تدخل وهي الأحلى وهي الأجمل، لأن ابنة الملك التي هي الفصحى تكون قد دخلت مع أبيها وفي ظله، بينما الأولى تفتح أبواب الممالك».
ولم يرَ الشاعر اللبناني أن اللغة المحكية اللبنانية ستجعله غريباً عن محيطه العربي، حيث اعتبر في حديث صحافي «أن المحكية اللبنانية هي محكية الهلال الخصيب: لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، تعاملهم كلهجة «شامية» واحدة، تبقى الدول العربية الأخرى التي نام مثقفوها في فنادق بيروت، «وكرعوا» من حرياتها حتى الثمالة وتفاهموا مع الرحابنة وفيروز. ليست بيروت، كلهجة، غريبة عن العرب، لذلك يفهمونها ويحتفلون بنا عندما يسمعوننا».
وكان عصام العبدالله قد أحبّ بيروت وكتب عنها قصيدة باللغة المحكية جاء في كلماتها « نقّط قلم الله حبر..صارت السماء.. وتجمعت.. وتجمعت صارت بحر.. وصل البحر على الشط وتمشى.. ونسّم هوا رملة.. وقع الرمل بالمي صارت أرض.. طلع السمك على البر يتشمس.. كثروا بيوت الناس.. كثر الشجر.. شايف كأنها بديت الحفلة وسميتها بيروت.. طلعت من رموش الزبد كأنها كحلة.. ما في مدينة اسمها بيروت.. بيروت عنقود الضيع.. لما استوى بالصيف والسكر لمع.. طلع الصبي على الحيط بده يقطفه.. ما طال بيه يقوله نزيل.. إمه تقله هلأ بتوقع..عفريت يمكن هالصبي وما كان عم يسمع.. جاب العصاية ولوحها صابه وقعوا الضيع.. وتفرفط العنقود، حبة وراء ضيعة، وراء حبة.. وقعوا على ثيابه وتوسخوا جيابه.. وقع العنب بعدها العريشة مشبكة.. والخيط حد الخيط وبعده الصبي على الحيط».
وسيوارى الشاعر في روضة الشهيدين اليوم وتُقام ذكرى الأسبوع في بلدته الخيام.
وقد رثاه الكاتب عقل العويط بقوله «الشعر حزينٌ منذ الصباح. حزينٌ ومكسور الخاطر. أغصانه المنحنية ستنحني أكثر، لكنها ستنحني بكِبَر، وهي تأبى البكاء علناً، لكنها ستبكي بأوجاعٍ وحساسين كثيرة. لأن عصام العبدالله، بضحكته العريضة، وصوته المهيب، وقامته العالية، لن يكون حاضراً اليوم في المدينة. لا في الصباح، ولا في المساء. فهو قد آثر أن يأوي قبل الأوان، إلى ليله، بعد طول معاناة، تاركاً للظلال أن تلعب لعبتها، وأن تخاطب المدينة باللغة التي تستعيرها من خيالاتها الهاربة. لقد مات الشاعر. مات عصام العبدالله، جليس الشعر، ومؤنس القهوة والمقهى، وحليف الرفاق، وتوأم الأرصفة البيروتية الحميمة، الباسق المرتعش مع النجوم، المسهِّر أرق الليالي، والموقظ الفجر المهيب، والمرافق الغروب المتأوه، إلى مثواه».
كما نعى اتحاد الكتاب اللبنانيين الشاعر بقوله « يفقد اتحاد الكتاب اليوم ركناً أساساً من أركان جمال التعبير وبلاغة التوصيل وعمق الرؤيا وعذوبة الكلام؛ «اتحاد الكتاب اللبنانيين» فقد البهي والجميل والطيب الشاعر عصام العبد الله». وأضاف «بغيابك يا عصام، الكلمة أرملة ثكلى، ونحن أيتام نبكي جمال شعرك وروعة حضورك. رحم الله عصام العبد الله، صديقاً وفارس شعر وعنفوان وجود ».

 

نتيجة بحث الصور عن عصام العبدالله

غياب عصام العبدالله شاعر القصيدة اللبنانية باللغة المحكية

شعره مجبول بقضايا الناس وبعشق حبيبته «بيروت»

*** مرثيّة كلود أبو شقرا – جريدة الجريدة الكويتيّة

«لا أخشى الموت بل المرض، أفضل أن أموت كما الفارس الذي يمتطي صهوة جواده، وفي لحظة ما يقع عنه ويرحل، بصمت وكِبر، وليس على فراش المرض»… هكذا ردد الشاعر اللبناني عصام عبدالله في أكثر من مناسبة، وهكذا رحل منذ يومين، تاركاً الفراغ يملأ زاويته في المقهى البيروتي الذي اعتاد الجلوس فيه يومياً واستقطاب دائرة واسعة من الأصدقاء (شعراء وكتّاب وفنانين وصحافيين)، يتحلقون حوله ويناقشون قضايا تنطلق من الشعر وتنتهي في السياسة…

الشاعر اللبناني عصام العبد الله أحد ابرز رواد الشعر المحكي اللبناني، وقع عن صهوة جواده بصمت وترك مدينته الأحب إلى قلبه بيروت، ورحل متجاوزاً عتبة الزمان ومتخذاً السحاب وما وراء شفق البحر الذي صادقه وبثه شجونه سنوات عمره كلها، مسكناً له حيث تهيم روحه غائصة بين بيت وقصيدة في سرّ هذا اللامرئي الذي أمضى حياته يتساءل حوله ويتوق إلى سبر أغواره.

ابن بلدة الخيام الجنوبية، عاش الشاعر عصام العبدالله (مولود سنة 1941) حياته في بيروت ولم يتسنّ له الإقامة طويلا في مسقط رأسه، بحكم عمل والده، إذ كان جندياً في الجيش اللبناني ومن ثم أصبح شرطياً في بيروت، وكان يزور فترة الصيف، مع ذلك نسج في طفولته علاقة جميلة معها، وارتسمت في ذهنه على مدى الأيام ذكريات جميلة عن طبيعتها وعادات أبنائها وتقاليدهم…

في بداية مسيرته، انتسب إلى أحزاب علمانية وقومية، وكتب شعراً بالفصحى، قبل أن يهجر القصيدة سنوات طويلة، ويعود إلى كتابة الشعر بالطريقة المحكية، فبرع فيه وأصدر دواوين ثلاثة: «سطر الرمل»، «قهوة مرّة»، «مقام الصوت».

هاجس الوقت صرف عصام العبدالله أيامه يقرأ ويكتب ويتظاهر ضد الظلم ويحلم ويعشق ويناجي الله، وسكب كل ذلك في شعره المطبوع بهاجس الوقت، فهو يتطلع على الدوام إلى المستقبل ليقينه بأنه سيصبح لا محالة في ساعة ما ويوم ما جزءاً من الماضي، لذا انصرف بكليته إلى عالم الشعر واتخذ من اللغة المحكية مساحة تعبير وإبداع، رغم أنها أصعب من الفصحى، برأيه، باعتبار أن الأخيرة تتمتع بثروة لغوية زاخرة بالألفاظ والتشابيه فيما المحكية تشبه الطين، وعلى الشاعر قولبتها، فضلا عن أن للفصحى تاريخاً من الإبداعات يعود إلى آلاف السنين فيما اللغة المحكية لا تاريخ عريقاً لها، إنما حققت حضورها بفضل بضعة شعراء، مع ذلك استمرت.

يعتبر عصام العبدالله أن إحدى خصوصيات اللغة المحكية وخطورتها أنها تتقولب وفق ظروف أهلها وأهوائهم، وهي في هذا السياق حركة يومية تتآلف مع الناس وتتغير وتتبدل، فيما الفصحى مؤبدة بجمالها وحضورها ونظامها.

