Home لـوثـة إلّاأدب بودلير.. والخصام المرّ مع الذات

بودلير.. والخصام المرّ مع الذات

by رئيس التحرير

أحمد محمد السحّ / مهندس سوري ناشط ومهتم في الشأن الثقافي – دمشق

ليست هي المرة الأولى التي يُنشَر فيها عمل أو ترجمة أو قراءة في شعر بودلير، ولربما كان من هُم قبلي من الشعراء والمثقفين قد غاصوا في أعماق هذه الشخصية ونبشوا مكنوناتها، حتى أضحت فجوات ذاته وأفعاله وشعره مفتوحة المصراعين أمام أي مطّلع وقارئ أو مهتم.
لماذا بودلير؟
 اخترت وبمحض ( الصدفة أو الإرادة ) أن أقرأ في شعر بودلير.. “أزهار الشر” لأنني أودّ إيضاح عدد من النقاط التي تغيب عن بعض الشعراء من أبناء جيلي ولربما من هُم أكبر.
ولست بموقع المعلم أو الأستاذ أو السلطة التي تفرض رؤية خاصة على الشعراء فيما يقولون ويكتبون، ولكن الملاحظات الهامّة التي أريد التأكيد عليها أن قراءتي لبودلير بيّنت أنه من الشعراء المغرقين في حالة ( من الصدق المغَلّف بأوهامٍ وهلاوس )، ناتجة عن نشأته وتربيته وعُقَدِه النفسيّة، التي أصبحتْ مثار جدل وبحث واعترافات شخصيّة من قِبَلِه في ( مذكراته وترجماته ).
نتيجة بحث الصور عن بودلير

شارل بودلير

نبذة..
ولكل من لا يعرف سيرة بودلير أقدم المعلومات السريعة التالية لهدف الاطّلاع لا أكثر قبل الخوض في شعره وتفاصيل قراءته.. ولد بودلير سنة 1829 لأبٍ عجوز وأمّ شابة.
والده محبّ للفنون وقد ساهم في لفتِ انتباهِه لجماليات الفن والنحت خصوصا، وذلك في طفولته.
كان بودلير ووالدته يهيمان ببعضهما حبا ً يصل حدّ الغيرة لكلٍ منهما على الآخر، من مشاركته الحب مع غيره.
ويعتبر أنّ وفاة أبيه وزواج أمّه من آخر، هو أول طعنة اخترقت روحه.
عاش بودلير في مدرسةٍ داخلية، ثم غادرها.
اهتمّ بالقراءة والشعر، وعاش عيشة ترف، ثمّ أصيب بداء خبيث .
استولى على ميراثه وأهدره، وعاش علاقات جنسية غريبة تتراوح بين الحب والمجون.
في العام – 1857 – أصدر ديوانه أزهار الشرّ، وأحدث سخطا ً هائلا ً عليه في الوسط الأدبي.
– أصابه الشلل وعاش آخر سنتين من حياته في مصحات بروكسل ومات في آب عام 1867.
بودلير… إن أيّة محاولة للخوض في تفاصيل شخصيّة لحياة أيّ شاعر عربي، سوف تجدها مغلقة ومليئة بالغموض والتجاوزات من قبل الشاعر أو أسرته.
وذلك بعكس حياة الشعراء الغربيين وعلى الأخص بودلير، إذ ليس هناك أيّ غموض يلف سيرتهم، والمقصود بكلمة غموض هو التستُّر على الأحداث والآلام التي عاشها بودلير تحديداً في حياته، فهو نفسه يفصح عنها في شعره ورسائله ومذكراته، أما الغموض الذي يمكن أن يصيب القارئ هو مستوى التناقض الذي يلفّ انفعالات بودلير تجاه الأحداث.
فهو ليس رجل موقف من حدث، إنه تراكم انفعالات مع أحداث ألمّت به، لم يكن له أيّة يدّ في صنعها وتحديدا ً في طفولته.
نتيجة بحث الصور عن أزهار الشرّ