سعيد عقل، طلال حيدر، ميشال طراد، الرحابنة وغيرهم من الشعراء الذين صاغوا شعراً باللغة المحكية، كل هؤلاء حفظ لهم عصام العبدالله موقعاً في فكره وبين أسطره، فحضروا بشكل أو بآخر في خفقات أبياته، وبين اهداب عينيه، وسار على طريقهم محافظاً على قيمة شعرهم، وراسماً لنفسه خطاً يتميز بخصوصية البوح الممزوج بشغف الحياة والتطلع إلى ما وراءها… وطالما وصف الشاعر الكبير سعيد عقل بأنه مهندس اللغة المحكية، وطلال حيدر بأنه صديق وكان حضوره مقنعاً له لمتابعة هواجسه بالمحكية.

بعد نظمه مئات من الأبيات باللغة الفصحى، ضمنها آراءه السياسية، ولج عصام العبد الله عتبة المحكية ليقول فيها كلاماً صعباً، فالشعر بالنسبة إليه يحلق فوق جغرافيا النفس البشرية، إلى أماكن لم يصلها أحد بعد، معتبراً أن المحكية تحمله على أجنحتها إلى تلك الأماكن، ويمكنه من خلالها رفع الصوت عالياً بوجه الظلم والعبودية والاضطهاد.

بيروت الغواية لبيروت في قلب عصام العبدالله المكانة الأبرز، فهي الحبيبة الدائمة الشباب، المغناج على شاطئ المتوسط، المشرئبة على الغرب والمتطلعة بشوق نحو الشرق، جمالها أيقظ نزعة الطمع عند كثيرين فحاولوا تشويه وجهها الجميل في سنوات الحرب الطويلة، لكنهم لم يفلحوا، وبقي عصام العبدالله يرسمها في شعره حبيبة رائعة الجمال، فدت الدماء التي تساقطت على أرضها وفي شوارعها مستقبلها، فحافظت على مكانتها الثقافية في الشرق والغرب، حتى أن كبار المثقفين العرب يشعرون بنقص ما إذا لم يقفوا على منابرها… هذه بيروت عصام العبدالله، بيروت التي تردد شوارعها صدى خطواته، من شارع الحمرا إلى أزقتها إلى منطقة الروشه… وتخبئ في حناياها صدى صوته ينشد عالياً قصيدته «بيروت» التي يقول مطلعها:

«نقّط قلم الله حبر../ صارت السماء../وتجمعت.. وتجمعت صارت بحر../

وصل البحر على الشط وتمشى../ ونسّم هوا رملة../ وقع الرمل بالمي صارت أرض../ طلع السمك على البر يتشمس../ كثروا بيوت الناس../ كثر الشجر.. / شايف كأنها بديت الحفلة وسميتها بيروت..».

نتيجة بحث الصور عن عصام العبدالله

“قهوة مرة” مع عصام العبدالله

*** مرثية عواد ناصر

في زيارة خاطفة لبيروت التقيت الشاعر اللبناني عصام العبدالله، لأول مرة، في مقهى اصطفاها ولم يبرحها، هو ومن اصطفاهم جلاس دردشة خفيفة أو تبادل أحلام أو تأمل المدينة العنيدة، مثل بيروت. عصام مدمن مقاه، ما إن يغادر مقهى حتى يكتشف أخرى. المقهى عنده وطن صغير يسيّر به شؤون قلبه. حياته تتألف من مقاه وقصائد.

لم يكن اللقاء إثر موعد مسبق ولا هو لقاء عمل، إنما بدافع شخصي يتلخص برغبة ملحة أن التقي الرجل ولو لدقائق قد تنفتح على صداقة، في ما تبقى من سنوات عمر، لكلينا.

سألت صديقاً: كيف لي أن ألتقي بعدد من فناني وأدباء لبنان، في بيروت، مثل فلان وفلان وفلان. منهم من التقيتهم أثناء إقامتي في بيروت الحرب الأهلية ومنهم لم ألتق به من قبل. قال صديقي: ثمة أكثر من مجموعة. كل مجموعة ولها مقهى.

حسناً لنبدأ بالأقرب والمتيسر.. هكذا انطلقنا إلى تلك المقهى، لتناول “قهوة مرة” عنوان أحد دواوينه، مع عصام العبدالله، الشاعر الذي تصدر لائحة من أحببت لقاءهم، وهناك رأيت من لم أتوقع رؤيتهم. إنها “خصوبة اللامتوقع” حسب تعبير الألمانية حنة أرندت.

على طاولة العبدالله كان زاهي وهبي وعند طاولة قريبة كان عباس بيضون وعلوية صبح وآخرون.

حقاً، يمكن أن تنطلق شرارة الصداقة “من أول نظرة” كما الحب، إذ الصداقة رديفة الحب، فهي تمهد له وترافقه وتعيش معه كتوأم.

فوجئ عصام عندما أخبرته بأنني نسخت إحدى قصائده في دفتر “كشكول” منذ ثمانينات القرن الماضي. كانت منشورة في صحيفة لبنانية. سألني شو عنوانها؟ أجبت: “قهوي”. ترسم فيها شخصية بنت وحيدة قاعدة بالقهوة.

برغم أن قصيدة العبدالله لا يمكن أن تجتزأ بمقطع لأنها مبنية بإحكام مثل حكاية قصيرة، لكنني سأجترئ وأجتزئ:

“مين زعلو تا فج تفاح الحكي/ورجّ المسافي البين شعرك والبكي/مين زعّلو، وينو؟/الجابلك قلم ع العيد حتى يرسمك/ويعلّمك/وعلَّق مرايا بينك وبينو”.

التمتعت عينا عصام بطفولة لم تزل متوقدة.

اعتذر زاهي بلطف لبناني معهود لأنه مضطر للمغادرة فقلت له مازحاً: “خليك بالقهوة” تيمناً ببرنامجه التلفزيوني الناجح: “خليك بالبيت”.

نظلم عصام العبدالله إذ نصفه بأنه شاعر عامية أو محكية، فهو يدرك أن ليس ثمة شعر عامي وشعر فصيح، بل ثمة شعر فقط. لكنه، بحسه النقدي وخبرته الثقافية يشير إلى أن ثمة “زجل” يقوله قوالون، فيه من الشعر أو ليس فيه من الشعر.

..وعصام، بإحساس حاد بالجمال، يلقم قصيدته بانعطافات مفاجئة، مثل كمائن الصيادين ليصطادك، مثال ذلك ورد في المقطع السالف:

“…وعلَّق مرايا بينك وبينو”. يأتي الشاعر بصورة مدهشة وإن بدت غير مألوفة. لكن “غير المألوف” هذا هو إحد مباهج الدهشة.

مثل شاعر كرّس حياته وشعره لمعضلة الحرية، فهو يلخصها بحكاية قصيرة أخرى من حكاياته المُحكمة:

“مرقت حدّي/سألتن عنها/قالوا هَي بنت الحرية/ماتت أمها هِي وزغيري/وربتها اللبوة البريّة/رضعت منها لبن الحورية/وصارت أحلى منها شوية”. قصيدة العامية اللبنانية، على أيدي أساتذتها الكبار من الرحابنة وطلال حيدر وإيليا أبي شديد وجوزيف حرب اشتغلتْ على ردم الهوة الفنية والتقنية بين العامية والفصحى حتى أن قارئهم، أو سامعهم، يجد نفسه بأزاء شعر لا هتافات ولا “حسچة” تختصر القصيدة إلى عاطفة محلية، بهذا البلد أو ذاك، إنهم عصبة مبدعة مخلصون للشعر حتى العودة إلى البداهة، البداهة المنسية، غير المعروفة التي تبدو معروفة.

يقول عصام العبدالله إن القصيدة نافذة تطل على العالم، وهو يؤكد هنا إنها رؤية كونية، لا لبنانية ولا مصرية ولا عراقية وإن كُتبت بالمحكية.

في العراق، وحده، جرى الفصل العنصري بين القصيدة الشعبية والفصحى، فنشأت كانتونات لغوية وجد كل من الشاعرين، الفصيح والعامي،

نفسه غريباً عن الآخر برغم الأخوة التقليدية بين الأثنين وأبوهم الشعر.

مظفر النواب حقق ذلك برغم إغراقه في العامية المحلية جداً “حسها شدهني ولذت بالجاموسة” أو “هيلك صلف كلش صلف/ تلني ولحس بعراني” استعصب عراقيون هذه اللغة فكيف بالعرب؟

عالمية أي فن تنبثق من محليته. ومن يستزد المزيد فليبحث.

“اللغة” اللبنانية التي أراد لها سعيد عقل أن تكون بديلة للعربية الفصحى بدعوة شوفينية غير موفقة لم تضف إلى اللهجة اللبنانية قيمة فنية أو تاريخية، فهي لهجة شعرية بحد ذاتها من دون تنظير قومي أو محلي ولنا فيما غنته فيروز، بكلمات الرحابنة، وزملائهم، مثال حي على حيوية تلك اللهجة وقد أعيد إنتاجها شعراً مغنى عبر العقود.

انفضت جلسة “القهوة وغادر كل إلى لغته، مع نفسه أو مع أحد مفترض، بينما كنت أتمتم من قصيدة “قهوة” لعصام العبدالله:

“من بعيد شايف الباب انفتح/ومرق الهوا/يمكن بنت يمكن جريدي مارقة/يمكن شبح/سلم على كراسي الحكي/وفات التقح/ع الطاولة اللي

ناطرا حدّي/قعدت بنت وحدا/وأنا وحدي(…) حتى قوله: “كَلَّا ع بعضا مزكرفي/ شعرا مثل رسّام عميرسم عتم بالعاصفي”. آمل أنك لم تنس ذلك اللقاء الخاطف يا عصام. أنا لم أنسه.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏جلوس‏‏‏

عصام العبدالله في آخر “سطر النمل”… “تعلق مثل التحف مثل القمر”

*** مرثيّة جريدة الأنباء الكويتية 

“صوتك/ لما وقف عا صوتك العصفور/ وهز تحتو غصنك الكحلي/ لعب الهوا بيناتكن/ صار الهوى اتنيناتكن/ صار الطرب شو تقول للعصفور/ وصار الشعر شو بدك تقللي”.

طوى دواوينه ورحل، عصام العبدالله شاعر المحكية اللبنانية، ابن الجنوب الذي ما نام يوما الا على كتف قصيدة، أنهى “سطر النمل” ومضى.
عرفته بيروت وارصفة الحمرا ومقاهيها، هناك حيث ترك “مقام الصوت” و”قهوة مرة”.

تميز بقصائده الساخرة تماما كما شخصيته، فكان العصف الدائم والوهج الذي لا ينطفئ، لكنه قرر الرحيل كي لا نقول الغياب، فالشاعر لا يموت متى بقي في المطبعة حبر وفي الحناجر وتر.

وداعا عصام العبدالله، وبكلماتك نختم: “ما بعرفن/ ما شايفن/ لفوا وجوهن بالقهر/ خبو سلاحهن بالوعر/ خبو اساميهن/ ما في حدا بيشوفهن الا اذا ماتوا/ وتعلقوا مثل التحف مثل القمر/ عم ينخطف من عندهن/ صاروا عدد مثل الخطر مارق على سهل الجمر”.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏‏‏‏محيط‏، و‏سماء‏‏، و‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏، و‏ماء‏‏‏ و‏طبيعة‏‏‏‏

أيها الأب والأخ والصديق ،والشاعر، والنبيل، واللمّاح، والظريف، والكريم، والشاهق،
تتجاذبني أحزان موتك، حتى الألم، ولا شيء يعوّض فقدك الموجع..
رحمك الله يا صديقي، وأسكنك فسيح حبّه وغفرانه،
عصام العبد الله.. يا فارس المدينة، والكلمات الطازجة، ها أنت تكتب لنا، آخر سطر، وتهاجر كالنسور
بأمان الله أبا حازم.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏2‏ شخصان‏، و‏‏منظر داخلي‏‏‏

إلى عصام العبد الله.. ضـــــــــــــــــاع الحكي!!..

*** مرثيّة عبد الحليم حمّود – موقع شطرنج

“ربط ال تَ

ع شكل صرّة..

وفلّ

تيصير حرّ

وكلمتو حرة

لحِق سطر النمل..

ع مهل

تـَ يشرب قهوتو

مُرّة..

نقَف عالسما ليرة حجر

ضاع الحكي

بين نقشي وطُرَة.

 

عصام العبد الله وداعـــــــــــــــــــــــــــــــــــاً

*** مرثيّة فلاح أبو جوده – جريدة النهار

عرّفني الى الشاعر عصام العبدالله عمّي المرحوم الصحافيّ ميشال أبوجوده . وكانا يشربان القهوة معًا صباحًا في مقاهي شارع الحمرا ويتبادلان الأحاديث المتنوّعة ، ثم ينتقلان مع غيرهما الى مكتب ميشال أبوجوده في الطابق السادس من مبنى جريدة “النهار” حيث ينعقد الصالون السياسي الأشهر في بيروت في النصف الثاني من القرن العشرين .
وكان عمّي يحمل اليّ أحيانًا أشعار عصام العبدالله على شكل قصاصات من الصحف والمجلّات ، إلّا أن الهديّة الأكبر كانت كتابه “قهوة مرة” عام ١٩٨٢ ومعه كاسيت لونها برتقالي يقرأ فيها عصام من شعره مع مرافقة موسيقيّة لزياد الرحباني .
وظلّت هذه الكاسيت رفيقتي في السيّارة وفي فترة سفري لسنوات طويلة تقمّصت فيها شعر عصام وطريقته في الإلقاء إلّا أن صوتي لم يكن يشبه صوته الجهوريّ ولهجتي لم تكن كلهجة أهل الخيام المحبّبة .
ولا زلت أذكر قصيدته “سفر التكوين ” حيث يصف فيها مراحل التكوين فيقول : “طلع السمك عالبرّ يتشمّس” . و يوم قرأتها – وكانت مادة الانتروبولوجيا التي درستها في فرنسا لا زالت متخمّرة في رأسي – عاجلت عمّي وقلت له : كان عليه أن يقول : “طلع السمك عالبرّ يتنفّس” ، فأعظم تطوّر حصل في حركة التكوين هو تحوّل الجهاز التنفسي من خياشيمي الى رئوي .
فحملها عمّي “طازة ” الى عصام الذي أعجب بها .
ويوم دفن عمّي ، جلس عصام قربي في منزلنا في الزلقا وقال لي : طلع السمك عالبرّ يتنفّس .
وفي سياق الحديث قلت له : “شعرك مهمّ بس فيك شي أهمّ من شعرك ” فنظر اليّ متسائلًا وقال لي “ما هو؟” . فقلت له : “أهم شي فيك صوتك” .
فهزّ رأسه مستغربًا .
وفي كتابي ” على سيرة النوم ” لم أجد في وصف الغيبوبة أروع من وصف عصام العبدالله لعاصي الرحباني على سرير المرض في قصيدة “سطر النمل ” :
“حطّ القلم عالطاولة ،
حطّ الورق ،
حطّ ايدو حدّهن ،
راسو متل شي مملكي ومطفيّة ،
مأكّد مرق منصور عبالو ،
بينو وبين الباب في فشخة،
بينو وبين خيالو !”
وكانت الصُوَر في شعر عصام العبدالله غير مفتعلة رغم غرابتها :
“ونسوان متل الكستنا
بيحلو إذا نامو على تخت الجمر
بيحلو وبيصيرو عسل
متل البلح بينام ، بيفيق الصبح صاير تمر …”

أو حين قال عن مدينة صور :
“هاي صور
جبّة وعمامة وناس من بخّور
ما تصدّقو
شايف ضَهَر قرصان
اللي استغربو وعم يسألو وينو
يمكن عم يفتّش على عينو …”

ويوم استقبل زاهي وهبه الشاعر سعيد عقل في برنامجه، راح يعرض عليه اسماء شعراء وكان على سعيد أن يبدي رأيه بكل شاعر بكلمة واحدة : ولمّا جاء دور عصام العبدالله قال : “شعرو بيشبه الله “. فاستغرب زاهي وهبه وظن أنه لم يسمع جيّدًا وأعاد عليه السؤال فسمع الجواب نفسه.
مات عصام العبدالله وظلّ شعره حبرًا وصوتًا، و لهجةً جنوبيّة محبّبة تتردّد بين السطور وتكحّل الكلمات :
“مش سامعك ،
بدّن وقت ت يسكتو
ووقتَك معَك “.