أزهار الشرّ المجموعة الشعرية الأشهر للشاعر الفرنسي بودلير

فتخيّل طفلاً لأبّ مرهف الأحاسيس ومتأثّر بالفن ولديه حكمة الشيوخ، وأم غاية في الجمال في سنّ صغيرة، من الطبيعي أن يقع الطفل في حيْرةِ جمالين.. جمال الأم وشبابها ( معظم أو كل الأطفال يحبّون أمّهاتهم في طفولتهم أكثر من آبائهم )، وجمال الفن الخالد في النحت ،ولكن هذا لديه سلبيّتين بالنسبة لطفل: فالمنحوتات حجارة صمّاء مهما كان جمالها، فهي لا تملك رشاقة وحركة والدته، وثانيا ً إنه لدليل على هذا الجمال هو رجل ستيني وهو أب وبالتالي لن تكون عوامل الجذب تجاه جمال الفن أكثر من جمال والدته..
إذا ً التصويت المطلق والحبّ المفرط للأم فهي الأمل والاستمرارية والحياة.. ولكن هيهات جاءت الضربة بوفاة الجمال الثاني ( الملاذ – الأب ) وهذه يمكن ابتلاعها، ولكن الجمال المطلق والحب الخالد كان له مصير آخر في الزواج من رجل سيشارك أمه سريرها ويقتسم قلبها لحبّه فلن تعد بالنسبة له أمّه بشريّة بالمطلق، بل عادت مجتزأة وشخصيّة مثل شخصيّة بودلير لا تعرف الاجتزاء ..
ويمكن الاستدلال على هذه النقطة في القراءة التالية: في ” أنشودة الجمال” يبدأ بودلير كما يلي:
أيها الجمال ..
أجئت من أعماق السماء،
أم صعدت من هاوية؟
في مقلتيك جحيم وألوهة،
يخلطان الخير بالإثم خلطا ً مبهما ً.
ويلاحظ من المقطع أعلاه مفرداته وتراكيبه .. أعماق السماء، و هاوية، جحيم، وألوهة، الخير والإثم.
إذا ً لا حلول وسط لديه، فهو إما أن تكون أمّه له بكلّيتها، أو تصبح عدوّة منبوذة.
وهنا عندما تضيق به الحال يتعرّض للقمع في مدرسة داخلية، إذا ً هي الجحيم لروح لا تريد سوى الانطلاق حتى ولو بأجنحة من الجحيم..
ففي قصيدة ” شكوى ” يقول:
في وسط اللهيب..
جناحاي محترقان
إن الجمال يحرق كل مدّع ٍ،
ويحرّم عليّ الشهرة،
التي ابتغيتها بعد الموت
أن ينقش اسمي على الهاوية
المُسمّاة قبري…
هنا سيعرف معنى الجحيم وسيعوّض عن طيران الروح، بطيران الجسد، سيهرب ليصل إلى أغوار الملذّة، سيعيش عيشة ماجن يطلق فيها العنان لجسده، ويصرف الأموال علّها تحمل الروح وتذروها كما كان يذريها هو، وهي حالة أصبحت واضحة بالنسبة للبشر، فإن أغلب الناس حتى في زمننا عندما يكون في حالة فراغ روحي يلجؤون إلى صرف الأموال، وهي حالة موجودة في المجتمعات الغربية أكثر منها في مجتمعاتنا، وأنا أتحدّث عن زماننا هذا كون المجتمعات الغربية تكون فيها شخصية الفرد أوضح.
يمكن أن نلاحظ أن نتيجة غياب التشابك في العلاقات الاجتماعية يلجأ فيه معظم الأفراد للذهاب إلى أماكن التسوّق حتى تصل مراحل الإدمان.
ولكن مع هذا سنصل إلى مفارقة واضحة في حياة بودلير، تُرى هل هو كان راضيا ً بفوضى حياته؟
أم أنه بقي في غربته؟
هل كان بودلير سعيدا ً؟
” ظل فن بودلير غريبا ً عن الفن الأوربي حتى ذلك الوقت الذي عنى فيه أمثال آرثر سيمونس، وجورج مور وغيرهما بنقل آثاره وآثار فيرلين ورامبو إلى الانجليزية فأثارت التفكير من حيث اللغة والتفكير والموسيقى… “.
وهل هذه الغربة من حيث الشكل الفني لأدب بودلير ماذا أعطته؟
صورة ذات صلة

الشاعر الفرنسي رامبو بأحد أعماله المترجمة إلى الإنكليزية

هل أعطته تفرُّدا ً.. ؟!
طبعا ً لا، حمّلته من الألم والإحساس المفعم بالغربة اليومية، عن عالم هو بنفسه يحتقره ويحتقر تدبير الحركة فيه، فالشاعر في طبعه ليس سعيدا ً ..
وعلى مر العصور، وذلك نتيجة لتقدّم الرؤية لدى الشاعر عن الوسط المحيط به، وهذا بحدّ ذاته يشكّل غربة إنسانيّة تجاري المبدع طيلة حياته، ولكن غربة بودلير كانت غربة من حيث الوضع الإنساني الشخصي والغربة الأدبية .. فجاءت غربة مزدوجة.. ” عندما أرادت القوة السماوية أن يوجد الشاعر في هذا العالم الضجر صاحت أمه في كفر وتجديف.
“لماذا لم أحمل في بطني وكرا ً من الحيّات بدل هذا الشاعر المنكود الحظ، لعنه الله” ويجعل بودلير في نهاية النص من الشاعر هدفاً، فهو نفسه يفصح عنها في شعره ورسائله ومذكراته، أما الغموض الذي يمكن أن يصيب القارئ هو مستوى التناقض الذي يلفّ انفعالات بودلير تجاه الأحداث.
أنه لم يكن رجل موقف من حدث، إنه تراكم انفعالات لإرادة نقمة الله، لقد كان أبعد ما يكون عن السعادة، فحياة النزوات الجامحة التي عاشها لم تجعل منه إنسانا ً سعيداً، بل مضطرباً،موهوماً، خائفا ً، ناقما ً، وجاحدا ً، ومحتقرا ً، بسبب تعريته المتواصلة للنفس البشرية، المحنّطة، والمقولبة، في مجتمع مليء بالأقنعة والمخاتلات والخداع، بينما كان يحمل مرآة ً ناصعة الصدق والتشويه لتفضح سرّ الآخرين على الدوام…
خاصّ – إلّا –

You may also like