صورة ذات صلة

 

سكتت كل الأقلام عن الحكي…

*** مرثية ليلى رحيل – نادي الخيام

عصام العبدالله.. شاعر اللهجة المحكية، عَصَر كل الكلام الذي يُحكى وقرأ الزبدة قصائد شعرية.. ورحل…

اليوم…سيشرب الكل” قهوة مرّة” بعد أن سقاها للكل حلوة الحكي والصوت والنبرة والحضور…

اليوم… فقدت جلسات الروضة والمقاهي روحها.. روحك التي كانت حرة هناك…

قال.. أنا فلاح في اللغة.. اللغة أرض الثقافة… وفي الشعر أو الأدب لي حديقة ربما صغيرة.. ولكنها تعجبني…

عصام عبدالله… شاعر لا يشبه سواه..أعاد تركيب العالم على هواه وطريقته… كتب اللغة التي ولدت معه كلونه وشكله وقامته…

لا يشبه غيره… حكى شعره في ” كاسيت” ورندح صوته مع بيانو زياد رحباني والساكسفون…

عصام عبدالله…وارث ميشال طراد..سعيد عقل..الأخوين رحباني وطلال حيدر… ترك المدينة اليوم حزينة… تفتقد حضوره ضحكته وهامته…

عصام عبدالله.. البارع في قيادة التظاهرات وتأليف الهتافات… الذي تحدّى ابنة الملك بابنة البواب… والذي بقي منتصب القامة متحدياً مرضه… تحداه هذا اللعين في النهاية…

تمنى لو أنه من الفراعنة الذين حفروا قبورهم في السماء…عصام عبدالله.. أنت الفلاح الذي حفر في كل تراب الأرض.. وفي كل حروف اللغة.. وفي بساتين كل الحكي.. سيحفر اسمك في قلب كل من يقرأ….

شو بحبها وقت الل بتشيل الحكي من عبّها وتحكي…

شو بحبها قبل الضحك بعد البكي…

وقت اللي هيي ملبكي.. شو بحبها…

هيي اللي شالتني من عبّها ووشوشتني: لازم تغني…

وستحفر روحك الحلوة في قلب كل من يقرأ…

بحبك متل نزل الشتي عليي…

وما عاد فيي لمّ…

بحبك متل ولد وفزع…

وفتّش ع ريحة أمّ….

عصام عبدالله… قبل 9 أشهر، في نادي الخيام الثقافي الاجتماعي حكيت عن رفيق عمرك.. عن الشاعر الراحل محمد عبدالله.. رشيّت عنو عطر الحكي اللي بعدو فايح بالنادي….

اليوم عم نرش عطر لغتك وهامتك وضحكتك… نشالله نكون عم نعرف نحكي عنك.. باللغة اللي بتحبها.. وبالقدر اللي بستحقو…

خسارة لهذا الوطن… خسارة للخيام… لعائلتك.. لأهلك.. لأصدقائك ومحبيك الكثر… للكل.. من نادي الخيام الثقافي الاجتماعي.. الذي آلمه خبر الرحيل… أحر التعازي القلبية…

وداعاً… عصام عبدالله….

* ليلى رحيّل (عضوة في الهيئة الإدارية لنادي الخيام الثقافي الإجتماعي)

 

 

في صحبــــــة عصام العبـــــــد الله

***مرثيّة عبّاس بيضون – الأخبار

أمضيت السنوات الأخيرة في صحبة عصام العبدالله، وأقول في رعايته. كنت ألتقيه مرتين في اليوم، وإذا غبت لطارئ أو غاب أحد غيري، سأل عنه وسأله عن سبب غيبته، فعصام هو مرجع الشلّة وهو مسؤول اللقاء، الذي يبدو في أحيان كأنّه من تأليفه أو نسقه. فهو بالتأكيد عائلته الثانية وجماعته إذا جاز التعبير. ذلك أني لم أعرف شخصاً كعصام أقام من الرفقة حياة كاملة، ومن الصداقة حياة يوميّة بل لا أعرف شخصاً مثله جعل من الحياة نفسها فنّاً.

عصام العبدالله يعطي الحياة حقّها، فكل ما وجد وما حدث سبب لمتعة وسبب لتسلية. كانت الحياة بالنسبة لعصام لعباً فذّاً، تمضي يوماً بيوم من متعة إلى متعة. الرفقة متعة والوحدة متعة والسهرة متعة كما النوم. هكذا كان عصام يدلّل الأشياء وتدلله الأشياء، فهو أبداً مدلل الكون وهو الذي جعل من الكلام والرواية والحديث والإصغاء لذّة. لقد جعل لكل ّيوم برنامجاً وصيغة يمضيهما خليّ البال، عارياً من الهموم. في كون منذور للشقاء، استطاع عصام أن يجعل منه إجازة أو نزهة، فكان على نحو أو آخر سعيداً وأليفاً ولا تستفزّه الحياة أو تملؤه رعباً وفظاعة. كانت الحياة عادته التي تربّى عليها وألفها وألفته، فلم يكن للموت مكان لكنّه، مع ذلك، كان محسوباً، على الدوام، ومؤجّلاً بالقدر ذاته.
لا نستطيع أن نتكلّم على عصام العبدالله من دون أن نتكلّم على شعره الذي كانت تلاوته في بعض تضاعيف السهرة عندما يخطر لشاعره الذي بحسب روايته نظمه من الذاكرة، وبقي من ذلك الحين في ذاكرته. كان محل تقاطع بين الفصحى والعاميّة وكانت تلاوته في بعض فسحات السهرة إحدى متعه ومتعنا معه. كان هذا الشعر بالمحكيّة اللبنانيّة، لكني لا أظنّ أنّ عربياً، مهما يكن مصدره، يفوته أن يفهمه أو يتعثّر بمعانيه ومفرداته. كان انتقال عصام العبدالله إلى الشعر المحكي أحد إشراقاته، بل أحد تجلّياته. لقد انتقل الى المحكيّة عن طريق الشعر نفسه، الشعر الذي يسبق اللغة، وفيما هو يصنع ذلك، يؤلّف لنفسه لغة. كان شعره على هذا النحو محل تقاطع بين الفصحى والمحكيّة، كأنّه هكذا قبل اللغة أو بعدها. هذا ما جعل الشعر عند عصام العبدالله، لا يكتب فقط بلغة وسطى، بل إن هذه اللغة المقتلعة من اللغة هي وبدرجة أو أخرى محكومة بعيار الشعر. وهي هكذا موقوفة على الشعر نفسه. هكذا كان عصام ينظم قصائده من كلام وجد للشعر أو جعله هو كذلك. ربّما من هنا سلاسة هذا الشعر وطلاوته وقابليته لأن يلامس الأسماع، خاصّة إذا تذّكرنا إلقاء عصام الذي يقرأ شعره كأنّه يتذوّقه أو كأنّه يتحسّسه. يقرأه بشهوانيّة لا تلبث أن تنتقل إلى سامعيه، فيتلذّذ هؤلاء ويتذوقون الكلام والإيقاعات والقوافي.
شعر عصام على هذا النحو يندرج في المحاولة اللبنانيّة لتوليد شعر من المحكيّة لا يصدر عن التراث الزجلي. كانت هذه المحاولة تقوم عند ميشال طراد مثلاً على توليد موسيقى خاصّة بالعاميّة. محاولة عصام كانت تقوم بموازاة الفصحى وتماثل تجربتها في تجديد الشعر وخاصّة في قصيدة التفعيلة.
توقف عصام العبدالله عن الشعر في سنواته الأخيرة. لقد ألّف الشعر في رأسه وهو يقود السيّارة أو يتمشّى. كان الشعر آنذاك طريقة للعيش، وحين لم يعد كذلك انصرف عنه.
الآن غادرنا الّذي كان عمود اللقاء ولا ينعقد اللقاء بدونه. انفرط اللقاء أياماً لكنه عاد على مهل. غياب عصام جعلنا نكتشف أننا نشكلّ شيئاً، لنسمه لقاء. سنجتمع على وداع عصام، وكنّا من أسبوع التقينا على وداع الشاعر الزجلي خليل شحرور الذي لم يكن فقط من أهل اللقاء، بل كان إلى جانب ذلك مثلاً للدماثة والشهامة. إلى أين ستنتهي بنا الوداعات، أم أنّنا كلّ مرّة نودّع أنفسنا؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عصام العبدالله شاعر الصوت و «مقامه »

*** مرثية أحمد المديني – صحيفة الحياة

لا أتذكّر بالتحديد متى تعرّفت إلى «أقدم شاب في بيروت» كما كنت ألقّب الراحل المبجّل، الشاعر عصام العبدالله، ذاك أن ألفتي ببيروت وناسها، والأحبة والأصدقاء فيها بخاصة، كانت – ولا تزال – تشعرني بأني مقيم فيها، ولم أغادر أو أهرب عندما اندلعت حربها المهلكة. بقيت أتردد عليها طيلة سنوات الاقتتال الأهلي، وأجوب شوارعها وحاراتها بين الانفجارات والرصاص الملعلع، ولا أعرف بالضبط لم أصرّ على القدوم اليها، ولا عم أبحث، كذلك إلى اليوم. بيد أن منارتي الأسطع لي في هذه المدينة التي بلا نظير في الدنيا، كانت وتبقى صديقي التاريخي الشاعر بول شاوول، عندي هو ملك بيروت، غربها وشرقها، بلا منازع. من أبواب «قصوره» وفي رحاب أبهائه تعرفت وعرفني القريب والبعيد، القاصي والداني، الطافي والعميق فيها، ثم شاءت الأقدار بعد أن يصبح لي فيها بيت وأهل، واثق الخطوة في مرتع الحسب والنسب، إنما الحب والصداقة أغلى وأعذب الثمار فيها. وهما من أسلمني لمعرفة الرجل بلا ميعاد أو ترتيب، الصداقة ليست صفقة. إنها هبة من الله، أو كالقصيدة من جن عبقر.
والصداقة في بيروت، المقهى عرشها، وكما كان عرش بول شاوول في مقهى» الاكسبريس» إلى أن أقفلت، وعصام محفوظ « الويمبي» إلى أن بدأ مشوار الغياب، كان لعصام العبدالله عرش في كل مقاهي» الحمرا»، هو السيد، ومن حوله رعية، لا يحكم، انما يحدب، يحن، يهتف، يأسى، يصهل، ولا يحقد أبداً، ويغضب غضبة مضرية من غير أن تقطر الشمس دماً. لا أذكر متى صرت من «الرعية» طواعية، أنا المتمرد على كل الرعاة. ها أنذا أصل ليلاً إلى بيروت، ومن غداتي، قبيل الظهيرة بقليل، وكأنما لم يغمض لي جفن، أَمضي كالمسرنم إلى «كافيه دو باري» في قلب الحمرا، في صف متجر الأحذية «ريد شو» وقبالة «مودكا كافيه» اندثر، إذا الطقس صحو، دافئ، أجد السيد في الباحة، غالباً المجلس طاولات في هيئة زاوية قائمة، والسيد في الصدارة. وشتاء بالداخل في ركن نصف معتم، والمجلس بحضرته منعقد. محفوفاً بأدباء المدينة وفنانيها، أكتفي بصحبي هم صحبته: رشيد الضعيف، عباس بيضون، جودت فخر الدين، علوية صبح، احسن العبد الله، زاهي وهبي، شوقي بزيع، أحياناً، ومحمد العبدالله شاعراً ومتمرداً ترجّل باكراً… وكثيرون، يمرّون، لكنّ الخاصة قلّة، وهو أفضل.
كأنه عرفني في حياة سابقة، كأنك عرفته دائماً. أول إقبالي ينفتح صوته الهادر مرحباً يسبق أحضانه «ولك أهلا أهلا، بأحمد المغربي»، هكذا صار يسميني، ليطلب لي القهوة مباشرة وهو يفسح لي في المجلس. وبقدر ترحابه تكبر أو يتواضع استقبالك في المكان، الحفاوة مدخله، والابتسامة بساطه، والكلام بأصوات وأنواع وأشكال ومحتويات وإيقاعات وإشارات وتلميحات زاده ومهاده وعماده. هنا عليك أن تتعلم الإنصات، وأن تغربل الكلام، وأن تصيخ السمع، بخاصة حين يتكلم عصام. قبل الكلام لهيئته حضور، جسداً وقامة ووجهاً بملامح كأنما نحتت في جبل، تراه مرة واحدة ولن تنساه، لأنّ للشكل، للهيئة صوتاً، إيقاعاً، هدوءاً وتصميماً في النظرة، مقدمة لما سيأتي، يأتي الحديث كلمة واحدة، عبارة، يمكنها أن تينع وردة، أو تكسر الصخر، أو قذيفة، أو تتموج، سيحملها الصدى إلى أبعد مدى والأسماع معها محمولة. كم يصعب أن تعود إذ يستلم غيره الكلام، لأنّه هو المجلس والأب والأخ والصديق والحاني الحادب الراعي للجميع، بمن فيهم وبينهم أنا الذي أصبح حضوري في مجلسه فرض عين، أو فلا بيروت، لا عرب، لا شعر، لا فن، لا فروسية، فهذا شاعر فارس، مبدع وراوية، جلساؤه، لم لا ندمانه. حديثه مسكر أحياناً، تطرب إذ تتذوقه، فإن غضب أحد لا يلبث أن يطيب، أو هو نفسه يعود ليطيب خاطره. والخاطر فسيح هنا بأعمار الصبر والتأمل والثقافة والهوى والشغف والرسوخ في تراب التاريخ والحضارات، كلما تكلم عصام أو نديم سقاه فأخصبه. والشعر، دوماً لواء يفتح بقاع الأزمنة المقبلة، والوجوه الملاح خفية وهلال قوس قزح تطلّ من عينيه، وعوض الاستسلام لغيمة الدمع في العينين، من شدة الوجد وحرقة الحنين، تجلجل ضحكته، ومباشرة من فيه تخصب الأقوال والأمثال، مثل طارق يجعل البحر وراءه ووجهه إلى الجبل الذي ولد فيه أمامه، ولا أحد، حتى جودت الذي لا ينفك يدوزن على مربعات ورقته عروض قصيدته المقبلة، يستطيع أن يحدس متى سيصدح كليم المتوسط ومقهى الروضة، هو فوهة البركان.
كلما جالسته قلت تأخر به زمانه ليعيش في زمن ملفق، مليء بالفقاقيع والطحالب والشهب الاصطناعية، والشعر المترهل والأخلاق الرثة. وما هو هنا إلا ليحمي قيماً ستندثر بعده بل وإبان حياته، ليحمي ما تبقى من تاريخ بلاده، وما لم يبع في مزاد مدينته، وليكون ربما الرائي الأخير لبحر بيروت، أنشدها أقوى الشعر وأجزله محكياً، جهورياً، مرسخاً تقليداً هو أحد رواده، مبدعاً لشعرية تأتلف فيها الفصحى والعامية، وتتغذيان بأبلغ ما تملكان؛ شعرية لحمتها وسداها موهبة متفردة، هي ما ملك عصام العبد الله، وبها تفرد، ولن تعوض، كمجلسه عند بحر بيروت في «مقهى الروضة»، قبل أن يوارى الثرى في «روضة الشهيدين»…
الآن بيروت أصغر، والأرض أقل، والشعر سيذبل، وقمر مشغرة بعد بدر وادي التيم لا أشك سيأفل، ويتمنا فقدا إثر فقد يتيتم، وإذ أعزي أصدقائي لى لبنان برحيلك أعزي نفسي، كما تحايلت أمس طبعاً على نفسي بعد رحيل مكاوي سعيد، سيد القاهرة وعمدة «زهرة البستان»، وسأتحايل من الآن عليّ كذلك، أوهمني أني ما زلت حيّاً… بعد كل الخراب الذي حلّ بِنَا نحن العرب، يكاد البقاء يشبه العار، لذلك شرف لك عصام وانت نزيل «مقام الصوت» ديوانك الفريد، أن تمتطي جناح الرحيل. إلى اللقاء أيها الجبل الأشم، الفذ، الشاعر الأصيل.

أبـــا حـــــــــــــــــــازم… وداعـــــــــــــــــــاً

*** مرثيّة إلياس العطروني – جريدة اللواء

رحل عصام العبد الله لم تستطع ضحكته المجلجلة وحضوره الطاغي المؤنس، ومجلسه المميز، وشخصيته التي تمخر عباب القلب.
كل ذلك لم يجعله ينتصر على صراخ الجسد وعلله فأدار ظهرها لنا على غير عادته وانطلق إلى عالم الغيب مخلفاً وراءه ذلك الفراغ الكبير في عالم الحضور.
يا ابا حازم.
يا صديقي.. سنفتقدك، سيفتقدك كل من عرفك وجالسك، ستفتقدك حتى مقاعد مقهى الروضة. وستبقى في الوجدان ذكرى جميلة مولودة من رحم الشعر والفرح والحضور الفاعل.
يرحلون مخلفين صخب الغياب المتوقع.
خلال فترة مرضك كنا نظن انه ربما بلغ شأنه وقويت شراسته فلن يستطيع انتزاعك منا وسلخك سلخاً عن من احبك.
لمن العزاء؟..
للعزيزة أم حازم ولعائلتك أم لنا نحن الذين عرفناك عن قرب وعرفنا فيك نقاء القلب وطيب السريرة وجمال الحضور.
أنت الآن بين يدي الله عز وجل قد تجد هناك شلتك الخاصة ومجلسك المرح.
أيها الصديق الشاعر الذي امتلك اللغة من نواصيها والشعر من قطافه.. والحب من كل من عرفه وداعاً.
نتيجة بحث الصور عن قهوة مرّة مع عصام العبد الله

إتّحــــــــــاد الكتّـــــــاب اللبنانيين ينعى الراحــــل عصام العبد الله

*** مرثية د. وجيه فانوس – أمين عام اتحاد الكتاب اللبنانيين

«اتحاد الكتاب اللبنانيين » يفقد اليوم ركناً أساساً من أركان جمال التعبير وبلاغة التوصيل وعمق الرؤيا وعذوبة الكلام، «اتحاد الكتاب اللبنانيين » فقد البهي والجميل والطيب الشاعر عصام العبد الله.. بغيابك يا عصام الكلمة أرملة ثكلى، ونحن ايتام نبكي جمال شعرك وروعة حضورك..
رحم الله عصام العبد الله صديقاً وفارس شعر وعنفوان وجود.

نتيجة بحث الصور عن قهوة مرّة مع عصام العبد الله

باسم «صالون العشرين»، ودّع شاعر المحكية سمير خليفة، الراحل عصاد العبد الله بالتالي:

مشّ أوّل مرّه بيهجم الموت عَ صالون العشرين وبيشلحّو شاعر من شعراء والكبار عصام العبدالله شاعر صالون العشرين الاول صاحب سطر الرمل ديك العرب حمل صوتو الختيار ومشي

ضلّ يضحَك ت قفي

كان مطرحو بيناتنا صار مطرحو فوق بين هلْ الغيمات وحدّ النجوم العاليي

كان مهر الشعر صار مهر السما

باشق كبير جوانحو طوال من الغيمه لَ الغيمه من هون شايفينو ملقّط بنجمه بيضا وعم يزيّنا ت تصير عروس

عصام مات وما عرف ما حدا منّا استرجى يخبرّو ولا يوم شفناه زعلان عطول عم يصحَك عم ينكّت وازا بتسالو عن الموت بيقلّك متل النعس متل النوم بعد التعب ساعه ع ايد ملاك

ويمكن عصام يكون مات اكتر من مرّه وما قلنَا ولا يوم قلنا آخ ولا يوم ودّعنا ولا يوم قلنّا انا رايح عطول كنّا نشوفو جايي متل الجبل متل الحلم جايي

عصام حلم وطار علاّ كتير

مرَق العمر بكّير من حدّو وما اشتلق انّو مرق كان ملهي بالقدس بسطر النمل

كان وحدو عم يظبّط نومتو عَ التخت

كان عم بيلمّع تيابو ت تصير تلبَق لَ مشاويرو البعيده

قصايدنا حزينه والشعر من بعدو ضيعه يابسه

عصام عرف يسوع جايي ع الارض سبقو ع المغاره ونام بمزود القشّ صار يسوع الشعر صليب الكلمه قبالو شعَرا نضاف وحدّو معلف نجوم

باسمي واسم صالون العشرين الادبي منو دعّك طا عصام ومنقلّك ونحنا بعيد الميلاد السما حلوي

حلوي كتير عملا لعِبْتَكْ.

نتيجة بحث الصور عن قهوة مرّة مع عصام العبد الله

خَيَّــــــــــــــــــــــــــــــــــال……

***مرثية علي نصّار

 

خيّال مَرّْ وقال

ملعون شغل البال…

… وهالعُمُر رَحْ فَلّْتو!

غَرَّب حَمام القلب

بَعْزَقْ غِلّْتو.

هالعمر رح فلتو…

تا شوف، مِنْ بَعْدي،

لَمِينْ بَدُّو الصُبُحْ يِهْدِي طَلّْتُو؟!

خيّال…

… وبالبال

تْفَرْكَشْ جَبَل تَعْبان

بِ عُمْرْ اْنْطَفا

وَقَّعْ جْنَيْنِة صافْيِة

مِتْلْ الوفا.

دواوين الشعر تخسر قلماً من أقلام العصر...برحيل شاعر "المحكي" اللبناني عصام العبد الله بعد صراع مع المرض

*** مرثيّة بنت جبيل

فاجعة حطت رحالها في دواوين الشعر اللبناني، فبرحيل الشاعر اللبناني عصام العبد الله، خسر لبنان كما المكتبة العربية، قلماً أبدع في فن نظم الحرف. وقد توفي اليوم بعد صراع مع مرض عضال.
يبصم له كل من عرفه بروح النكتة وحسن الخلق، وهذا ما بدا جلياً في كتابات، ابن بلدة الخيام، التي حملت الطابع الساخر. ورغم أنه نظم القصيدة “الفصحى”، إلا أنه اشتهر بدفاعه عن القصائد باللهجة المحكية، التي تفرّغ لكتابتها.
ويذكر أن الشاعر الجنوبي ولد في انطلياس عام 1941. وخط ثلاثة دواوين هي: “سطر النمل”، و”قهوة مرّة”، و”مقام الصوت”.
وتعلقاً على خبر وفاته كتب الشاعر بلال شرارة: “( تخربط سطر النمل ) فقد انضباطه و اتزانه ، لم يعد من ( مايسترو ) يراقب خطوه و خط سيره ، تفرقت ايدي سبأ ( تنعفرنا  ٠٠  كل واحد ذهب الان على حل شعره ٠٠ ياويلنا   ) ذهبنا كل واحد من عسكر ( الزيح )المدنيين جداً بإتجاه مختلف و أعصاماه.
هل كنا نحن اساساً هكذا ؟ كنا اشجع من الموت و لم نفكر به ٠٠لم نكن متفقين على خاتمه  ؟ ٠ ٠ فقط  كنا نجتمع على طاولته حيث مملكته و حيث حكاياته و خبرياته  و موضوعاته و تعليقاته و آرائه ٠٠ نجتمع او نتفرق على و عن خبز و ملح كلامه  ٠ كان يأخذ بأيدي الجمع القليل الى هنا و هناك يقلب الميمنة على الميسرة ، يتقدم بنا او يتراجع المهم ان يمضي الوقت او اننا نمضي ٠
انا ربما كنت مسكوناً بالتمرد ، كنا اصدقاء الداء ، ( يعني حبايب ع طريقتنا ) ، في السابق كان يوجه انظاري حتى لا تسرقني الظروف نحو ان فلاناً في المستشفى او ان هناك معرضا لفنان تشكيلي او فنانه ما تستحق او يستحق التشجيع او ان فلاناً يوقع كتاباً شرط ان يتم ذلك بعد القيلولة ( يا الله ماعاد معنا مصاري ٠٠ معارض ٠٠ وتواقيع ) ٠ هذا العام غاب عصام عن توقيع ابن عمه التنوخي المير طارق آل ناصر الدين  و هو لم يكن بيده حيله غاب عني رغم مراراتي من انه حزين وانا عاتب ٠غاب بسبب انه يقيم في العناية الفائقه في المستشفى ٠
كان صعباً ان نصل اليه ٠ هو كان يعرف ان ساعته قد دنت وانه لا يريد لاحد ان يرى ضعفه و هو الذي كان يتفاخر علينا دائما بطوله و نصوصه و ثقافته  و بانه خلطة سحريه حملها غريب عجيب في سلة القرى الى المدينة – العاصمة !
بيروت ٠٠كم كان يحب بيروت ٠٠ يريدها ان تكون تعبيراً عن سلامنا مع انفسنا ٠ انا اعترف لم انسجم مع ذلك لأنني بَرِيّ تربيت مع الدواري وصرت أقلدها في كل شيئ الا في طيرانها  ٠
الان ينصرف عنا عصام سوف لا يأتي بعد ذلك الى امكنته ، وانا عودت نفسي منذ زمن على عدم الاقتراب اكثر من اعمار من هم اكبر مني وهم علموني الحكي و اللون و قد كنت أفقدهم على التوالي و ابادلهم  بأني حمال الأسية : عمي عدنان ، الزين شعيب ، زهير غانم ، اسعد سعيد ، جوزيف حرب ، حيدر حموي ، عبد الرحمن الابنودي ، غازي ناصر ، ياسر جلال ، والحبيب خليل الشحرور و الأعز عصام العبدالله ٠ هل نسيت احداً ؟
اقول غداً سوف لا اجد من يدفنني ، يكتب لي مرثية ٠ و انا صرت رقيقاً لا احتمل ان تقع على دفتر قلبي كلمة او ان تقع من عيني دمعة كلمة.”
كما كتب الشاعر شوقي بزيع على صفحته: “عصام العبدالله, الضحكات التي خلّفتها وراءك تهيم على وجهها في عراء العالم.الدعابات والطُّرَف اللماحة لن تجد بعد من يرتجلها في غياب الساحر .برحيلك ينفرط عقْد المدينة والنهارات التي أخليتها تلتفُّ في ملاءاتها السوداء كالنساء الثواكل . بعدك لن يعود شيءٌ كما كان.”
.أورغ

نتيجة بحث الصور عن قهوة مرّة مع عصام العبد الله

عصام العبدالله … كرّم الوطن بأدبه ومشى، فأين واجب القيّمين؟

أذكر حين كان يدخل إلى معارضي منتصب القامة وبتواضع الأب، وأبتسم حين يُطلق عليّ أحدهم أيّة صفة بقصد التغزّل، فيردّ عليه: إنّها فنّانة لها لقب. ليس من عادتي أن أدخل الشّخصي في مقالاتي، لكنني اكتشفت أن الشّاعر الذي تركنا، كم كان قريباً.

عصام العبدالله … كرّم الوطن بأدبه ومشى، فأين واجب القيّمين؟

دَقْ الربيع رايحة عالعيد

وبإيدها بَرق الشعر

اﻹلماز تاني إيد..

شّاعر الّلهجة المحكيّة عصام العبدالله، يلقي القصيدة، يغنّج الكلمات، يبتسم لها، يغازل حبيبته، فتطلع الآه من أصدقائه المعجبين بشعره وإلقائه. إلقاء عصام هو الشّعر نفسه. ابتسامته شقيّة حين يتغزّل أو يتحدّث مع حبيبته بطلة القصيدة.

عصام العبدالله، طلع إلى “مملكة فرعون” كما كان يحلم ويقول، بأنه يتمنّى أن يبني مملكته في السّماء كفرعون. بالتأكيد لن يتحمّل فرعون، وسيبني مملكته الخاصّة، أمّا على الأرض فمملكته كانت طاولة في مقهى، يستمتع بجمعة الأصدقاء، والنّقاشات والطرائف والشّعر، حتى أنه لا يلبّي دعوات السّفر ولا يرغب بها إلا إذا كانت بهدف رؤية أولاده، بينما الآخرون يبنون أحلاماً وممالك في الهواء، باحثين عن الفرح البعيد عن متناول اليد. لذّة عصام كانت في قمّة التواضع، وفي الوقت نفسه، أغنى ما يستطيع المرء الحصول عليه. طاولة في مقهى وأصدقاء.

جمدت الضّحكة على وجوهنا حين قالوا إنه لن يأتي إلى المقهى، تركنا ورحل.

إسمي عصام“إسمي عصام” هذا أوّل شرط للجلوس مع الصّديق عصام العبدالله. يُجيب أي زائر جديد:”ولكن أنت شاعر كبير واحتراماً لك نناديك بأستاذ، فيجيبه “أبا حازم” إن الاحترام ليس بالضّرورة بالألقاب. التخلّي عن الألقاب والرسميّات، قرّبت عصام من كل زائر، أو ضيف، أو صديق على طاولته، رغم أنه أيضاً كان يرفض أن تُسمّى الطّاولة باسمه، لكنه كان أكثر الروّاد التزاماً بالوقت، الثّامنة تماماً من يرغب بالمرور سيجد عصام موجوداً. من يأتي زائراً من البلاد العربيّة يبحث عن تجمّع للمثقّفين، يجده على طاولة العبدالله؛ وكما قال بكلمته في تكريم عصام العبدالله، الشّاعر الفلسطيني تميم البرغوثي، “جئنا أنا ووالدي (مريد البرغوثي) نبحث عن مكان لنا في بيروت، ضائعين لا نعرف أحداً، وجدنا عصام، أعطانا وطناً ورحل”.

المقهى ملعب الكلمات

لطالما شبّه عصام العبد الله المقهى بملعب الكلمات

لطالما شبّه عصام المقهى بملعب الكلمات. هناك من يلعب بالكرة ونحن نلعب بالكلمات.

لن أتحدّث عن قيمته الشعريّة بالشّكل الكلاسيكي، ولست الشّخص المناسب لذلك. سأتحدّث عنه كما هو. هو أكثر من شاعر، هو حال في مدينة بيروت- شارع الحمراء، و”الفرع الصّباحي” مقهى الرّوضة المطلّ على بحر بيروت.

لكن أنا شخصياً ومعظم الوقت، كنت ألتقيه مساءً في الشّارع الذي أكاد لا أتجوّل بغيره في المدينة. شارع يكبو ويصحو؛ هو دائماً شوكة في عين السياسة المحرّضة على الطّائفيّة وعدم التّعايش.

مقاهي الحمراء الثّقافيّة، أُقفلت مقهى بعد آخر، وبدلاً منها فتحت محلات تجاريّة تصفر خالية من الزّبائن والحياة. أصبح عصام وأصدقاؤه كمهجّري الحرب، يتنقّلون من مقهى إلى آخر. كلّما أقفل مقهى، يضحكون ساخرين من أنفسهم، يهزّون رؤوسهم، ويتهجّر معهم روّاد المقهى وزوّارهم الذين يلحقون بهم، ويسألون عنهم أينما حلّوا، وحتى النادلين يستأنسون بطلّتهم اليوميّة ويستفقدونهم إن تأخّروا ولو لدقائق.

(أضعف الإيمان، أن يبقى مقهى يعلّق صورَهم ويُسمّي الطّاولات بأسمائهم كما الدول المحترمة).

شقيّ حتى أواخر السّبعينات

المقهى للمسامرة وثقافة من نوع آخر. في آخر جلساتنا، دخل الشّاعر شوقي بزيع سائلاً عصام عن حاله وكان يعرف بأنه يعاني من توعّك. أخبرنا عصام كيف طلب نزع المصل ليذهب إلى المقهى، ويَعد الطّبيب بأن يكمل العلاج في اليوم التّالي. ينفث سيجارته، فأرمقه منتقدة عمله هذا؛ يُجيبني: “وأنا ليه بطلع من المستشفى يا بابا؟ لإجي عالقهوة دخّن وإشرب قهوة”، أضحك لعبثيّة وشقاوة هذا الصّديق الذي لا أشعر بأنه يكبرني ولا حتى بيوم واحد، وألتذّ بذلك.

تتدفّق القصص التي يخبرنا إيّاها شوقي بزيع، والمقالب التي كان يقوم بها عصام ليُفسد علاقات الأوّل الغراميّة، حين يتلفّظ أمام صديقته بكلمات تثير شكّها.. نضحك كثيراً ويضحك بزيع مُردّداً: لولا تلك المقالب كيف كنّا سنراكم الذّكريات؟

أُعلّق بدوري موجّهة كلامي لعصام العبدالله: طول عمرك شقي ولم تتغيّر.. يضحك بهدوء الولد الذي لم يكبر، مُسلّماً لأمره المفضوح.

قهوة مرّة ولا أرشيف

هات يا عصام أسمعنا قصيدة. لا يبخل بالاستجابة، فتأتي حسب المناخ، سلسة. يلقي القصيدة باللهجة المحكيّة بشغف، ويلعب بتعابير الصّوت بسهولة، صاحب البرنامج الإذاعي في الإذاعة اللبنانيّة “قهوة مرّة” وإن سألت الأرشيف الآن لما وجدت تسجيل حلقة واحدة لديهم، وهذا حسبما أخبرني إيّاه في إحدى الجلسات، وحتى برنامجه وحلقاته التلفزيونيّة العديدة أيضاً. يُكمل قصيدته بابتسامة شقيّة:

بِدِّك تْنَامْي تا يِجِيْ لَيْكِ لِمْنَام/ ردّي الْبَرَادِيْ عَيْبْ/ بْتِلْبَقْلِكِ عْيونْ الغَجَرْ/ تِتْفَرّجْ عْلَيْكِ/ رِدّي الْبَرَادِي عَيْب/ حتّى الْقَمَرْ مَمْنُوع/ ممنوع إنّو يِفْتْكِرْ/ هايْ فِضّتو بِقْيِتْ عَ إيِدَيْكِ.

تجلس إلى جانبه أو بالمقابل منه الروائيّة وصديقة العمر علويّة صبح مبتسمة بهدوء. يطلّ الشّاعر حسن العبدالله، لا يُلقي التحيّة، بل يدخل بأي موضوع آني مباشرة، يبتسم لي عصام ونتغامز على قريبه، الآخر الذي لا يكبر أيضاً، رغم أنني أتّفق معه بأفكار كثيرة، لا تروق لعصام ونتهامس عليه أحياناً، وأضحك حين يقول لي حسن: شو بدّك فيه.

الشوكولا لنقاش لذيذ

أُطلِع من حقيبتي الصّغيرة بعض ألواح الشوكولاتة بالتّدرج كي تستمرّ المفاجأة، وبعد أن يتأكدوا من أنّها سوداء ولن تؤثّر على الصحّة نأكل جميعاً، تطلع تعابير كثيرة، وأعمال فنيّة تُذكر، على طعم الشوكولاتة اللذيذ.

نتحدّث عن فيلم ما، وعصام كان مولّع بالأفلام العالميّة، والوثائقيّة، وكنا نتّفق بذائقتنا الفنيّة.

يتذكّر أحدهم قصيدة، أُسأل عن لوحة ما، أو عن فنّان أرادوا أن أتعمّق أكثر بالتّعريف عنه. كم هو لذيذ أن نتحدّث عن موضوع تشكيلي، مع شعراء مشاكسين، نقوم بالخلطة العجيبة بين التشكيل والشّعر والسّينما والموسيقى ووو.. أنظر إلى تعابير وجه عصام، فأجد علامات الرّضى.

شعراء الجنوبعصام العبدالله واحد من شعراء الجنوب اللبناني، الذين عُرفوا بهذا اللقب أيّام دراستهم الجامعيّة، أتوا من الجنوب وعلقوا بحب بيروت، ونظموا فيها القصائد، وتمتّعوا بالموهبة والوسامة.

كل منهم له خصوصيّته. محمّد العبدالله الذي سبق عصام برحيله، محمّد علي شمس الدين، شوقي بزيع، جودت فخر الدين، وحسن عبدالله، لنا الحظّ أن نعاصرهم، ونسمع ذكرياتهم. كانوا ناشطين سياسياً وفي الحركة الوطنيّة. عاتبته مرّة، بأنهم هم من كانوا وراء اندلاع الحرب اللبنانيّة (طبعاً أنا مخطئة) لكنه أجابني بهدوء وسخرية لعدم تحقّق الأماني: كنا نطمح للتغيير والعدالة. فشلنا.. لن أطيل هنا، فالمكان لا يتّسع. لكن أسأل نفسي الآن: ونحن لا زلنا نطمح للتغيير والعدالة، إلى أين سنصل؟

يأتي السياسي جبران عريجي على عَجَل، وهو المعروف بثقافته ويقول بحماس: أنتم الجنوبيّون هل تعلمون رجل الدّين الجنوبي الذي غنّت له فيروز أغنيتين؟ ويدور البحث والنقاش وتضارب الآراء، وبعد أن يبحث الروائي رشيد الضعيف، ويستمع الشّاعر عبّاس بيضون، تطلع النتيجة.

نأخذ سلفي، كما كل الناس ونزولاً عند رغبة جبران بلهجته الزغرتاويّة.. وبعد الأدب ندخل في السياسة وحين يحتدّ النّقاش، يتدخّل عصام قائلاً: بيكفي هالقدّ، هون السّاحة للعب والضّحك.

ما بعرفن ما شايفن، خبّوا وجوهن بالقهرآخر المقاهي التي رحل عنها رفاق عصام بعد رحيله، كان مقهى عليا، الذي أصبح معتماً وشبه مقفل. هناك كانت آخر لقاءاتنا بعصام العبدالله. وقبل أن أختم ثرثرتي، تخطر على بالي أشياء كثيرة كنت أحبّها بعلاقتي بصديقي وأبي الروحي “بابا” كما كان يحلو لي أن أسمّيه أحياناً.

أذكر حين كان يدخل إلى معارضي منتصب القامة وبتواضع الأب، وأبتسم حين يُطلق عليّ أحدهم أيّة صفة بقصد التغزّل، فيردّ عليه: إنّها فنّانة لها لقب. ليس من عادتي أن أدخل الشّخصي في مقالاتي، لكنني اكتشفت أن الشّاعر الذي تركنا، كم كان قريباً.

أقف مكتوفة الأيدي كولد يرفض فكرة الوداع.

“ما بعرفن/ ما شايفن/ لفّوا وجوهن بالقهر/ خبّوا سلاحهم بالوعر/ خبّوا أساميهن/ ما في حدا بيشوفهم إلا إذا ماتوا/ وتعلّقوا متل التّحف/ متل القمر عم ينخطف”.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏لقطة قريبة‏‏‏

التقينا يوم قدم برنامج ” صالون الإذاعة “عبر أثير إذاعة لبنان لسنوات عديدة ..كان يحاور ضيوفه وعلى مدى ساعة من الزمن بكلام ليس من هذا الزمن , حتى كدت ان اطلق عليه تسمية ” ديك الحكي ” ..
بدأت صداقتنا , عاطفته , حضوره , كلامه , قصائده المحكية وضحكته التي كانت تعم الأرجاء ..
لا أستطيع الآن , ان أتكلم كثيرا عن عصام العبد الله الذي إنتقل اليوم من صالون الإذاعة والمقهى والحديقة والقصائد الى صالون الله الوسع ..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏نص‏‏‏
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نص‏‏

بقلم الإعلامي والمعلّق الرياضي في قناة الجزيرة الرياضية/ ورد عبد الله الابن الأوسط للشاعر عصام العبد الله

صورة ذات صلة

خريطة زمنية للشاعر عصام العبد الله

– 1941 ولد في انطلياس.
– 1958 انتسب إلى حزب البعث.
– 1967 انتهى إلى منظمة العمل الشيوعي.
– 1982 صدر ديوانه الأوّل «قهوة مرة».
– 2009 صدر ديوانه «مقام الصوت» مرفقاً بكاسيت.
– 2011 صدر ديوانه «سطر النمل».
– 2017 وري  الثرى في روضة الشهيدين في بيروت
 ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نص‏‏

 

You may also like